ديبرصيون جبريميكئيل... الزعيم {الخجول} يقود تمرّد التيغراي ضد الحكم الإثيوبي

مدمن عمل يهوى التنس والاتصالات

ديبرصيون جبريميكئيل... الزعيم {الخجول} يقود تمرّد التيغراي ضد الحكم الإثيوبي
TT

ديبرصيون جبريميكئيل... الزعيم {الخجول} يقود تمرّد التيغراي ضد الحكم الإثيوبي

ديبرصيون جبريميكئيل... الزعيم {الخجول} يقود تمرّد التيغراي ضد الحكم الإثيوبي

لم يكن أحد يتوقع أن ذلك الرجل الذي يصفه أصدقاؤه بـ«مدمن العمل الخجول»، الذي يعشق العمل في الخفاء، والذي كان دائماً يقول إن «هدفه تحقيق التنمية التكنولوجية باعتبارها المحرك الرئيسي لتقدم شعبه»، سيكون اليوم تحت الأضواء بصفته محركاً للصراع في إقليم التيغراي الإثيوبي، وواحداً من الأسماء على قائمة المطلوبين
من قبل الحكومة الإثيوبية.
لكن على ما يبدو أن ديبرصيون جبريميكئيل، زعيم إقليم التيغراي، كان يعد لهذا الصراع منذ فترة، عندما دعا الشباب، في أحد المؤتمرات في ميكيلي، عاصمة الإقليم عام 2018، إلى «الاستعداد لكل الاحتمالات»؛ وذلك عقب هزيمته في الانتخابات أمام التحالف الحاكم الآن برئاسة آبي أحمد في أبريل (نيسان) 2018.
للعلم، معظم سكان إقليم التيغراي من المسيحيين الأرثوذكس، ويضم الإقليم الواقع في شمال إثيوبيا أنقاض مدينة أكسوم، إحدى المدن المسجلة على قائمة التراث العالمي، ويرجع تاريخها للفترة ما بين القرن الأول والقرن الثالث عشر، وتضم قلاعاً ومقابر ملكية وكنيسة، وتعتبر اللغة التيغرينية، هي اللغة الرئيسية في الإقليم، ومن أهم موارده
محصول السمسم.

ديبرصيون جبريميكئيل، الرجل الذي دفعت به الأحداث إلى واجهة السياسة الإثيوبية، من مواليد عام 1950 في إقليم التيغراي بشمال إثيوبيا. نشأ وترعرع في مدينة شيرا إندا بالإقليم، حيث عُرف بين أصدقائه بـ«فتى المدينة الذكي المتحفظ». وهو متزوج وأب لطفل، وهو إن كان يهوى ممارسة الرياضة – وبالأخص، كرة المضرب (التنس) – فإنه يعشق العمل والسياسة أكثر، حتى إنه كان يعمل في الإجازة، يوم السبت. وحقاً يصف جبريميكئيل حياته بأنها «غريبة»؛ إذ استطاع أن ينتقل من مقاتل غير نظامي، يختبئ في جبال التيغراي الوعرة، إلى سدة الحكم فيغدو وزيراً للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ونائباً لرئيس للوزراء، ورئيساً لإقليم التيغراي. وهو دينياً ينتمي إلى أسرة مسيحية أرثوذكسية، ويعني اسمه الأول «جبل صهيون»، بينما يعني اسم والده «خادم القديس ميخائيل».
- بداية النضال
تميّز جبريميكئيل منذ صغره بتحصيله العلمي؛ إذ كان يوصف بأنه «أفضل طلاب الإقليم، وكان دائماً يحصل على درجات ممتازة». ويقال إنه برع منذ صغره في التكنولوجيا، حيث كان يصلح البطاريات والمعدات الكهربائية، واستطاع أن يصنع مصباحاً من الخردة عندما طالب في المرحلة الابتدائية. لكن يبدو أن طموح فتى المدينة السياسي، كان أكبر من طموحه العلمي؛ إذ ترك جامعة أديس أبابا في عقد السبعينات من القرن الماضي، لينضم مراهقاً إلى صفوف المقاتلين في الحرب التي كانت تقودها جبهة تحرير التيغراي ضد نظام الحكم الماركسي في إثيوبيا في ذلك الوقت. ومعلوم، أن جبهة تحرير التيغراي هي حركة ثورية إثيوبية قادت حرباً ضروساً لمدة 17 سنة، ضد نظام الحكم الماركسي، واستطاعت الانتصار... ومن ثم السيطرة على السلطة منذ عام 1991 وحتى مجيء آبي أحمد في انتخابات عام 2018، عندما خسرت فيها الجبهة والتحالف الذي تمثله بعدما أصبحت نموذجاً للقمع السياسي على مدار أكثر من 27 سنة.
بعد ترك جبريميكئيل الجامعة وصعود السياسي والعسكري ضمن صفوف جبهة تحرير التيغراي في السبعينات، تولى عام 2005 منصب مدير هيئة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الإثيوبية. وأطلق عام 2007 مشروعاً للبنية التحتية للاتصالات بتكلفة مليار ونصف المليار دولار، وفي عام 2012 عُيّن وزيراً للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ونائباً لرئيس لوزراء. وبعدها، في عام 2015 ساهم في إطلاق منطقة تجارة حرة مع السودان، وفي عام 2017 قاد مشروع إنشاء حديقة تكنولوجية، وكان عازماً على إنشاء المزيد من حدائق التكنولوجيا، وفي العام نفسه انتخب رئيساً لجبهة تحرير التيغراي، ثم في يناير (كانون الثاني) عام 2018 انتخب نائباً لرئيس إقليم التيغراي.
ويبدو أن تميز جبريميكئيل العلمي، دفع قادة الجبهة في وقت مبكر إلى ضمه للوحدة الفنية، وهناك ساهم في تطوير قدرات الجبهة الاستخباراتية، وبالذات لجهة التجسس على محادثات الجيش الإثيوبي، والتشويش على اتصالاته اللاسلكية، وهو ما لعب دوراً كبيراً في تمكين الجبهة من الانتصار في الحرب. وعن تلك المرحلة يقول جبريميكئيل، ضمن تصريحات منشورة في كتاب «سياسة الاتصالات في أفريقيا» لإيجينو غالياردوني، إن «الاتصالات كانت محور المعركة، بل كانت عنصراً أساسياً في كفاحنا». ويضيف «كنا نحتاج فعلاً لتحويل الناس لجعلهم يفكرون بطريقة مختلفة، ودون اتصالات جيدة وعميقة لن تتمكن من تغيير الناس».
- إذاعة صوت الثورة
وبالفعل، لتطوير مهاراته الفنية، أرسلته الجبهة إلى إيطاليا بجواز سفر مزور لدراسة تكنولوجيا الاتصالات. وفور عودته عمل مع فريق من أعضاء الجبهة على إطلاق إذاعة باسم «ديمتسي وياني» - التي تعني «صوت الثورة» – عام 1980، وقادت هذه الإذاعة حرباً دعائية ضد النظام الماركسي الحاكم في البلاد بقيادة منغستو هيلا مريام. واشتهر جبريميكئيل في تلك الفترة كأحد «أبرز المقرصنين الإلكترونيين» الذين كانوا يقودون عمليات التشويش والقرصنة على أنظمة بث الراديو والتلفزيون للنظام. كما «كانوا يحمّلون معدات البث الصغيرة على الحمير والجمال ويختبئون في الجبال من أجل تفادي تعقبهم»، بحسب ما ذكره نيكول ستريملو في كتابه «الإعلام، الصراع، والدولة في أفريقيا».
وللعلم، ما زالت هذه الإذاعة موجودة حتى الآن، جزءاً من مجموعة إعلامية متعددة اللغات، مقرها ميكيلي عاصمة إقليم التيغراي. ولعبت هذه الإذاعة دوراً يستحق الذكر إبان الصراع الأخير، حين أصدرت بيانات ضد آبي أحمد؛ ما عرّضها للتشويش، قبل أن تعود للبث مرة أخرى.
من ناحية أخرى، عقب انتصار جبهة تحرير التيغراي، في حربها التي استمرت 17 سنة، وسيطرتها على الحكم عام 1991، التحق جبريميكئيل بجامعة أديس أبابا مجدداً، وحصل منها على شهادة البكالوريوس والماجستير في الهندسة الإلكترونية، ووفق المعلومات المتوافرة فإنه حصل على دكتوراه عن بعد من جامعة كابيلا (جامعة أميركية ربحية) عام 2011، عن «اتجاهات مستخدمي التكنولوجيا وفاعلية التكنولوجيا في مكافحة الفقر في إثيوبيا». ويظهر في تصريحات جبريميكئيل المتكررة اهتمامه الكبير بالتكنولوجيا والتحول الرقمي، لكنه في الوقت ذاته يرى أن تغيير عقل البشر وطريقة تعاملهم مع التكنولوجيا هو أهم تحدٍ يواجه عملية التحول الرقمي.
- اتهامات بالقتل والتعذيب والتجسس
ولكن، بعيداً عن التكنولوجيا، كانت سياسة ديبرصيون جبريميكئيل وطريقته في الإدارة ولا تزالان محل خلاف بين أنصاره ومعارضيه؛ ما يجعلك المرء عندما يقرأ عنه يشعر وكأنه أمام شخصين مختلفين، فهو بين أنصاره رجل خجول، ومتحفظ، وودود، ومجامل، وبخاصة مع الأجانب. ولقد قاد برامج إصلاحية، وساهم في تنمية البلاد تكنولوجيا، ودائماً ما يقول إن «بابه مفتوح للجميع»... ثم إنه هو خبير اتصالات مؤمن بأهمية التكنولوجيا في تنمية المجتمع. وسبق له أن قال في أكثر من لقاء، إن «التكنولوجيا هي محرك التنمية، ولا بد معها من تغيير العقول والثقافة، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه عملية التحول التكنولوجي».
ومما لا شك فيه أنه ساهم في تحسين الخدمات العامة بإطلاق برنامج دعم القدرات التكنولوجية، كما تولى خلال فترة وجوده في الحكومة الإثيوبية إدارة تحالف الطاقة الكهربائية، وحاول تحديث قطاع الطاقة الذي يخدم 115 مليون شخص، وأشرف على مشروع «سد النهضة»، واستمر في منصبه حتى تولي آبي أحمد الحكم. كذلك كان له دور مهم دور في توسيع خدمات تغطية الهاتف المحمول، وإنشاء حديقة لتكنولوجيا المعلومات في أديس أبابا.
غير أن لمعارضيه آراء أخرى فيه، فهو بالنسبة لهم هذا الرجل الذي كان واحداً من القيادات في إدارة جبهة تحرير التيغراي الأمنية، وحمل اسم 06. وهذه الإدارة متهمة بتعذيب وقتل مقاتلي الجبهة الذين لا يعتنقون آيديولوجيتها، وأيضاً المدنيون الذين يرفضون دعم الجبهة وأفكارها، ويُقال إن جبريميكئيل شارك مع زملائه في الإدارة الأمنية في قتل عدد غير محدود من المقاتلين.
في أي حال، بعدما التحق جبريميكئيل بالعمل السياسي عام 2005، عُيّن مديراً لوكالة المعلومات وتنمية الاتصالات الإثيوبية – التي كانت قد أسست عام 1995، وكذلك تولى منصب نائب مدير هيئة الاستخبارات الوطنية، وكان مسؤولاً عن إدارة برنامج للتحكم في الخدمات التكنولوجية الحكومية، وهو ما أتاح له مراقبة الإيميلات والمعلومات الشخصية للمعارضة والصحافيين، والمدنيين، وفقاً لتقارير منظمات حقوق الإنسان. ومن ثم، فإنه يتهم بكونه جزءاً لا يتجزأ من «سياسة حكومية» تهدف للسيطرة على الاتصالات واحتكارها من قبل الدولة، وقطع خدمات الإنترنت عن الشعب إبان الاحتجاجات. ومع أنه أصبح «الرجل القوي» بعد وفاة مِلِس زيناوي، رئيس وزراء إثيوبيا في الفترة من عام 1995 وحتى 2012، فإن المراقبين يرون أن المقارنة بين الرجلين ليست في صالح جبريميكئيل؛ إذ إن زيناوي كان متحدثاً لبقاً ولسناً، بعكس جبريميكئيل الذي يوصف بالخجل والهدوء وقلة الكلام، كما أنه «لا يحظى بكاريزما سياسية تمكنه من جمع الناس حوله».
- في قيادة الإقليم
انتخب ديبرصيون جبريميكئيل – كما سبقت الإشارة – رئيساً لحزبه عام 2017، وأصبح رئيساً لإقليم التيغراي بعد انتخابات عقدت في سبتمبر (أيلول) الماضي، حاصلاً على نسبة 98 في المائة من الأصوات. إلا أن حكومة آبي أحمد ادعت أن تلك الانتخابات غير شرعية، إذ اتخذت الحكومة قراراً بتأجيلها بسبب تداعيات ڤيروس «كوفيد - 19»، وهو ما أشعل الصراع بين آبي أحمد وجبريميكئيل، ليصار على الأثر إلى وضع الأخير على قوائم المطلوبين الذين تلاحقهم الحكومة حالياً.
جبريميكئيل ما زال يرفض التفاوض، معلناً استمراره في الدفاع عن أرضه، وقائلاً «نحن رجال مبادئ ومستعدون للموت دفاعاً عن حقنا في إدارة منطقتنا». ولكونه يعتبر نفسه أحد المقاتلين الذين قدموا كل شيء من أجل مصلحة الشعب والأمة، فإنه يتحدى، مؤكداً «لا يمكنني التراجع، ومهما كانت الظروف سأبذل قصارى جهدي لأقدم المزيد».
جدير بالذكر، أن الصراع بين الرجلين يعود إلى عام 2018، عندما كان فاز آبي أحمد في المنافسة على منصب رئيس التحالف الحكومي، ويومذاك كان جبريميكئيل بين المرشحين، لكنه لم يحصل سوى على صوتين، وفي ذلك الحين علّق قائلاً «آبي أحمد غير ناضج، وهو ليس المرشح المناسب»، وفي الحقيقة، لم تكن هذه النتيجة غريبة بعد سنوات من حكم التحالف الذي تسيطر عليه جبهة تحرير التيغراي، بالديكتاتورية وقمع المعارضة.
لكن الهزيمة المتوقعة لم تمنع عبارات الود والترحيب المتبادلة في بداية حكم آبي أحمد، عندما قال رئيس الوزراء الإثيوبي، إن «التيغراي رحم إثيوبيا، وهي المكان الذي تعرّض فيها الغزاة للهزيمة، وفيه يُطهى تاريخنا»، بينما رحب جبريميكئيل باتفاق السلام الذي وقعه آبي أحمد مع إريتريا منهياً حالة الجمود السياسي بين البلدين، بعد سنوات النزاع الحدودي من 1998 و2000، وقال إنها «اتفاقية كبيرة ستوفر فرصاً هائلة للبلاد». وهنا، نذكر أنه كان هناك تحالف طال لمدة 17 سنة بين جبهة تحرير التيغراي والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، حيث خاضت الجبهتان الحرب معاً للإطاحة بحكم منغستو هيلا مريام... تلك الحرب التي راح ضحيتها نحو 60 ألف شخص، وتسببت في تشريد مئات الآلاف. وبعد انتهاء الحرب دعم مِلِس زيناوي، صديقه آسياس أفورقي (الزعيم الإريتري) للحصول على الاستقلال في مايو (أيار) 1991، إلا أن التحالف لم يدم طويلاً. إذ بدأت إريتريا المطالبة بترسيم الحدود، وهذا ما أشعل صراعاً بين البلدين في جولتين عامي 1998 وعام 2000، إلا أن جاء آبي أحمد ووقع اتفاق سلام لإنهاء حالة الجمود السياسي بين البلدين، وكوفئ على هذا الإنجاز بمنحه جائزة نوبل للسلام.
أيضاً، لم تدم حالة الود بين جبريميكئيل وآبي أحمد طويلاً. فعندما أقدم آبي أحمد على حل الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية، وأسس حزب الازدهار، خلال العام الماضي - بهدف توحيد البلاد، بعيداً عن العرقيات - رفضت جبهة تحرير التيغراي الانضمام لحزب آبي أحمد الجديد، وانسحبت إلى إقليمها ليبدأ الصراع الخفي، ومن ثم اشتعل على الأرض قبل ثلاثة أسابيع.
- مخاوف الحرب الأهلية
مع أن ديبرصيون جبريميكئيل يعد من الزعماء الإصلاحيين في الإقليم، ودائماً ما يردد أنه «يسعى للتنمية وليس الحرب، حيث سمح لأربعة أحزاب جديدة بالظهور وخوض الانتخابات في إقليم التيغراي (وهي الانتخابات التي فاز بها برئاسة الإقليم)، إلا أنه على الأرض أصبح محركاً للصراع والحرب. هذه الحرب التي أجبرت نحو 40 ألف شخص من سكان إقليم التيغراي على الفرار إلى السودان، وشردت الآلاف، وأضرت بالبنية التحتية في المنطقة، وسط مخاوف من أن تدخل البلاد في حرب أهلية مدمرة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.