اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر

في الذكرى العاشرة للثورة

اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر
TT

اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر

اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر

تعيش أغلب محافظات تونس تحركات احتجاج عشوائية واضطرابات غير مسبوقة شلت قطاعات حساسة من شبكات توزيع قوارير الغاز إلى القضاء والمستشفيات ومؤسسات المحروقات والفوسفات والنقل. ولقد زادت هذه التحركات، التي خرجت عن سيطرة النقابات والأحزاب، من إرباك السلطات في الذكرى العاشرة للثورة التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي، علماً بأنها تتزامن مع دعوات إلى تغيير النظام السياسي و«تدخل الجيش»، في خطوة استباقية لـ«ثورة جياع» يفجّرها المهمشون والعاطلون الذين تتضاعف أعدادهم بسبب جائحة «كوفيد - 19».
ولذا يتساءل المراقبون حول ما كانت هذه الاضطرابات الاجتماعية العنيفة الواسعة ظرفية أم أنها ستزيد المشهد السياسي تعقيداً وتشل المزيد من مؤسسات الحكم، عشية مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لميزانية الدولة لعام 2021؟ وهل سينجح صناع القرار في احتواء الإضرابات والاعتصامات وأعمال العنف رغم الصراعات التي استفحلت داخل البرلمان من جهة وبين رموز السلطتين التنفيذية والقضائية من جهة ثانية؟ وهل يمكن أن تؤدي تحركات الجيل الجديد من الشباب العاطل عن العمل إلى تعديل بوصلة السياسيين والنقابات... أم يحصل العكس؛ فتتعمق الهوة بين الرؤساء الثلاثة، وبين السلطات المركزية والفئات الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية ومن الجائحة القاتلة، لا سيما في المحافظات المهمشة المتاخمة للحدود مع الجزائر وليبيا؟

تكشف الدعوات الرسمية إلى «الحوار الوطني» التي أطلقتها في تونس أخيراً قيادات نقابية وحزبية من جهة، ورؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان من جهة ثانية، اقتناعاً بخطورة الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وكانت تقارير مؤسسات مستقلة بينها «منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية» قد كشفت أن عدد الإضرابات والتحركات الاجتماعية ناهز هذا العام الـ6500. رغم قانون الطوارئ وفرض حظر شبه كامل للتجوال طوال أشهر بسبب جائحة «كوفيد - 19».
ولقد أدرك هشام المشيشي، رئيس الحكومة، ومستشاروه، خطورة الموقف، فلوحوا باستخدام القوة والتدخل لمنع التحركات التي تعطل مؤسسات ضخ النفط والغاز وتوزيع مواد الاستهلاك. بل، وحذروا من وجود «أطراف تدعم الاحتجاجات الفوضوية»، كما ورد على لسان الوزير مدير مكتب رئيس الحكومة معز لدين الله المقدم. أيضاً، طلب المشيشي علناً من رئيس الجمهورية قيس سعيّد الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي بكامل أعضائه... أي بحضور الرؤساء الثلاثة وقيادات المؤسستين الأمنية والعسكرية. وأشرف رئيس الحكومة على اجتماع مشترك مع وزراء الدفاع والداخلية والعدل أصدر فيه أوامر واضحة لقوات الجيش والأمن وللنيابة العمومية، بالتدخل لفرض القانون ومنع تعطيل العمل والإنتاج وفض الاعتصامات في الطرق وعلى السكك الحديدية.
«موت سريري»؟
إلا أن صيحات الفزع التي أطلقها عدد من السياسيين والنقابيين وعلماء الاجتماع توحي بأن الأوضاع غدت أخطر بكثير من أن تُعالَج في اجتماع رفيع المستوى يشارك فيه مسؤولون كبار في الدولة يتنازعون الصلاحيات، ويخوضون صراعاً على المواقع «بسبب الثغرات الكبيرة داخل دستور 2014»، على حد تعبير خبير القانون الدستوري العميد الصادق بلعيد في تصريح أدلى به لـ«الشرق الأوسط». وفي الوقت نفسه حذّر الأكاديمي والإعلامي خالد عبيد من سيناريوهات «مخيفة» تهدد البلاد، منها الفوضى و«الانهيار الشامل» أمام انتفاضات «الجياع والعاطلين وعصابات التهريب والفساد». وأعرب عبيد عن اقتناعه بكون «النظام السياسي الذي تشكل بعد ثورة 2011 قد انتهى»، وأنه الآن «في مرحلة الموت السريري، وينتظر من يشفق عليه ويُطلق رصاصة الرحمة». وأردف أن الذين يصفون الاضطرابات الحالية بكونها «موجة ثورة جديدة»... واهمون ومخطئون.
- تصاعد «الشعبوية»
في السياق ذاته، حذّر الأكاديمي والخبير السياسي الدولي حمادي الرديسي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، من «الاضطرابات الفوضوية» الحالية التي توقع أن «تفاقم من إضعاف الدولة والمجتمع والنخب الوطنية»، مشبهاً إياها بتلك التي يشهدها كل من لبنان والعراق منذ أكثر من سنة. كذلك توقع الرديسي، الذي نشر أخيراً مع مجموعة من الجامعيين كتاباً عن «السياسات الشعبوية» في تونس منذ 2011، أن تفشل الاحتجاجات الشبابية الجديدة في تحقيق أهدافها، مثل القضاء على البطالة والفقر وغلاء الأسعار والتهميش. ومن ثم، ربط مع زملائه المؤلفين في كتابهم مسؤولية فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ثم تأزم الأوضاع بعد «كوفيد - 19»، بـ«المواقف والسياسات الشعوبية»، للرئيس سعيّد وحلفائه من دعاة التمرد على «الدولة المركزية»، ومؤيدي تشكيل «مجالس محلية ولجان شعبية وتنسيقيات شعبية تنقلب على أجهزة النظام الوطنية والجهوية التقليدية». أيضاً، حمّل هؤلاء زعامات الإسلام السياسي اليمينية «الشعبوية» وأحزاب أقصى اليسار من جهة، وقيادات «التيار الشعبوي الليبرالي اليميني»، بزعامة المحامية عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر من جهة ثانية، مسؤولية الأزمة الخانقة الراهنة. إذ اعتبر الرديسي وفريقه أن «تمجيد النظام السابق بأسلوب شعبوي كما تفعل عبير موسي ورفاقها»، وإن كان قد يُضعف خصومه المحسوبين على «الإسلام السياسي» و«اليسار الراديكالي» أو أنصار الرئيس سعيّد، فإنه لن يكون قادراً على تقديم «البديل» ولا أن يتطوّر «من قوة هدم إلى قوة بناء». وفي اتجاه موازٍ، حذر الأكاديمي والكاتب أيمن البوغانمي - الذي أعد بدوره كتاباً جديداً عن «الشعبوية السياسية»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من أن تتسبب الاضطرابات في شل مؤسسات الدولة والمجتمع بسبب صمت غالبية النخب عن أخطاء كبار المسؤولين في الدولة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني.
- «الزلزال» و«الإعصار»
من جهة ثانية، تعاقبت التحذيرات داخل البرلمان ووسائل الإعلام والجامعات من أن تكون الاضطرابات العنيفة والفوضوية والشاملة التي تشهدها تونس منذ أسابيع مؤشراً إلى «زلزال» أو «إعصار اجتماعي - سياسي» يؤدي إلى انهيار العديد من مؤسسات الدولة. وازداد التخوف في ظل تعاقب الدعوات إلى رئيس الجمهورية في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية كي يأذن للمؤسسة العسكرية بالتدخل لحماية مؤسسات الإنتاج والتسويق والخدمات العمومية. في حين طالب آخرون الجيش بالتدخل لـ«إنقاذ البلاد»، ما يشير إلى نوع من التبرير المسبق لـ«سيناريو الانقلاب على الديمقراطية» كما يرى الأكاديمي والإعلامي الحبيب بوعجيلة والباحث في مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية سامي ابراهم.
وحقاً، استفحل الأمر بعدما تعدّدت الدعوات الموجّهة إلى قيس سعيّد من قبل عدد من خبراء القانون والسياسيين من أجل تنظيم «استفتاء شعبي» يؤدي إلى تغيير النظام السياسي الحالي (أي «النظام البرلماني - المجلسي») الحالي والاستعاضة عنه بـ«نظام رئاسي» يدعم مؤسسة رئاسة الجمهورية على حساب البرلمان والحكومة. وتزعم هذه الدعوات، بالخصوص، الصادق شعبان، أستاذ القانون ووزير العدل والتعليم العالي قبل 2010، والإعلامي ورجل الأعمال عمر صحابو، والوزير السابق وزعيم حزب التيار الديمقراطي اليساري محمد عبو. وقد برّر هؤلاء موقفهم بتخوفهم من «تزايد تأثير قوى الإسلام السياسي» عموماً، وحزب «حركة النهضة» خاصة، في المرحلة المقبلة.
كذلك نُظِّم حوار حول هذه القضايا بمشاركة خبير عسكري في إذاعة عمومية، فردّ البرلماني والوزير الأسبق للعدل نور الدين البحيري بقوة، ما تسبب في حملات انتقاد للإذاعة والصحافيين وفي إقالة مديرة الإذاعة واثنين من المذيعين «بصفة استعجالية» بعد اتهامهم بـ«الترويج لدعاة الانقلاب على الشرعية الانتخابية». ولقد تراوحت ردود الفعل على تعويض «النظام البرلماني» بـ«نظام رئاسي» بين الترحيب والانتقاد، وتبادل الاتهامات بين من يُعدّون «الأوفياء للثورة» وخصومها... حول مَن تحمل مسؤولية تدهور الأوضاع العامة في تونس منذ 10 سنوات.
- «ثورة جديدة»؟
واستطراداً، إذا كانت تونس قد تعوّدت على الاضطرابات الشبابية والاجتماعية في مثل هذا الموسم من كل عام، فإن تحركات هذا العام اكتست صبغة خاصة، لأنها تتزامن مع الذكرى العاشرة لانفجار اضطرابات محافظة سيدي بوزيد والجنوب التونسي، وبالطبع، لحادثة انتحار البائع المتجول محمد البوعزيزي حرقاً احتجاجاً على البطالة والفقر والبوليس. أيضاً اقترنت الاحتجاجات الحالية بدعوات إلى «ثورة جديدة» يقودها المهمّشون في الجهات الداخلية والأحياء الشعبية في العاصمة والمدن. واتهمت بعض الصحف، مثل «الشروق» اليومية و«الرأي العام» الأسبوعية، ومعهما عدد من المواقع القريبة من الائتلاف الحاكم، الرئيس قيس سعيّد وحلفاءه داخل النقابات و«التنسيقيات الشعبية» في الجهات الداخلية... بدعم الاضطرابات غير القانونية بهدف إسقاط الحكومة الحالية وحلّ البرلمان، وتنظيم استفتاء شعبي يؤدي إلى تعديل الدستور ودعم صلاحيات الرئيس.
كذلك، وجهت تهمة دعم هذه الاضطرابات إلى قيادات في المركزية النقابية وإلى مجموعات يسارية وقومية راديكالية، وإلى حزبي «الشعب» و«الكتلة الديمقراطية»، بزعامة زهير المغزاوي وسالم الأبيض وغازي الشواشي، بالدفع في هذا الاتجاه. وفي المقابل، دعمت أطراف سياسية وإعلامية أخرى قياديين في «حركة النهضة» بالوقوف وراء بعض الاحتجاجات العنيفة والاعتصامات الفوضوية. غير أن عدداً من الخبراء السياسيين والاجتماعيين، بينهم البرلماني القومي العربي والوزير السابق مبروك كورشيد، يرفضون «السقوط في التفسير التآمري للأحداث الحالية»، ويبررونها باستفحال مشاكل الفقر والبطالة، وبـ«غلطات» الحكومة التي قدمت تنازلات لبعض النقابات وقيادات بعض الاحتجاجات، وكانت النتيجة «انتشار العدوى وحمى الاحتجاجات المطلبية» من شمال تونس إلى جنوبها.
- فشل «منظومة الحكم القديمة»
في السياق ذاته، دعا الحبيب الكشو، الخبير الاقتصادي ووزير الشؤون الاجتماعية والصحة السابق، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى تجنب «التفسير التآمري» للاحتجاجات الحالية التي رجّح أن تكون «تلقائية». ورأى عدد من علماء الاجتماع، منهم محمد الهادي الجويلي، إلى فهم انفجار الاحتجاجات الاجتماعية الحالية، واعتبارها «خيبة أمل الجيل الذي كان في مرحلة الطفولة عند سقوط حكم زين العابدين بن علي قبل 10 سنوات، ثم بلغ سن الشباب الآن في عشرية حكومات ما بعد الثورة». ووفق رأي هؤلاء «الجيل الجديد من الشباب لم يعد معنياً بالجدل بين الجيل السابق من السياسيين والمثقفين ولا بمعاركهم الحزبية والآيديولوجية»... وهو مقتنع اليوم بأن «الدولة المركزية فقدت مشروعيتها» وبات المطلوب اليوم إعطاء دور أكبر لـ«الحكم المحلي» و«التنسيقيات المحلية» المتمردة على كامل المنظومة السياسية القديمة ببرلمانها وسلطاتها التنفيذية والقضائية... إلخ. وأشار الباحث والأكاديمي عبد اللطيف الحناشي إلى أنّ «حجم القطيعة الحاصلة بين النُّخب الحاكمة والمجتمع، وعجز المؤسسات عن تمثيل مطالب التونسيين والتونسيات وتشريكهم في برامج الإنقاذ العاجلة والإصلاح المتوسط المدى، يدفعان بمنظمات المجتمع المدني والقوى الديمقراطية والاجتماعية إلى التعبير عن مخاوفها واستنكارها لغياب المسؤولية... وحثها على الالتزام بدورها في التعبئة الاحتجاجية ومناصرة القضايا العادلة وبلورة مقترحات وحلول وطنية ومحلية».
- القديم... والجديد
في هذا الإطار العام تطرح مجدداً قضية غياب التوازن بين دعاة «التغيير» و«المحافظين»، أو بين «النظام القديم» و«النظام الجديد»، أو بين «الأوفياء لثورة 2010 - 2011» وأنصار المنظومة السياسية والاقتصادية التي حكمت البلاد منذ 1956 بزعامة الحبيب بورقيبة... ثم منذ 1987 بزعامة زين العابدين بن علي. ويتهم «الأوفياء لخط الثورة»، ومنهم الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، معارضيهم بتفجير مزيد من أعمال العنف والاحتجاجات لـ«محاولة شيطنة» السياسيين الذين حكموا البلاد خلال العقد الماضي، وغضّ الطرف على أخطاء مرحلتي بورقيبة وبن علي، بهدف افتكاك مزيد من المواقع لرموز النظام السابق. ويتهم هؤلاء حكومة هشام المشيشي بكونها «تعتمد أساساً على وزراء كانوا من نشطاء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يقوده بن علي»، وبكون «غالبية المسؤولين في الدولة اليوم من رموز النظام القديم ومن خريجي المدرسة العليا للإدارة التي لم يكن المعارضون في عهد بورقيبة وبن علي يدخلونها». وبالفعل، تشير استطلاعات الرأي أن شعبية ممثلي «الحزب الدستوري الحر» بزعامة عبير موسي (أبرز مناصري عهدي بورقيبة وبن علي) في ارتفاع بسبب أخطاء السياسيين وقادة الأحزاب والنقابات الذين تداولوا على السلطة خلال الأعوام العشرة الماضية.
إلا أن هذا المناخ لا يبرر الحديث عن «سيناريو» انهيار الدولة والطبقة السياسية الحالية في نظر الباحث والأكاديمي سعيد بحيرة، والخبير السياسي المنصف عاشور، والخبير الاقتصادي ماهر قلال. وحسب هؤلاء، ثمة أسباب عديدة لذلك من بينها عراقة المؤسسات في تونس، ووجود إرادة لدى غالبية صناع القرار في مختلف الأحزاب والنقابات على تجنب دفع البلاد نحو «سيناريو الفوضى الشاملة» أو نحو «منعرج عسكري»، رغم إقرار الجميع بأن خطورة الوضع الراهن غير مسبوقة.
- مبادرة لـ«الحوار الوطني» تحت إشراف الرئيس والنقابات
قدمت قيادة اتحاد نقابات العمال في تونس مبادرة لتنظيم حوار وطني يشرف عليه رئيس الدولة. ولقد رحّب بها الرئيس قيس سعيّدـ بالفعل. وتذكّر هذه الخطوة بمبادرة مماثلة قدمتها القيادة النقابية وزعامات في المجتمع المدني وقيادات نقابات رجال الأعمال والفلاحين عام 2013 عندما تأزمت العلاقة بين حكومة حزب النهضة وخصومها. وكانت حصيلة ذلك الحوار اتفاقاً على أن يغادر قادة حزب «حركة النهضة» وحلفاؤهم الحكم، ويسلموا السلطة إلى «حكومة تكنوقراطيين». وهي الحكومة التي أشرفت على البلاد لمدة سنة نظّمت خلالها انتخابات عامة فاز فيها بالمرتبة الأولى حزب «نداء تونس» بزعامة الباجي قائد السبسي الوزير والمسؤول السابق في الدولة في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
المبادرة الجديدة نصّت على أن الهدف من الحوار الوطني المقترح هو «إنقاذ تونس عبر صياغة عقد اجتماعي جديد قبل أن تسقط في الفوضى التي بات الاتحاد يراها خطراً يهدد البلاد». وعبّرت وثيقة المبادرة عن انشغال من «اهتزاز الثقة في الدّولة وفي مؤسّساتها مقابل صعود الشعبوية العنيفة وبروز النعرات الجهوية والفئوية والتفكّك الواضح للنسيج الاجتماعي التونسي والتنافر العدائي داخل نخبه». وحذّرت الوثيقة من كون الاحتجاجات الجهوية والقطاعية الأخيرة «تتزامن مع أزمة غير مسبوقة تعيشها تونس وتهدّد سيادتها ووحدة ترابها ومكاسب دولة الاستقلال مثل مدنية الدولة والمنظومات العمومية، في ظل تنامي ضعف الدولة بما يؤشّر إلى قرب تفكّكها وانفجار الأوضاع والدخول في المجهول، كما يهدد السلم الأهلي وفق مضمون المبادرة التي تعتبر أن العشرية الحالية امتازت بالعجز الواضح للطبقة السياسية».
هذا، وتضمنت المبادرة خطة تعتمد على ثلاثة محاور: محور سياسي وآخر اقتصادي وثالث اجتماعي. واعتبرت وثيقة المبادرة أن آلية الإشراف على الحوار الوطني المقترح هي «هيئة حكماء - وسطاء» من الشخصيات الوطنية المستقلّة تعمل تحت إشراف رئاسة الجمهورية، التي تشكلها وتحدد مهامها في إدارة الحوار وتقريب وجهات النّظر والتّحكيم بين كلّ الأطراف المعنيين بالحوار «وفق روزنامة معقولة ومسقّفة زمنياً».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.