من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»
TT

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف أصبحت البطريركية في روما مطمعا كبيرا نظرا للقوة الروحية التي تملكها والثروة المتزايدة التي بدأت تتراكم لديها، وهو ما أدخلها في صراعات عائلية عديدة أدت إلى طرد بطريرك الكنيسة «ليو الثالث» من قبل الطامعين في الكرسي البابوي خاصة من أنصار البطريرك السابق، ففر الرجل هاربا مقتنعا بأن الكنيسة بحاجة إلى النصير السياسي/ العسكري الذي يحميها ويحمي شرعيتها، وهو ما دفعه إلى اللجوء للقوة السياسية والعسكرية المركزية والوحيدة في وسط وغرب أوروبا التي يرأسها الملك «شارل الكبير» أو «Magnus Carlos» باللاتينية، أو كما هو معروف في العالم «شارلمان»، ففي هذا الرجل تجمعت أكبر قوة إقليمية مركزية في أوروبا بعد سقوط الدولة الرومانية في 476م، تجمع بين السلطة والجيش والقدرة المالية، وقد كان شارلمان من القبائل «الفرانكية» Franks الذي يرجع لجده الأكبر «شارل مارتل» سبب وقف المد الإسلامي في أوروبا بعد معركة «بلاط الشهداء» في عام 732 ميلاديا، وقد رأي «ليو الثالث» ضرورة إدخاله في المعادلة الأوروبية بشكل أوسع.
حقيقة الأمر أن شارلمان قرر مساندة البطريرك «ليو الثالث» بالقوة العسكرية التي أعادته إلى روما وثبتته على الكرسي البابوي بعد تبرئته من قبل مجمع كبير خُصص للنظر في التظلمات التي كانت موجهة ضده، وفي اليوم التالي استضاف البابا الملك شارلمان في قداس عيد الميلاد لعام 800 في كنيسة «القديس بطرس» الذي شارك فيه رجال الدولة والمراقبون، وبحركة خفيفة وسريعة قام بوضع التاج على رأسه معلنا إياه «الإمبراطور الروماني المقدس»، وهو اللقب الذي انتقل على الفور إلى مملكته وظل قابعا في الفكر الغربي لمدة تقرب من الألف سنة حتى بعدما اندثرت دولته وورث اللقب غيره بأسرع مما تصور الجميع.
وتشير مصادر تاريخية عديدة إلى أن شارلمان لم يكن مستعدا لهذه الخطوة لأنه كان يرى أن جهده العسكري والسياسي هو الذي منحه حق الملك ولم يكن في حاجة لإثبات ذلك من خلال منح دور الوسيط للبابا، فالرجل لم يهدف إلى تداخل ديني في سلطته السياسية المطلقة على مملكته، ومع ذلك فلقد استفاد كثيرا من هذه الخطوة التي وضعته في مصاف الإمبراطور في القسطنطينية وجعلت له شرعية دينية إلى جانب الشرعية السياسية والعسكرية التي استقاها من خلال معاركه وإدارته لمملكته، فلقد رأى في مؤسسة الكنيسة وسيلة لزيادة سلطته وفي المسيحية أداة لزيادة شرعيته، بينما ظهرت مؤسسة البابوية في روما على أنها صاحبة الحق في منح السلطان الزمني، وهو ما توافق تماما مع معتقدات الكنيسة في روما التي كانت ترى في نفسها دون غيرها، تمثيل بطرس الرسول بوصفه «الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة» وفقا لمقولة السيد المسيح. وهكذا استفادت المؤسستان من هذا الزواج السياسي الذي كان من نتيجته تجسيد حلم طالما داعب كثيرا من المفكرين المسيحيين، وهو مفهوم «الأممية المسيحية» أو Christendom أو باللاتينية «Christianitas» هذا الحلم الذي مزج بين الهوية والوحدة السياسية والحضارة والقومية، وهي تيارات قوية للغاية بدأت تتفاعل داخل هذا المفهوم العريض الشامل.
إن فكرة «الأممية المسيحية» إن جاز لنا استخدام هذا التعبير مرادفا لفكرة «Christendom»، ظلت قوة سياسية ودافعا فكريا وعقائديا وسياسيا أثر مباشرة على مسيرة السياسية الأوروبية، بل إنه أصبح لب فكرة «المفهوم الغربي» كما سنرى، وقام باستبدال المفهوم الجغرافي الأوروبي الضيق أو الروماني المحدود وأصبح يمثل شرعية جديدة بدأت تترسخ داخل الشعوب الأوروبية والوجدان السياسي فيها، وأصبح هذا المفهوم يمثل الشرعية السياسية والدينية على حد سواء، فكان الدواء للتشرذم السياسي والعسكري لأوروبا، ولكنه كان أيضا الداء الممتد.. فمن ناحية؛ أصبح الفضاء الجغرافي الواقع تحت هذه المظلة الجديدة يكتسب هويته التدريجية من الديانة المسيحية وفقا لكنيسة روما أو المذهب الكاثوليكي كما أُطلق عليه (معني لفظ الكاثوليكية هنا هو «العالمية»)، أي أصبحت الكنيسة في روما تمثل المسيحية العالمية، وهو ما أضفى عليها المزايا ووضع عليها الأعباء على حد سواء، فلقد أصبحت السياسية الأوروبية تدعو لفكرة وجود إله واحد له ظل واحد على الأرض ممثلا في الإمبراطور، كما أن للسيد المسيح ممثلا روحيا واحدا يجسده البابا في روما، الأول مسؤول عن السياسة وإدارة الدولة، والثاني مسؤول عن الروح وخلاصها في الدنيا والآخرة، بينما من المفترض أن يعمل الطرفان بروح من التعاون والوئام، وهو ما لم يحدث في أوقات كثيرة كما سنرى.
لقد كان الهدف من هذه الخطوة في تقدير الكنيسة هو بناء مؤسسية أوروبية جديدة تهدف إلى إعادة تجديد الكيان الإمبراطوري المسيحي أو المشروع الذي أطلق عليه الـ«Renovatio Imperii»، فكان من نتيجة هذه الخطوة المهمة ظهور نوع من الإقرار بالحقوق الروحية للكنيسة وكل ما يتعلق بقدراتها على تحقيق هذا الهدف فضلا عن الإقرار بامتيازاتها، وفي المقابل، فإن واجب كل الرعية هو الالتزام بحقوق الإمبراطور المطلقة بعد أن أصبح ممثل الرب على الأرض ومنفذ مشيئته السياسية، وإن أي خروج عليه يمثل نوعا من الخروج على الدين، فكذلك استفاد الإمبراطور من هذه القوة الجديدة في مواجهة سلطة رجال الإقطاع في دولته الذين كان لهم نفوذ متزايد وغير مرغوب فيه، كما أن سياسته الخارجية لم تعد تهدف لمجرد توسيع رقعة دولته، بل زاد لها أيضا قدسية جديدة ممثلة في نشر المسيحية وتعاليم كنيسة روما في المناطق الوثنية التي تقطنها القبائل الهمجية التي كانت محرومة من التحضر، وفقا لرؤيتهم. وقد استفاد الإمبراطور أيضا من الكنيسة ونظامها لنقل التجارب الناجحة لهياكلها المختلفة مكتسبا لمسة تحضر ممثلة في الثقافة الرومانية وسبل الإدارة الجديدة التي جسدتها الكنيسة.
لقد سعى ملوك الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى اللجوء لهذه الشرعية الجديدة لتثبيت وضعيتهم على الساحة السياسية الأوروبية بوصفهم الطرف الأقوى في هذه المعادلة مقارنة بالإمبراطورية البيزنطية التي نافستها بعض الشيء في شرعية أهدافها ومذهبها الديني المختلف عن المذهب الكاثوليكي، وحتى مع محاولات التقارب بين الإمبراطوريتين المسيحيتين الذي وصل إلى مداه من خلال زواج الإمبراطور الروماني المقدس «أوتو الثاني» بابنة الإمبراطور البيزنطي، إلا أن المنافسة السياسية والدينية ظلت السمة المسيطرة على هذه الدولة، كما بدأت كنيسة روما تسعى للسيطرة على أغلبية أوروبا وتعمل على تشكيل هويتها السياسية الجديدة، فوفقا للشرعية الجديدة، فإن غرب ووسط أوروبا لم يعد يُنظر لهما على أنهما بلاد «الغال» أو «الإسبان» أو «الفرانكس»، ولكن على أنهما «أمة المسيحية» Christendom. وهكذا ساهم هذا المفهوم الأممي في خلق فضاء جديد من الهوية الثقافية والسياسية والاجتماعية، ووفقا لهذا المفهوم، فإن الفواصل الجغرافية أو الدينية أو الخصوصية الوطنية أو القومية باتت مطموسة في مناسبات عديدة، وهو ما مهد بعد ذلك بقرون لاستبدال مفهوم جديد هو «الحكم الأوروبي» Ragnum Europae، بالمفهوم «الأممي المسيحي»، ولكن ليس قبل الانشطار الديني الذي هز أوروبا بالخلاف العقائدي والسياسي بين الكاثوليكية في الغرب والأرثوذكسية في الشرق.
* كاتب مصري



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر