اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر

في الذكرى العاشرة للثورة

اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر
TT

اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر

اضطرابات غير مسبوقة في تونس... والنظام السياسي في خطر

تعيش أغلب محافظات تونس تحركات احتجاج عشوائية واضطرابات غير مسبوقة شلت قطاعات حساسة من شبكات توزيع قوارير الغاز إلى القضاء والمستشفيات ومؤسسات المحروقات والفوسفات والنقل. ولقد زادت هذه التحركات، التي خرجت عن سيطرة النقابات والأحزاب، من إرباك السلطات في الذكرى العاشرة للثورة التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي، علماً بأنها تتزامن مع دعوات إلى تغيير النظام السياسي و«تدخل الجيش»، في خطوة استباقية لـ«ثورة جياع» يفجّرها المهمشون والعاطلون الذين تتضاعف أعدادهم بسبب جائحة «كوفيد - 19».
ولذا يتساءل المراقبون حول ما كانت هذه الاضطرابات الاجتماعية العنيفة الواسعة ظرفية أم أنها ستزيد المشهد السياسي تعقيداً وتشل المزيد من مؤسسات الحكم، عشية مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لميزانية الدولة لعام 2021؟ وهل سينجح صناع القرار في احتواء الإضرابات والاعتصامات وأعمال العنف رغم الصراعات التي استفحلت داخل البرلمان من جهة وبين رموز السلطتين التنفيذية والقضائية من جهة ثانية؟ وهل يمكن أن تؤدي تحركات الجيل الجديد من الشباب العاطل عن العمل إلى تعديل بوصلة السياسيين والنقابات... أم يحصل العكس؛ فتتعمق الهوة بين الرؤساء الثلاثة، وبين السلطات المركزية والفئات الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية ومن الجائحة القاتلة، لا سيما في المحافظات المهمشة المتاخمة للحدود مع الجزائر وليبيا؟

تكشف الدعوات الرسمية إلى «الحوار الوطني» التي أطلقتها في تونس أخيراً قيادات نقابية وحزبية من جهة، ورؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان من جهة ثانية، اقتناعاً بخطورة الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وكانت تقارير مؤسسات مستقلة بينها «منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية» قد كشفت أن عدد الإضرابات والتحركات الاجتماعية ناهز هذا العام الـ6500. رغم قانون الطوارئ وفرض حظر شبه كامل للتجوال طوال أشهر بسبب جائحة «كوفيد - 19».
ولقد أدرك هشام المشيشي، رئيس الحكومة، ومستشاروه، خطورة الموقف، فلوحوا باستخدام القوة والتدخل لمنع التحركات التي تعطل مؤسسات ضخ النفط والغاز وتوزيع مواد الاستهلاك. بل، وحذروا من وجود «أطراف تدعم الاحتجاجات الفوضوية»، كما ورد على لسان الوزير مدير مكتب رئيس الحكومة معز لدين الله المقدم. أيضاً، طلب المشيشي علناً من رئيس الجمهورية قيس سعيّد الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي بكامل أعضائه... أي بحضور الرؤساء الثلاثة وقيادات المؤسستين الأمنية والعسكرية. وأشرف رئيس الحكومة على اجتماع مشترك مع وزراء الدفاع والداخلية والعدل أصدر فيه أوامر واضحة لقوات الجيش والأمن وللنيابة العمومية، بالتدخل لفرض القانون ومنع تعطيل العمل والإنتاج وفض الاعتصامات في الطرق وعلى السكك الحديدية.
«موت سريري»؟
إلا أن صيحات الفزع التي أطلقها عدد من السياسيين والنقابيين وعلماء الاجتماع توحي بأن الأوضاع غدت أخطر بكثير من أن تُعالَج في اجتماع رفيع المستوى يشارك فيه مسؤولون كبار في الدولة يتنازعون الصلاحيات، ويخوضون صراعاً على المواقع «بسبب الثغرات الكبيرة داخل دستور 2014»، على حد تعبير خبير القانون الدستوري العميد الصادق بلعيد في تصريح أدلى به لـ«الشرق الأوسط». وفي الوقت نفسه حذّر الأكاديمي والإعلامي خالد عبيد من سيناريوهات «مخيفة» تهدد البلاد، منها الفوضى و«الانهيار الشامل» أمام انتفاضات «الجياع والعاطلين وعصابات التهريب والفساد». وأعرب عبيد عن اقتناعه بكون «النظام السياسي الذي تشكل بعد ثورة 2011 قد انتهى»، وأنه الآن «في مرحلة الموت السريري، وينتظر من يشفق عليه ويُطلق رصاصة الرحمة». وأردف أن الذين يصفون الاضطرابات الحالية بكونها «موجة ثورة جديدة»... واهمون ومخطئون.
- تصاعد «الشعبوية»
في السياق ذاته، حذّر الأكاديمي والخبير السياسي الدولي حمادي الرديسي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، من «الاضطرابات الفوضوية» الحالية التي توقع أن «تفاقم من إضعاف الدولة والمجتمع والنخب الوطنية»، مشبهاً إياها بتلك التي يشهدها كل من لبنان والعراق منذ أكثر من سنة. كذلك توقع الرديسي، الذي نشر أخيراً مع مجموعة من الجامعيين كتاباً عن «السياسات الشعبوية» في تونس منذ 2011، أن تفشل الاحتجاجات الشبابية الجديدة في تحقيق أهدافها، مثل القضاء على البطالة والفقر وغلاء الأسعار والتهميش. ومن ثم، ربط مع زملائه المؤلفين في كتابهم مسؤولية فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ثم تأزم الأوضاع بعد «كوفيد - 19»، بـ«المواقف والسياسات الشعوبية»، للرئيس سعيّد وحلفائه من دعاة التمرد على «الدولة المركزية»، ومؤيدي تشكيل «مجالس محلية ولجان شعبية وتنسيقيات شعبية تنقلب على أجهزة النظام الوطنية والجهوية التقليدية». أيضاً، حمّل هؤلاء زعامات الإسلام السياسي اليمينية «الشعبوية» وأحزاب أقصى اليسار من جهة، وقيادات «التيار الشعبوي الليبرالي اليميني»، بزعامة المحامية عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر من جهة ثانية، مسؤولية الأزمة الخانقة الراهنة. إذ اعتبر الرديسي وفريقه أن «تمجيد النظام السابق بأسلوب شعبوي كما تفعل عبير موسي ورفاقها»، وإن كان قد يُضعف خصومه المحسوبين على «الإسلام السياسي» و«اليسار الراديكالي» أو أنصار الرئيس سعيّد، فإنه لن يكون قادراً على تقديم «البديل» ولا أن يتطوّر «من قوة هدم إلى قوة بناء». وفي اتجاه موازٍ، حذر الأكاديمي والكاتب أيمن البوغانمي - الذي أعد بدوره كتاباً جديداً عن «الشعبوية السياسية»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من أن تتسبب الاضطرابات في شل مؤسسات الدولة والمجتمع بسبب صمت غالبية النخب عن أخطاء كبار المسؤولين في الدولة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني.
- «الزلزال» و«الإعصار»
من جهة ثانية، تعاقبت التحذيرات داخل البرلمان ووسائل الإعلام والجامعات من أن تكون الاضطرابات العنيفة والفوضوية والشاملة التي تشهدها تونس منذ أسابيع مؤشراً إلى «زلزال» أو «إعصار اجتماعي - سياسي» يؤدي إلى انهيار العديد من مؤسسات الدولة. وازداد التخوف في ظل تعاقب الدعوات إلى رئيس الجمهورية في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية كي يأذن للمؤسسة العسكرية بالتدخل لحماية مؤسسات الإنتاج والتسويق والخدمات العمومية. في حين طالب آخرون الجيش بالتدخل لـ«إنقاذ البلاد»، ما يشير إلى نوع من التبرير المسبق لـ«سيناريو الانقلاب على الديمقراطية» كما يرى الأكاديمي والإعلامي الحبيب بوعجيلة والباحث في مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية سامي ابراهم.
وحقاً، استفحل الأمر بعدما تعدّدت الدعوات الموجّهة إلى قيس سعيّد من قبل عدد من خبراء القانون والسياسيين من أجل تنظيم «استفتاء شعبي» يؤدي إلى تغيير النظام السياسي الحالي (أي «النظام البرلماني - المجلسي») الحالي والاستعاضة عنه بـ«نظام رئاسي» يدعم مؤسسة رئاسة الجمهورية على حساب البرلمان والحكومة. وتزعم هذه الدعوات، بالخصوص، الصادق شعبان، أستاذ القانون ووزير العدل والتعليم العالي قبل 2010، والإعلامي ورجل الأعمال عمر صحابو، والوزير السابق وزعيم حزب التيار الديمقراطي اليساري محمد عبو. وقد برّر هؤلاء موقفهم بتخوفهم من «تزايد تأثير قوى الإسلام السياسي» عموماً، وحزب «حركة النهضة» خاصة، في المرحلة المقبلة.
كذلك نُظِّم حوار حول هذه القضايا بمشاركة خبير عسكري في إذاعة عمومية، فردّ البرلماني والوزير الأسبق للعدل نور الدين البحيري بقوة، ما تسبب في حملات انتقاد للإذاعة والصحافيين وفي إقالة مديرة الإذاعة واثنين من المذيعين «بصفة استعجالية» بعد اتهامهم بـ«الترويج لدعاة الانقلاب على الشرعية الانتخابية». ولقد تراوحت ردود الفعل على تعويض «النظام البرلماني» بـ«نظام رئاسي» بين الترحيب والانتقاد، وتبادل الاتهامات بين من يُعدّون «الأوفياء للثورة» وخصومها... حول مَن تحمل مسؤولية تدهور الأوضاع العامة في تونس منذ 10 سنوات.
- «ثورة جديدة»؟
واستطراداً، إذا كانت تونس قد تعوّدت على الاضطرابات الشبابية والاجتماعية في مثل هذا الموسم من كل عام، فإن تحركات هذا العام اكتست صبغة خاصة، لأنها تتزامن مع الذكرى العاشرة لانفجار اضطرابات محافظة سيدي بوزيد والجنوب التونسي، وبالطبع، لحادثة انتحار البائع المتجول محمد البوعزيزي حرقاً احتجاجاً على البطالة والفقر والبوليس. أيضاً اقترنت الاحتجاجات الحالية بدعوات إلى «ثورة جديدة» يقودها المهمّشون في الجهات الداخلية والأحياء الشعبية في العاصمة والمدن. واتهمت بعض الصحف، مثل «الشروق» اليومية و«الرأي العام» الأسبوعية، ومعهما عدد من المواقع القريبة من الائتلاف الحاكم، الرئيس قيس سعيّد وحلفاءه داخل النقابات و«التنسيقيات الشعبية» في الجهات الداخلية... بدعم الاضطرابات غير القانونية بهدف إسقاط الحكومة الحالية وحلّ البرلمان، وتنظيم استفتاء شعبي يؤدي إلى تعديل الدستور ودعم صلاحيات الرئيس.
كذلك، وجهت تهمة دعم هذه الاضطرابات إلى قيادات في المركزية النقابية وإلى مجموعات يسارية وقومية راديكالية، وإلى حزبي «الشعب» و«الكتلة الديمقراطية»، بزعامة زهير المغزاوي وسالم الأبيض وغازي الشواشي، بالدفع في هذا الاتجاه. وفي المقابل، دعمت أطراف سياسية وإعلامية أخرى قياديين في «حركة النهضة» بالوقوف وراء بعض الاحتجاجات العنيفة والاعتصامات الفوضوية. غير أن عدداً من الخبراء السياسيين والاجتماعيين، بينهم البرلماني القومي العربي والوزير السابق مبروك كورشيد، يرفضون «السقوط في التفسير التآمري للأحداث الحالية»، ويبررونها باستفحال مشاكل الفقر والبطالة، وبـ«غلطات» الحكومة التي قدمت تنازلات لبعض النقابات وقيادات بعض الاحتجاجات، وكانت النتيجة «انتشار العدوى وحمى الاحتجاجات المطلبية» من شمال تونس إلى جنوبها.
- فشل «منظومة الحكم القديمة»
في السياق ذاته، دعا الحبيب الكشو، الخبير الاقتصادي ووزير الشؤون الاجتماعية والصحة السابق، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى تجنب «التفسير التآمري» للاحتجاجات الحالية التي رجّح أن تكون «تلقائية». ورأى عدد من علماء الاجتماع، منهم محمد الهادي الجويلي، إلى فهم انفجار الاحتجاجات الاجتماعية الحالية، واعتبارها «خيبة أمل الجيل الذي كان في مرحلة الطفولة عند سقوط حكم زين العابدين بن علي قبل 10 سنوات، ثم بلغ سن الشباب الآن في عشرية حكومات ما بعد الثورة». ووفق رأي هؤلاء «الجيل الجديد من الشباب لم يعد معنياً بالجدل بين الجيل السابق من السياسيين والمثقفين ولا بمعاركهم الحزبية والآيديولوجية»... وهو مقتنع اليوم بأن «الدولة المركزية فقدت مشروعيتها» وبات المطلوب اليوم إعطاء دور أكبر لـ«الحكم المحلي» و«التنسيقيات المحلية» المتمردة على كامل المنظومة السياسية القديمة ببرلمانها وسلطاتها التنفيذية والقضائية... إلخ. وأشار الباحث والأكاديمي عبد اللطيف الحناشي إلى أنّ «حجم القطيعة الحاصلة بين النُّخب الحاكمة والمجتمع، وعجز المؤسسات عن تمثيل مطالب التونسيين والتونسيات وتشريكهم في برامج الإنقاذ العاجلة والإصلاح المتوسط المدى، يدفعان بمنظمات المجتمع المدني والقوى الديمقراطية والاجتماعية إلى التعبير عن مخاوفها واستنكارها لغياب المسؤولية... وحثها على الالتزام بدورها في التعبئة الاحتجاجية ومناصرة القضايا العادلة وبلورة مقترحات وحلول وطنية ومحلية».
- القديم... والجديد
في هذا الإطار العام تطرح مجدداً قضية غياب التوازن بين دعاة «التغيير» و«المحافظين»، أو بين «النظام القديم» و«النظام الجديد»، أو بين «الأوفياء لثورة 2010 - 2011» وأنصار المنظومة السياسية والاقتصادية التي حكمت البلاد منذ 1956 بزعامة الحبيب بورقيبة... ثم منذ 1987 بزعامة زين العابدين بن علي. ويتهم «الأوفياء لخط الثورة»، ومنهم الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، معارضيهم بتفجير مزيد من أعمال العنف والاحتجاجات لـ«محاولة شيطنة» السياسيين الذين حكموا البلاد خلال العقد الماضي، وغضّ الطرف على أخطاء مرحلتي بورقيبة وبن علي، بهدف افتكاك مزيد من المواقع لرموز النظام السابق. ويتهم هؤلاء حكومة هشام المشيشي بكونها «تعتمد أساساً على وزراء كانوا من نشطاء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يقوده بن علي»، وبكون «غالبية المسؤولين في الدولة اليوم من رموز النظام القديم ومن خريجي المدرسة العليا للإدارة التي لم يكن المعارضون في عهد بورقيبة وبن علي يدخلونها». وبالفعل، تشير استطلاعات الرأي أن شعبية ممثلي «الحزب الدستوري الحر» بزعامة عبير موسي (أبرز مناصري عهدي بورقيبة وبن علي) في ارتفاع بسبب أخطاء السياسيين وقادة الأحزاب والنقابات الذين تداولوا على السلطة خلال الأعوام العشرة الماضية.
إلا أن هذا المناخ لا يبرر الحديث عن «سيناريو» انهيار الدولة والطبقة السياسية الحالية في نظر الباحث والأكاديمي سعيد بحيرة، والخبير السياسي المنصف عاشور، والخبير الاقتصادي ماهر قلال. وحسب هؤلاء، ثمة أسباب عديدة لذلك من بينها عراقة المؤسسات في تونس، ووجود إرادة لدى غالبية صناع القرار في مختلف الأحزاب والنقابات على تجنب دفع البلاد نحو «سيناريو الفوضى الشاملة» أو نحو «منعرج عسكري»، رغم إقرار الجميع بأن خطورة الوضع الراهن غير مسبوقة.
- مبادرة لـ«الحوار الوطني» تحت إشراف الرئيس والنقابات
قدمت قيادة اتحاد نقابات العمال في تونس مبادرة لتنظيم حوار وطني يشرف عليه رئيس الدولة. ولقد رحّب بها الرئيس قيس سعيّدـ بالفعل. وتذكّر هذه الخطوة بمبادرة مماثلة قدمتها القيادة النقابية وزعامات في المجتمع المدني وقيادات نقابات رجال الأعمال والفلاحين عام 2013 عندما تأزمت العلاقة بين حكومة حزب النهضة وخصومها. وكانت حصيلة ذلك الحوار اتفاقاً على أن يغادر قادة حزب «حركة النهضة» وحلفاؤهم الحكم، ويسلموا السلطة إلى «حكومة تكنوقراطيين». وهي الحكومة التي أشرفت على البلاد لمدة سنة نظّمت خلالها انتخابات عامة فاز فيها بالمرتبة الأولى حزب «نداء تونس» بزعامة الباجي قائد السبسي الوزير والمسؤول السابق في الدولة في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
المبادرة الجديدة نصّت على أن الهدف من الحوار الوطني المقترح هو «إنقاذ تونس عبر صياغة عقد اجتماعي جديد قبل أن تسقط في الفوضى التي بات الاتحاد يراها خطراً يهدد البلاد». وعبّرت وثيقة المبادرة عن انشغال من «اهتزاز الثقة في الدّولة وفي مؤسّساتها مقابل صعود الشعبوية العنيفة وبروز النعرات الجهوية والفئوية والتفكّك الواضح للنسيج الاجتماعي التونسي والتنافر العدائي داخل نخبه». وحذّرت الوثيقة من كون الاحتجاجات الجهوية والقطاعية الأخيرة «تتزامن مع أزمة غير مسبوقة تعيشها تونس وتهدّد سيادتها ووحدة ترابها ومكاسب دولة الاستقلال مثل مدنية الدولة والمنظومات العمومية، في ظل تنامي ضعف الدولة بما يؤشّر إلى قرب تفكّكها وانفجار الأوضاع والدخول في المجهول، كما يهدد السلم الأهلي وفق مضمون المبادرة التي تعتبر أن العشرية الحالية امتازت بالعجز الواضح للطبقة السياسية».
هذا، وتضمنت المبادرة خطة تعتمد على ثلاثة محاور: محور سياسي وآخر اقتصادي وثالث اجتماعي. واعتبرت وثيقة المبادرة أن آلية الإشراف على الحوار الوطني المقترح هي «هيئة حكماء - وسطاء» من الشخصيات الوطنية المستقلّة تعمل تحت إشراف رئاسة الجمهورية، التي تشكلها وتحدد مهامها في إدارة الحوار وتقريب وجهات النّظر والتّحكيم بين كلّ الأطراف المعنيين بالحوار «وفق روزنامة معقولة ومسقّفة زمنياً».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.