من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»
TT

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف أصبحت البطريركية في روما مطمعا كبيرا نظرا للقوة الروحية التي تملكها والثروة المتزايدة التي بدأت تتراكم لديها، وهو ما أدخلها في صراعات عائلية عديدة أدت إلى طرد بطريرك الكنيسة «ليو الثالث» من قبل الطامعين في الكرسي البابوي خاصة من أنصار البطريرك السابق، ففر الرجل هاربا مقتنعا بأن الكنيسة بحاجة إلى النصير السياسي/ العسكري الذي يحميها ويحمي شرعيتها، وهو ما دفعه إلى اللجوء للقوة السياسية والعسكرية المركزية والوحيدة في وسط وغرب أوروبا التي يرأسها الملك «شارل الكبير» أو «Magnus Carlos» باللاتينية، أو كما هو معروف في العالم «شارلمان»، ففي هذا الرجل تجمعت أكبر قوة إقليمية مركزية في أوروبا بعد سقوط الدولة الرومانية في 476م، تجمع بين السلطة والجيش والقدرة المالية، وقد كان شارلمان من القبائل «الفرانكية» Franks الذي يرجع لجده الأكبر «شارل مارتل» سبب وقف المد الإسلامي في أوروبا بعد معركة «بلاط الشهداء» في عام 732 ميلاديا، وقد رأي «ليو الثالث» ضرورة إدخاله في المعادلة الأوروبية بشكل أوسع.
حقيقة الأمر أن شارلمان قرر مساندة البطريرك «ليو الثالث» بالقوة العسكرية التي أعادته إلى روما وثبتته على الكرسي البابوي بعد تبرئته من قبل مجمع كبير خُصص للنظر في التظلمات التي كانت موجهة ضده، وفي اليوم التالي استضاف البابا الملك شارلمان في قداس عيد الميلاد لعام 800 في كنيسة «القديس بطرس» الذي شارك فيه رجال الدولة والمراقبون، وبحركة خفيفة وسريعة قام بوضع التاج على رأسه معلنا إياه «الإمبراطور الروماني المقدس»، وهو اللقب الذي انتقل على الفور إلى مملكته وظل قابعا في الفكر الغربي لمدة تقرب من الألف سنة حتى بعدما اندثرت دولته وورث اللقب غيره بأسرع مما تصور الجميع.
وتشير مصادر تاريخية عديدة إلى أن شارلمان لم يكن مستعدا لهذه الخطوة لأنه كان يرى أن جهده العسكري والسياسي هو الذي منحه حق الملك ولم يكن في حاجة لإثبات ذلك من خلال منح دور الوسيط للبابا، فالرجل لم يهدف إلى تداخل ديني في سلطته السياسية المطلقة على مملكته، ومع ذلك فلقد استفاد كثيرا من هذه الخطوة التي وضعته في مصاف الإمبراطور في القسطنطينية وجعلت له شرعية دينية إلى جانب الشرعية السياسية والعسكرية التي استقاها من خلال معاركه وإدارته لمملكته، فلقد رأى في مؤسسة الكنيسة وسيلة لزيادة سلطته وفي المسيحية أداة لزيادة شرعيته، بينما ظهرت مؤسسة البابوية في روما على أنها صاحبة الحق في منح السلطان الزمني، وهو ما توافق تماما مع معتقدات الكنيسة في روما التي كانت ترى في نفسها دون غيرها، تمثيل بطرس الرسول بوصفه «الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة» وفقا لمقولة السيد المسيح. وهكذا استفادت المؤسستان من هذا الزواج السياسي الذي كان من نتيجته تجسيد حلم طالما داعب كثيرا من المفكرين المسيحيين، وهو مفهوم «الأممية المسيحية» أو Christendom أو باللاتينية «Christianitas» هذا الحلم الذي مزج بين الهوية والوحدة السياسية والحضارة والقومية، وهي تيارات قوية للغاية بدأت تتفاعل داخل هذا المفهوم العريض الشامل.
إن فكرة «الأممية المسيحية» إن جاز لنا استخدام هذا التعبير مرادفا لفكرة «Christendom»، ظلت قوة سياسية ودافعا فكريا وعقائديا وسياسيا أثر مباشرة على مسيرة السياسية الأوروبية، بل إنه أصبح لب فكرة «المفهوم الغربي» كما سنرى، وقام باستبدال المفهوم الجغرافي الأوروبي الضيق أو الروماني المحدود وأصبح يمثل شرعية جديدة بدأت تترسخ داخل الشعوب الأوروبية والوجدان السياسي فيها، وأصبح هذا المفهوم يمثل الشرعية السياسية والدينية على حد سواء، فكان الدواء للتشرذم السياسي والعسكري لأوروبا، ولكنه كان أيضا الداء الممتد.. فمن ناحية؛ أصبح الفضاء الجغرافي الواقع تحت هذه المظلة الجديدة يكتسب هويته التدريجية من الديانة المسيحية وفقا لكنيسة روما أو المذهب الكاثوليكي كما أُطلق عليه (معني لفظ الكاثوليكية هنا هو «العالمية»)، أي أصبحت الكنيسة في روما تمثل المسيحية العالمية، وهو ما أضفى عليها المزايا ووضع عليها الأعباء على حد سواء، فلقد أصبحت السياسية الأوروبية تدعو لفكرة وجود إله واحد له ظل واحد على الأرض ممثلا في الإمبراطور، كما أن للسيد المسيح ممثلا روحيا واحدا يجسده البابا في روما، الأول مسؤول عن السياسة وإدارة الدولة، والثاني مسؤول عن الروح وخلاصها في الدنيا والآخرة، بينما من المفترض أن يعمل الطرفان بروح من التعاون والوئام، وهو ما لم يحدث في أوقات كثيرة كما سنرى.
لقد كان الهدف من هذه الخطوة في تقدير الكنيسة هو بناء مؤسسية أوروبية جديدة تهدف إلى إعادة تجديد الكيان الإمبراطوري المسيحي أو المشروع الذي أطلق عليه الـ«Renovatio Imperii»، فكان من نتيجة هذه الخطوة المهمة ظهور نوع من الإقرار بالحقوق الروحية للكنيسة وكل ما يتعلق بقدراتها على تحقيق هذا الهدف فضلا عن الإقرار بامتيازاتها، وفي المقابل، فإن واجب كل الرعية هو الالتزام بحقوق الإمبراطور المطلقة بعد أن أصبح ممثل الرب على الأرض ومنفذ مشيئته السياسية، وإن أي خروج عليه يمثل نوعا من الخروج على الدين، فكذلك استفاد الإمبراطور من هذه القوة الجديدة في مواجهة سلطة رجال الإقطاع في دولته الذين كان لهم نفوذ متزايد وغير مرغوب فيه، كما أن سياسته الخارجية لم تعد تهدف لمجرد توسيع رقعة دولته، بل زاد لها أيضا قدسية جديدة ممثلة في نشر المسيحية وتعاليم كنيسة روما في المناطق الوثنية التي تقطنها القبائل الهمجية التي كانت محرومة من التحضر، وفقا لرؤيتهم. وقد استفاد الإمبراطور أيضا من الكنيسة ونظامها لنقل التجارب الناجحة لهياكلها المختلفة مكتسبا لمسة تحضر ممثلة في الثقافة الرومانية وسبل الإدارة الجديدة التي جسدتها الكنيسة.
لقد سعى ملوك الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى اللجوء لهذه الشرعية الجديدة لتثبيت وضعيتهم على الساحة السياسية الأوروبية بوصفهم الطرف الأقوى في هذه المعادلة مقارنة بالإمبراطورية البيزنطية التي نافستها بعض الشيء في شرعية أهدافها ومذهبها الديني المختلف عن المذهب الكاثوليكي، وحتى مع محاولات التقارب بين الإمبراطوريتين المسيحيتين الذي وصل إلى مداه من خلال زواج الإمبراطور الروماني المقدس «أوتو الثاني» بابنة الإمبراطور البيزنطي، إلا أن المنافسة السياسية والدينية ظلت السمة المسيطرة على هذه الدولة، كما بدأت كنيسة روما تسعى للسيطرة على أغلبية أوروبا وتعمل على تشكيل هويتها السياسية الجديدة، فوفقا للشرعية الجديدة، فإن غرب ووسط أوروبا لم يعد يُنظر لهما على أنهما بلاد «الغال» أو «الإسبان» أو «الفرانكس»، ولكن على أنهما «أمة المسيحية» Christendom. وهكذا ساهم هذا المفهوم الأممي في خلق فضاء جديد من الهوية الثقافية والسياسية والاجتماعية، ووفقا لهذا المفهوم، فإن الفواصل الجغرافية أو الدينية أو الخصوصية الوطنية أو القومية باتت مطموسة في مناسبات عديدة، وهو ما مهد بعد ذلك بقرون لاستبدال مفهوم جديد هو «الحكم الأوروبي» Ragnum Europae، بالمفهوم «الأممي المسيحي»، ولكن ليس قبل الانشطار الديني الذي هز أوروبا بالخلاف العقائدي والسياسي بين الكاثوليكية في الغرب والأرثوذكسية في الشرق.
* كاتب مصري



تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
TT

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)

تكشف تصريحات قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وبلاغات الأحزاب السياسية، عن تركيز على مطلب «تنقية المناخ السياسي والاجتماعي» في تونس و«تنظيم حوار وطني قبل الانتخابات»، كما ورد على لسان نور الدين الطبوبي، الأمين العام لـ«الاتحاد» وقياديين في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة مثل الزعيم اليساري عز الدين حزقي، والمحامي احمد نجيب الشابي، والحقوقية شيماء عيس والأكاديمي رياض الشعيبي. بل إن قياديين في أحزاب تعد قريبة إلى «السلطة» يطالبون ايضاً بـ»الحوار بين الأطراف الاجتماعية والسياسية» بينهم المرشحان للرئاسة الوزير ناجي جلول، الوزير السابق وأمين عام «حزب الائتلاف الوطني»، وزهير المغزاوي، أمين عام حزب الشعب القومي الناصري.

بل إن المحامي العروبي خالد الكريشي وعدداً من القياديين البارزين في حزب الشعب القومي الناصري، الذي يعتبر «الأقرب سياسياً» إلى قصر قرطاج الرئاسي، أدلوا أخيراً بـ«تصريحات سياسية نارية» انتقدت السلطات السياسية واتهمتها بـ«الفشل في تحقيق الشعارات التي رُفعت يوم حراك 25 يوليو (تموز) 2021» وقرارات حل البرلمان والحكومة السابقين.

نورالدين الطبوبي...ابرز الشخصيات النقابية (آ ف ب)

انتعاش الخطاب الشعبوي

خالد الكريشي قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه ورفاقه الذين كانوا قد دعموا بقوة الرئيس سعيّد سابقاً، أصبحوا يدعمون ترشيح زعيم حزبهم زهير المغزاوي، ويعطون أولوية للإصلاحات السياسية «حرصاً على مصداقية الانتخابات الرئاسية المقبلة». وفي السياق ذاته، أعلن المغزاوي خلال مؤتمر صحافي في أحد فنادق العاصمة تونس أنه قرّر الترشح للرئاسة؛ لأن مشروع برنامجه الانتخابي يتضمّن بالخصوص «إقامة نظام ديمقراطي والتصدّي لسيناريو حكم الفرد». أما ناجي جلول فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ تعهد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بـ«توظيف خبراته السياسية وتجاربه السابقة في المعارضة، ثم في الحكومة وفي قصر قرطاج في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي لإخراج البلاد من أزماتها في ظرف 6 اشهر فقط».

واعتبر مراقبون أن هذه التصريحات تكشف الآن عن مدى انتشار «الخطاب الشعبوي» في أوساط عدّة داخل تونس بسبب اقتناع «النخب» باستفحال معاناة الطبقات الشعبية من البطالة والفقر وغلاء الأسعار.

إصلاحات سياسية فورية

في سياق متصل، صدرت داخل الجامعات ومقار نقابات الصحافيين والمحامين والقضاة نداءات من كبار خبراء القانون الدستوري والعلوم السياسية تطالب رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة الداخلية ببدء «إصلاحات سياسية جريئة»، بينها تحرير الإعلام والإفراج عن الإعلاميين والموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

واعتبر الأكاديمي أمين محفوظ، وهو أستاذ جامعي للعلوم السياسية والقانونية والدستورية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس «مهمة جداً، بل قد تكون الأهم والأخطر منذ 15 سنة». ودعا محفوظ الـ8 ملايين ناخب تونسي إلى تجنب مقاطعة انتخابات 6 (تشرين الأول) المقبل كما قاطعوا الانتخابات النيابية والمحلية خلال العامين الماضي، ومثلما امتنع معظمهم عن المشاركة في الاستفتاء على دستور 2022 احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية وعلى «غلطات النخب».

من جهته، أورد عماد الدايمي، الوزير والمستشار السابق في رئاسة الجمهورية، الذي أعلن مبدئياً ترشحه للرئاسة أنه سيعمل على إقناع عموم المواطنين بنجاعة «الرهان مجدداً على أن التغيير يكون عبر صندوق الاقتراع». واعتبر الدايمي أن «الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن تخرِج البلاد من أزماتها السياسية والأمنية، ثم الاقتصادية والاجتماعية، وأن تدفع في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية».

غير أن معارضيه اتهموه بدورهم بـ«الشعبوية» وأطلق من وصفوا أنفسهم بـ«أنصار الرئيس سعيّد» حملة ضده، وذكّروه بأنه كان وزيراً مستشاراً ومديراً لمكتب الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي ما بين 2011 و2014.

وفي سياق موازٍ، تضمن البرنامج الانتخابي لمنذر الزنايدي، الوزير السابق للتجارة والسياحة والنقل والصحة قبل 2011، تعهداً بالقيام بإصلاحات سياسية فورية، بينها «إعادة تحقيق المصالحة الوطنية بين التونسيين بمختلف انتماءاتهم وبصرف النظر عن خلافات الماضي». ويعتبر الزنايدي عملياً المرشح المبدئي الأقرب لـ«الحزب الدستوري» الذي كان في الحكم إبان عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. لكنه ومجموعة أخرى من المرشحين يوجدون خارج البلاد، بينهم الأميرال كمال العكروت، المستشار العسكري للرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي.

الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في صدارة الجدل السياسي والانتخابي. (إيبا)

الورقة الاقتصادية الاجتماعية

في المقابل، تكشف تصريحات الأميرال كمال العكروت عن تحاشي التركيز على الملفات السياسية مقابل محاولة مواكبة «المشاغل المعيشية للطبقات الشعبية». وأعلن الأميرال رهاناً متزايداً على «إنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية» التي استفحلت منذ جائحة «كوفيد - 19» عامي 2020 - 2021، وكذلك تضرر البلاد من الحرب في أوكرانيا. وللعلم، كانت تونس تستقبل سنوياً قبل اندلاع الحرب الأوكرانية نحو 800 ألف سائح روسي وأوكراني، كما كانت تعتمد في توفير حاجياتها من الحبوب والمحروقات بأسعار تفضيلية على وارداتها من روسيا وأوكرانيا.

من جانبه، تعهد الإعلامي والكاتب العروبي أحمد الصافي سعيد، الذي يتهمه خصومه أيضاً بـ«الشعبوية»، بأن تكون على رأس أولوياته الاقتصادية والاجتماعية «تنويع الشراكات الاقتصادية للبلاد عربياً ودولياً»، واستحداث «مدن ذكية» وأقطاب تكنولوجية في العاصمة وفي الجهات؛ ما يؤدي إلى توفير موارد رزق لمئات آلاف الشباب العاطل عن العمل وبينهم عشرات آلاف من خريجي الجامعات والمهندسين الشبان.

واعتبر الصافي سعيد في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «إصلاح الأوضاع الاقتصادية ممكن... ولجوء مزيد من الشباب إلى الحلول اليائسة، مثل الهجرة غير النظامية، يمكن معالجته عبر تنويع فرص التنمية وخلق الثروة وتحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوربي وشركاء البلاد الإقليميين والدوليين حول ملفات كثيرة»، منها «تشديد مراقبة تونس لسواحلها وحدودها البرية كي لا تكون معبراً لعشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً».

التغيير آتٍ

في هذه الأثناء، ترفع النخب السياسية والشخصيات التي أعلنت مبدئياً الترشح لانتخابات 6 أكتوبر المقبل شعارات كثيرة ذات صبغة اقتصادية اجتماعية سياسية، منها «الشعبوي» ومنها «التغييري». لكن الخبراء الاقتصاديين المستقلين، مثل رضا الشكندالي، لا يترددون باتهام هؤلاء بـ«الشعبوية» و«اللاواقعية». ويفسّر بعض الخبراء أزمات تونس الحالية بعوامل عدة، من بينها «حصيلة السلطات المتعاقبة منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2008، وتضرر صادرات البلاد ومداخيل سياحتها وفرص الاستثمار والتوظيف» نتيجة «الانكماش الاقتصادي العالمي، وبخاصة داخل البلدان الأوروبية التي تعدّ الشريك الأول لتونس بنسبة تفوق الـ70 في المائة».

وعودة إلى الوزير السابق عماد الدايمي، فإن الملفات الاقتصادية والاجتماعية هيمنت على خطابه، ولقد برّر شعاره «التغيير قادم» بثلاثة أسباب تهم السياسات الاقتصادية للدولة وأولويات القطاع الخاص.

ويشرح الدايمي، فيقول إن السبب الأول هو كون «المنوال التنموي للبلاد وصل إلى نهاية الطريق، وصار عاجزاً تماماً عن تأمين حلول للمشاكل» المتراكمة منذ عقود. والسبب الثاني هو أن «بنية الدولة التونسية ومؤسساتها تقادمت وتهالكت، ولم ترضخ للتجديد، فباتت على درجة كبيرة من البيروقراطية والتكلس وانعدام الفاعليّة». ولأن منظومة المؤسسات والمنشآت العمومية الواسعة أضحت كلها تقريباً مفلسة وحوكمتها مدمّرة، خرّبها الفساد والمحسوبية و«بلطجة النقابات». وأما السبب الثالث والأخير، فهو واقع «البنية الريعية» للاقتصاد التونسي، «الذي تزايد اعتماده على عدد قليل من العائلات ورجال الأعمال الذين يحتكرون الثروة ويهيمنون على كل القطاعات رغم ضغوط المستثمرين الشبان والشركاء الأجانب».

اهتمامات الرئيس سعيّد

ولكن، هذا التركيز على الملفات الاقتصادية والاجتماعية ليس محصوراً بالمرشحين المحسوبين على المعارضة بمختلف ألوانها، بل يهم كذلك الرئيس قيس سعيّد، الذي استأنف زياراته للأسواق الشعبية وللجهات الداخلية المهمشة وللمؤسسات العمومية التي تمر بصعوبات، بما في تلك في قطاعات الصحة والمياه والكهرباء والبنوك.

ولئن برز سعيّد قبل نجاحه في انتخابات 2019 بمداخلاته السياسية والقانونية والدستورية في وسائل الإعلام، فإنه منذ وصوله قصر قرطاج قبل خمس سنوات صار يعطي أولوية مطلقة للمشاغل الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية. ومن ثم، يتهم «عصابات التهريب والاحتكار» بتحمّل مسؤولية ارتفاع الأسعار ونسب البطالة والفقر، وبالتسبب في تعطيل عمل شبكات نقل المياه والكهرباء.

وحقاً، مع اقتراب موعد انطلاق الحملة الانتخابية الرسمية كثّف سعيّد تحركاته في محافظات عدة متفقداً أوضاع الطبقات الشعبية، وكاشفاً للشعب عبر الفريق الإعلامي المرافق له عن ما يراه من «حجم الدمار والتخريب» الذي حمّل مسؤوليته إلى أجيال من السياسيين والإداريين منذ عهدي الرئيسين بورقيبة (1956 - 1987) وبن علي (1987 - 2011) ثم في حكومات ما بعد «انتفاضة يناير 2011» الشبابية والاجتماعية. وعلى الرغم من وجود سعيّد في الحكم منذ سنوات، فإنه لا يزال يتبرأ في الكلمات التي يتوجه بها إلى الشعب من «تقصير أجيال من المسؤولين» ومن «التخريب الذي يقوم به متآمرون على الأمن القومي» إلى حد تعمّد احتكار مواد الاستهلاك والترفيع في الأسعار وتخريب شبكات الماء والكهرباء. سعيّد يحمّل النخب الحاكمة منذ 70 سنة مسؤولية تردي الأوضاع

الاهتمام بالشأن السياسي متراجع تحت الضغوط الاقتصادية والمعيشية

> في ظل التركيز الشديد من قِبل أنصار الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه على الصعوبات الاقتصادية والمعيشية وغلاء الأسعار والبطالة، تراجع الاهتمام بـ«الشأن السياسي»، وبالملفات السياسية والدستورية والجيو استراتيجية التي كانت حاضرة بقوة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية التي نظمت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2011. بل إن التقارير المفصلة لبعض المنظمات المستقلة، التي تحصل على دعم مالي من عواصم غربية، مثل «منظمة بوصلة»، أصبحت تتحدث بوضوح عن كون التحضيرات للانتخابات المقبلة تجري في «مناخ لا سياسي». رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين الأسعد الذوادي، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن تياراً واسعاً من الشارع التونسي دعم الخطوات التي قام بها قيس سعيّد عندما فتح بعض «ملفات الفساد المالي» الكبرى، وأمر بإيقاف مجموعة من رجال الأعمال والمسؤولين السابقين عن البنوك والشركات العمومية ومصادرة أملاك بعضهم. ومن جهة ثانية، دعا عدد من الزعماء السياسيين والخبراء الاقتصاديين والنقابيين المستقلين إلى ضرورة ألا يتسبب تزامن التحقيقات القضائية مع «المتآمرين على أمن الدولة» ومع «الفاسدين مالياً» مع العملية الانتخابية في عملية «تصفية حسابات». ورأى هؤلاء أن «الأسباب العميقة للصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بها تونس أسباب هيكلية»، ولقد تعقّدت بعد سنوات من الجفاف و13 سنة من الاضطراب السياسي والإداري. وهنا يتساءل البعض عما إذا كانت انتخابات 6 أكتوبر ستساهم في تحسين فرص استرجاع ثقة ملايين الناخبين والمواطنين بصناديق الاقتراع، أم ترى سيتجدد سيناريو «امتناع» نحو 88 في المائة عن المشاركة في التصويت كما حدث خلال السنتين الماضيتين، وهذا بينما يضغط ملف الصعوبات الاقتصادية على كل من مرشحي السلطة ومعارضيهم.