من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»
TT
20

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

من التاريخ: شارلمان والبابا ومولد «الأممية المسيحية»

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف أصبحت البطريركية في روما مطمعا كبيرا نظرا للقوة الروحية التي تملكها والثروة المتزايدة التي بدأت تتراكم لديها، وهو ما أدخلها في صراعات عائلية عديدة أدت إلى طرد بطريرك الكنيسة «ليو الثالث» من قبل الطامعين في الكرسي البابوي خاصة من أنصار البطريرك السابق، ففر الرجل هاربا مقتنعا بأن الكنيسة بحاجة إلى النصير السياسي/ العسكري الذي يحميها ويحمي شرعيتها، وهو ما دفعه إلى اللجوء للقوة السياسية والعسكرية المركزية والوحيدة في وسط وغرب أوروبا التي يرأسها الملك «شارل الكبير» أو «Magnus Carlos» باللاتينية، أو كما هو معروف في العالم «شارلمان»، ففي هذا الرجل تجمعت أكبر قوة إقليمية مركزية في أوروبا بعد سقوط الدولة الرومانية في 476م، تجمع بين السلطة والجيش والقدرة المالية، وقد كان شارلمان من القبائل «الفرانكية» Franks الذي يرجع لجده الأكبر «شارل مارتل» سبب وقف المد الإسلامي في أوروبا بعد معركة «بلاط الشهداء» في عام 732 ميلاديا، وقد رأي «ليو الثالث» ضرورة إدخاله في المعادلة الأوروبية بشكل أوسع.
حقيقة الأمر أن شارلمان قرر مساندة البطريرك «ليو الثالث» بالقوة العسكرية التي أعادته إلى روما وثبتته على الكرسي البابوي بعد تبرئته من قبل مجمع كبير خُصص للنظر في التظلمات التي كانت موجهة ضده، وفي اليوم التالي استضاف البابا الملك شارلمان في قداس عيد الميلاد لعام 800 في كنيسة «القديس بطرس» الذي شارك فيه رجال الدولة والمراقبون، وبحركة خفيفة وسريعة قام بوضع التاج على رأسه معلنا إياه «الإمبراطور الروماني المقدس»، وهو اللقب الذي انتقل على الفور إلى مملكته وظل قابعا في الفكر الغربي لمدة تقرب من الألف سنة حتى بعدما اندثرت دولته وورث اللقب غيره بأسرع مما تصور الجميع.
وتشير مصادر تاريخية عديدة إلى أن شارلمان لم يكن مستعدا لهذه الخطوة لأنه كان يرى أن جهده العسكري والسياسي هو الذي منحه حق الملك ولم يكن في حاجة لإثبات ذلك من خلال منح دور الوسيط للبابا، فالرجل لم يهدف إلى تداخل ديني في سلطته السياسية المطلقة على مملكته، ومع ذلك فلقد استفاد كثيرا من هذه الخطوة التي وضعته في مصاف الإمبراطور في القسطنطينية وجعلت له شرعية دينية إلى جانب الشرعية السياسية والعسكرية التي استقاها من خلال معاركه وإدارته لمملكته، فلقد رأى في مؤسسة الكنيسة وسيلة لزيادة سلطته وفي المسيحية أداة لزيادة شرعيته، بينما ظهرت مؤسسة البابوية في روما على أنها صاحبة الحق في منح السلطان الزمني، وهو ما توافق تماما مع معتقدات الكنيسة في روما التي كانت ترى في نفسها دون غيرها، تمثيل بطرس الرسول بوصفه «الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة» وفقا لمقولة السيد المسيح. وهكذا استفادت المؤسستان من هذا الزواج السياسي الذي كان من نتيجته تجسيد حلم طالما داعب كثيرا من المفكرين المسيحيين، وهو مفهوم «الأممية المسيحية» أو Christendom أو باللاتينية «Christianitas» هذا الحلم الذي مزج بين الهوية والوحدة السياسية والحضارة والقومية، وهي تيارات قوية للغاية بدأت تتفاعل داخل هذا المفهوم العريض الشامل.
إن فكرة «الأممية المسيحية» إن جاز لنا استخدام هذا التعبير مرادفا لفكرة «Christendom»، ظلت قوة سياسية ودافعا فكريا وعقائديا وسياسيا أثر مباشرة على مسيرة السياسية الأوروبية، بل إنه أصبح لب فكرة «المفهوم الغربي» كما سنرى، وقام باستبدال المفهوم الجغرافي الأوروبي الضيق أو الروماني المحدود وأصبح يمثل شرعية جديدة بدأت تترسخ داخل الشعوب الأوروبية والوجدان السياسي فيها، وأصبح هذا المفهوم يمثل الشرعية السياسية والدينية على حد سواء، فكان الدواء للتشرذم السياسي والعسكري لأوروبا، ولكنه كان أيضا الداء الممتد.. فمن ناحية؛ أصبح الفضاء الجغرافي الواقع تحت هذه المظلة الجديدة يكتسب هويته التدريجية من الديانة المسيحية وفقا لكنيسة روما أو المذهب الكاثوليكي كما أُطلق عليه (معني لفظ الكاثوليكية هنا هو «العالمية»)، أي أصبحت الكنيسة في روما تمثل المسيحية العالمية، وهو ما أضفى عليها المزايا ووضع عليها الأعباء على حد سواء، فلقد أصبحت السياسية الأوروبية تدعو لفكرة وجود إله واحد له ظل واحد على الأرض ممثلا في الإمبراطور، كما أن للسيد المسيح ممثلا روحيا واحدا يجسده البابا في روما، الأول مسؤول عن السياسة وإدارة الدولة، والثاني مسؤول عن الروح وخلاصها في الدنيا والآخرة، بينما من المفترض أن يعمل الطرفان بروح من التعاون والوئام، وهو ما لم يحدث في أوقات كثيرة كما سنرى.
لقد كان الهدف من هذه الخطوة في تقدير الكنيسة هو بناء مؤسسية أوروبية جديدة تهدف إلى إعادة تجديد الكيان الإمبراطوري المسيحي أو المشروع الذي أطلق عليه الـ«Renovatio Imperii»، فكان من نتيجة هذه الخطوة المهمة ظهور نوع من الإقرار بالحقوق الروحية للكنيسة وكل ما يتعلق بقدراتها على تحقيق هذا الهدف فضلا عن الإقرار بامتيازاتها، وفي المقابل، فإن واجب كل الرعية هو الالتزام بحقوق الإمبراطور المطلقة بعد أن أصبح ممثل الرب على الأرض ومنفذ مشيئته السياسية، وإن أي خروج عليه يمثل نوعا من الخروج على الدين، فكذلك استفاد الإمبراطور من هذه القوة الجديدة في مواجهة سلطة رجال الإقطاع في دولته الذين كان لهم نفوذ متزايد وغير مرغوب فيه، كما أن سياسته الخارجية لم تعد تهدف لمجرد توسيع رقعة دولته، بل زاد لها أيضا قدسية جديدة ممثلة في نشر المسيحية وتعاليم كنيسة روما في المناطق الوثنية التي تقطنها القبائل الهمجية التي كانت محرومة من التحضر، وفقا لرؤيتهم. وقد استفاد الإمبراطور أيضا من الكنيسة ونظامها لنقل التجارب الناجحة لهياكلها المختلفة مكتسبا لمسة تحضر ممثلة في الثقافة الرومانية وسبل الإدارة الجديدة التي جسدتها الكنيسة.
لقد سعى ملوك الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى اللجوء لهذه الشرعية الجديدة لتثبيت وضعيتهم على الساحة السياسية الأوروبية بوصفهم الطرف الأقوى في هذه المعادلة مقارنة بالإمبراطورية البيزنطية التي نافستها بعض الشيء في شرعية أهدافها ومذهبها الديني المختلف عن المذهب الكاثوليكي، وحتى مع محاولات التقارب بين الإمبراطوريتين المسيحيتين الذي وصل إلى مداه من خلال زواج الإمبراطور الروماني المقدس «أوتو الثاني» بابنة الإمبراطور البيزنطي، إلا أن المنافسة السياسية والدينية ظلت السمة المسيطرة على هذه الدولة، كما بدأت كنيسة روما تسعى للسيطرة على أغلبية أوروبا وتعمل على تشكيل هويتها السياسية الجديدة، فوفقا للشرعية الجديدة، فإن غرب ووسط أوروبا لم يعد يُنظر لهما على أنهما بلاد «الغال» أو «الإسبان» أو «الفرانكس»، ولكن على أنهما «أمة المسيحية» Christendom. وهكذا ساهم هذا المفهوم الأممي في خلق فضاء جديد من الهوية الثقافية والسياسية والاجتماعية، ووفقا لهذا المفهوم، فإن الفواصل الجغرافية أو الدينية أو الخصوصية الوطنية أو القومية باتت مطموسة في مناسبات عديدة، وهو ما مهد بعد ذلك بقرون لاستبدال مفهوم جديد هو «الحكم الأوروبي» Ragnum Europae، بالمفهوم «الأممي المسيحي»، ولكن ليس قبل الانشطار الديني الذي هز أوروبا بالخلاف العقائدي والسياسي بين الكاثوليكية في الغرب والأرثوذكسية في الشرق.
* كاتب مصري



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين