المياه تدخل قناة السويس الجديدة

خلية نحل من شرق القاهرة حتى العريش.. لتنفيذ وتأمين المشروع

أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})
أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})
TT

المياه تدخل قناة السويس الجديدة

أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})
أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})

يقود السائق المصري حسين حفارا ضخما لرفع الرمال من قناة السويس الجديدة، في شرق القاهرة، ويقول إنه في مثل هذه الأحوال، أي حين يبدأ المطر في صفع الوجوه مع الرياح الشديدة «كنا نطفئ المحركات ونبحث عن مكان للاختباء إلى حين تحسن الطقس»، لكن هذه رفاهية لم تعد موجودة لا له ولا بالنسبة للرجال هنا.
وبينما تنتشر العشرات من النقاط الأمنية بالتعاون بين الجيش والشرطة لمطاردة فلول المتطرفين في سيناء الواقعة على الضفة الشرقية لأهم ممر ملاحي في العالم، يصل ألوف العمال الليل بالنهار من أجل حفر 72 كيلومترا للقناة الجديدة الموازية للمجرى القديم. ويضيف حسين على هدير الحفار: «لم أر أولادي منذ أمر الرئيس عبد الفتاح السيسي بحفر القناة.. 4 أشهر وأنا هنا».

ومنذ إطلاقه في أغسطس (آب) الماضي، انخرط في العمل بالمشروع الجديد أكثر من 84 شركة، ونحو 23 ألفا من المهندسين والعمال وسائقي الشاحنات والحفارات في عملية أصبحت تحظى باهتمام رجال الاقتصاد والسياسة في العالم. ومع ذلك فإن الأمر يبدو أنه لا يتعلق بمجرد شق قناة جديدة فقط، بل بخطة تظهر معالمها أمامك، وأنت تعبر على طول الطريق من شرق القاهرة إلى قناة السويس وحتى سيناء.. خطة متكاملة ذات أبعاد أكبر مما تبدو عليه للوهلة الأولى. ويأتي هذا قبل نحو شهرين من المؤتمر الاقتصادي الذي سبق ودعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، لمساعدة القاهرة والمتوقع أن يعقد في مارس (آذار) المقبل في مصر.
ويراقب النائب البرلماني السابق عن محافظة السويس، عبد الحميد كمال، مشهد الحفر هنا، ويقول إن تنفيذ مشروع القناة الجديدة يسير بمعدلات كبيرة.. هم يسابقون الزمن ويعملون على مدار 24 ساعة عبر 3 ورديات يوميا، مشيرا إلى أن «الجدوى الاقتصادية الضخمة لهذا المشروع العالمي الذي ستستفيد منه مصر وحركة الملاحة والتجارة في العالم.. معدلات العمل مرتفعة لإنجاز أكبر قدر من المشروع قبل المؤتمر الاقتصادي المنتظر».
وخسرت مصر مليارات الدولارات منذ «ثورة 25 يناير 2011»، بسبب الاضطرابات السياسية التي ظهرت معها التنظيمات المتطرفة، وقيام أكثر من 10 آلاف من المتشددين بالتحصن في سيناء خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي التي استمرت لمدة سنة.
وتسلم السيسي رئاسة الدولة المصرية وهي تعاني من نقص حاد في الطاقة وفي المخزون الاستراتيجي من الغذاء مع تراجع كبير في احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي. أضف إلى ذلك الضغوط التي تعرض لها السيسي نفسه من جانب الكثير من الدول الغربية عقب انحيازه وهو وزير للدفاع لرغبة الشعب المصري في التخلص من حكم جماعة الإخوان ومرسي.
لكن مصر تمكنت بمساعدة عدد من الدول العربية وعلى رأسها السعودية من فرض إرادتها في المجتمع الدولي خلال بضعة أشهر فقط، كما تمكنت بمساندة من الأشقاء العرب من سد الاحتياجات الأساسية للشعب خاصة من الوقود والكهرباء. ويقول مصدر في الرئاسة المصرية إن السيسي، وحتى قبل أن يخوض الانتخابات الرئاسية، كان يرى أن البلاد مقبلة على مرحلة مصيرية، وأنه كان يقول: «إما أن نكون أو لا نكون.. وأن مصر إذا لم تتجاوز الكبوة التي وقعت فيها، فإنها لن تقوم لها قائمة لسنوات طويلة».
ويوضح النائب كمال وهو يتابع حفارا ضخما يرفع الرمال من مجرى القناة الجديدة إن «مشروع القناة أوجد منذ الآن فرص عمل كبيرة جدا كانت مصر في حاجة ملحة إليها للتغلب على المشكلة الاقتصادية المزمنة التي تعاني منها.. اليوم أصبحت توجد فرص للآلاف من العمالة الفنية والعمالة العادية وسائقي الشاحنات والحفارات واللوادر والمهندسين. هذه فرص عمل لم تكن متاحة هنا. وحركة تنشيط بالمنطقة لم تكن موجودة، وأصبح الآن يمكن أن ترى أفقا للاستثمار. وبالأمس بدأت مجموعات جديدة تتدرب على تشغيل آليات حفر مستوردة من الخارج.. هذا تحضير لأفق اقتصادي واجتماعي كبيرين».
ورغم أن السيسي كان مترددا في خوض انتخابات الرئاسة حتى لا يقال: إن انحيازه وهو وزير للدفاع لثورة الشعب ضد الإخوان في صيف 2013 هدفها تولي السلطة.. ورغم أنه لم يتقدم للشعب ببرنامج انتخابي محدد، فإن الغالبية العظمى من المصريين كانت تضغط عليه من أجل أن يترشح للرئاسة وأن يقود مصر للمستقبل.
ويقول أحد المقربين من السيسي: «حين اتخذ قرار خوض الانتخابات وخلع البدلة العسكرية وارتداء البدلة المدنية، اغرورقت عيناه بالدموع، لسببين.. الأول أنه لم يكن يرغب في ترك المؤسسة العسكرية التي أمضى فيها معظم حياته الوظيفية. والثانية أنه كان يدرك حجم التحديات التي أمامه، وحاجة مصر إلى نهضة شاملة في وقت وجيز. الرئيس قال حين تولى المسؤولية سنعبر عنق الزجاجة خلال سنتين، وهذا ما يجري بالفعل على أرض الواقع».
ومن خلال حديث مطول مع عدد من القادة العسكريين على ضفة قناة السويس، يبدو أن السيسي أخذ على نفسه عهدا بعدم إطلاق الوعود البراقة للشعب، وأن يقدم بدلا منها عملا حقيقيا على الأرض. فعلى الجانب الشرقي من القاهرة، سواء كنت تسلك الطريق الواصل من العاصمة إلى السويس أو إلى الإسماعيلية أو إلى بورسعيد وسيناء، يمكنك بكل سهولة أن ترى عملية بناء جديدة تشمل توسيع الطرق ونصب الجسور والكباري وحفر الأنفاق.. حتى تصل إلى قناة السويس نفسها التي تعبر منها عشرات الألوف من سفن العالم سنويا.
تتوقف الحافلة في الطريق المجاور للقناة. هنا مدينة الإسماعيلية التي تتوسط جانب المجرى من ناحية الغرب. أنت الآن على مرمى حجر من سيناء التي تقترن الأخبار عنها بالعمليات الإرهابية اليومية، لكن كل هؤلاء العمال الذين يشقون قناة جديدة يبدو أن لديهم ثقة في أن مستقبل المتطرفين إلى زوال. ويقول حسين وهو يقود الحفار: «القتل والتفجير لا يبني مستقبلا لأولادنا. المستقبل في العمل».
ومن داخل بستان من البرتقال الذي تشتهر به مدن قناة السويس، يلقي النائب كمال نظرة على إحدى السفن العملاقة وهي تعبر القناة في طريقها إلى البحر الأحمر قائلا إن «من خلال مشروع الممر الملاحي الجديد ومن خلال الحرب على الإرهاب في سيناء، تستطيع أن تقول إن مصر تبني بيد وتحمل السلاح باليد الأخرى لحماية الشعب من خطر المتطرفين.. وفي النهاية هذا أمر عظيم، خاصة أن القوات المسلحة والشرطة تبذلان مجهودا كبيرا جدا من أجل مقاومة الإرهاب. وبعد أحداث فرنسا وبعد العمليات الإرهابية في عدة بلدان وبعد ظهور داعش، بدأ العالم كله يشعر بمخاطر الإرهاب، وهذا ما سبق وحذر منه الرئيس السيسي».
ويطارد كل من الجيش والشرطة، منذ نحو سنتين من يسميهم بـ«التكفيريين» خاصة في المنطقة المحاذية لحدود سيناء مع قطاع غزة. وتمكنت القوات الأمنية من محاصرة أوكار المتطرفين بعد أن أزالت عشرات المباني السكنية التي تحولت في الماضي لمراكز للتهريب عبر الأنفاق بين غزة وسيناء. وأجرى الجيش مداهمات جديدة في المناطق الحدودية في الشيخ زويد ورفح. وشدد الفريق أول صدقي صبحي وزير الدفاع على أنه «لا تهاون مع من يحاول العبث باستقرار الوطن».
وتنتشر على جانبي الطريق الواصل من القاهرة إلى الإسماعيلية مئات المزارع الكبيرة ويمكن أن ترى الثمار الملونة وهي تتدلى من الأشجار الخضراء. وعلى غير المعتاد في الطرق المصرية، أصبح هناك «دوريات أمنية متحركة» بكثافة، بحيث إنه لا يمكن أن يساورك القلق من حوادث الخطف والإرهاب، كما يقول سائق السيارة الأجرة الذي ظل يعدد طوال الطريق محاسن الرئيس السيسي وما يقوم به من مشروعات. ومن هنا تستطيع أن تعبر القناة إلى داخل مدينة العريش عاصمة محافظة شمال سيناء، وهي منطقة أصبحت مدرجة ضمن المستفيدين من فتح مجالات العمل في السويس.
ويقول رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب: «مصر أصبحت تسير على طريق واضح من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية»، في إشارة إلى قرب عقد المؤتمر الاقتصادي والبدء في إجراءات انتخاب أول برلمان في عهد السيسي. وتجري عملية حفر القناة الجديدة على مرحلتين باستخدام ما يزيد عن 4500 من الآليات المتنوعة.. المرحلة الأولى: الحفر على الناشف لرفع 258 مليون متر مكعب من الرمال. والمرحلة الثانية حفر الرمال المختلطة بالمياه (التكريك) وتبلغ كميتها 242 مليون متر مكعب.
وكان هذا أول يوم لفتح المياه من القناة القديمة إلى القناة الجديدة. وكان يمكن لمركب صغيرة (لنش) أن تعبر مسافة 600 متر للانتقال لأول مرة من القناة القديمة والإبحار فوق مياه القناة الجديدة وبطول نحو كيلومتر، بينما كان العمال يديرون الآلات العملاقة لضخ الرمال المغمورة بالمياه بعيدا عن مجرى القناة الجديدة من الجانبين الشمالي والجنوبي.
وتربط قناة السويس، التي افتتحت للملاحة لأول مرة قبل 150 سنة بحضور قادة العالم في ذلك الزمان، بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وتستخدم طريقا بحريا مختصرا بين شرق العالم وغربه، بدلا من طريق رأس الرجاء الصالح البعيد، والواقع في جنوب القارة الأفريقية، والذي يكلف دوران السفن من حوله الكثير من الوقت والمال.
وتعبر من قناة السويس الحالية أكثر من 18 ألف سفينة سنويا، وتحقق أرباحا لمصر قدرها 4.86 مليار دولار سنويا. لكن مشروع القناة الجديدة سيتيح إمكانية عبور نحو 27 ألف سفينة سنويا. والأهم مضاعفة الدخل القومي لمصر من العملات الأجنبية بنسبة تقدر بنحو 260 في المائة.
ويعد هذا من أكبر المشروعات القومية في مصر منذ عقود. وكانت المدة المقررة للانتهاء منه 5 سنوات ليكون جاهزا أمام حركة الملاحة الدولية، لكن الرئيس السيسي، الذي يسعى لإخراج بلاده من دائرة الفقر والعوز، رد على منفذي المشروع بقوله إنه لا بد أن ينتهي خلال سنة واحدة. ويوضح رئيس هيئة قناة السويس، الفريق مهاب مميش: أجبتُ الرئيس وقلت له، كرجل عسكري، إن الأمر قد جرى تنفيذه بالفعل؛ أي أن المشروع سينتهي في أغسطس المقبل.
وتحرك «اللنش» من أمام مرسى نادي الزهور، على مجرى القناة القديم، بينما كان الجنود والموظفون يلوحون بالأعلام الوطنية من بعيد احتفاء بعدد من المستثمرين المصريين والعرب والأجانب الذين كانوا قد انطلقوا في «لنش» آخر لتفقد عمل الشركات التابعة لهم في حفر المجرى الجديد للقناة، بصحبة اللواء كامل الوزير، رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المشرفة على المشروع.
وفي الخلفية، على رصيف الميناء، كانت فرقة الموسيقى العسكرية بملابسها الحمراء، تعزف الأناشيد الوطنية، ومن بينها نشيد «خلي السلاح صاحي». ومن وسط القناة حلقت طيور البحر حول ناقلة بضائع عملاقة قادمة من آسيا وفي طريقها إلى البحر المتوسط. وخرج أحد البحارة فوق السطح، وأخذ يشير بعلامة النصر بأصابعه.
وهبت الرياح الباردة مجددا وبدأ رذاذ المطر يختلط برذاذ مياه القناة المالحة.. وأمسك أحد مسؤولي بنك الإمارات دبي الوطني، وهو ألماني الجنسية، بالحاجز حيث كان يجلس فوق اللنش البحري الصغير متجها إلى نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 جنوب القناة، وهذا المكان هو الذي جرى فتحه من أجل دخول المياه من القناة القديمة إلى القناة الجديدة. وسينتهي حفر 3 قنوات اتصال أخرى بين القناتين خلال أسابيع. ويتراوح عرض اليابسة الذي تفصل بين القناتين بين 500 متر وحتى 4 كيلومترات. وستقام على هذه الأراضي التي تشبه الجزر منتجعات سياحية ومراكز خدمية وغيرها.
وهنا تمكن العمال تحت روافع الحفارات العملاقة من إزالة ملايين الأمتار المربعة من الرمال، وفي كل يوم يزيحون من أمامهم كثبانا رملية جديدة لفتح مسافة يصل طولها إلى 72 كيلومترا. وفي يوم الجمعة كان يمكن التجول بواسطة مركب، لأول مرة، فوق القناة الجديدة.
ورغم سوء أحوال الطقس في مثل هذا الوقت من السنة، يستمر العمال في شق المجرى الملاحي الجديد في تحد لكل الظروف. ويقول محمود بشير، وهو سائق شاحنة من مدينة أسيوط بجنوب البلاد، إن العمل في مشروع القناة الجديدة أنقذه من البطالة بعد أن كان يستخدم شاحنته في نقل البضائع إلى ليبيا التي تعاني في الوقت الحالي من الاضطرابات السياسية والأمنية. ويضيف أنه كان يعمل سائق شاحنة في العراق أيضا حتى أواخر الـتسعينات من القرن الماضي، وعاد إلى مصر بسبب الحرب في العراق وقتذاك.
ومن المعروف أن معاناة مصر مع البطالة ارتفعت بشكل كبير بعد التداعيات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، سواء في العراق أو فيما بعد في ليبيا التي كان يعمل فيها نحو مليوني مصري. ويضيف أحمد عبد المجيد، من محافظة بورسعيد المجاورة، وهو مهندس متخصص في إصلاح مضخات «التكريك»، أي طرد الرمال المشبعة بالمياه في مجرى القناة الجديد، وهو نوع من المضخات العملاقة، إن عملية «التكريك» بدأت تأتي بنتائج طيبة بالفعل منذ عدة أسابيع، وحولت أرضية القناة الجديدة من رمال جافة إلى مستنقعات.
ويبلغ إجمالي كميات الرمال المبللة من خلال أعمال «التكريك» نحو 242 مليون متر مكعب. وتبلغ كلفة طرد هذه الرمال من المجرى الجديد نحو ملياري دولار وتقوم بها 22 كراكة تابعة لشركات عالمية وأخرى لهيئة قناة السويس. وبالإضافة للشركات المحلية توجد أيضا شركات تعمل في المشروع من الولايات المتحدة والإمارات وهولندا وبلجيكا وغيرها. وجاء خبر جديد عبر الهاتف عن وصول كراكتين جديدتين للمشاركة في الحفر، من أجل سرعة إنجاز المشروع هما الكراكة «بلس1» و«بلس2». ويقول مسؤولو القناة إنه بنهاية الشهر الجاري سيصل إجمالي الكراكات إلى 36 كراكة.
ويضيف المهندس عبد المجيد أن «هذه المستنقعات ستتحول سريعا بفعل التكريك إلى مجرى مائي بعمق مترين على الأقل خلال الأسابيع المقبلة، وبعد ذلك تبدأ أعمال تعميق القناة لتكون متاحة لعبور السفن بحلول الصيف المقبل». وتسلم عبد المجيد مثل الآلاف من زملائه هنا أطقم جديدة من الملابس الشتوية التي وفرتها القوات المسلحة مع بطاطين ولوازم معيشة إضافية.
وعلى التلال الرملية وفي الحدائق القريبة من مكان العمل، جرى نصب عشرات الخيام والشقق المتنقلة (كرافانات)، بعضها مخصص للسكن وبعضها الآخر للخدمات الأمنية والعيادات الطبية والاتصالات الهاتفية. وشهد مركز الاتصالات زحاما من جانب العمال أثناء احتفالات المصريين بالمولد النبوي وبليلة رأس السنة. ويقول عبد المجيد: لم يكن هناك وقت للإجازة، وأسرتي تتفهم هذا. قلت لزوجتي عبر الهاتف أن تشتري هدايا المولد للأولاد ولم تتذمر كما كانت تفعل في السابق. هي تعرف أن العمل لن يتوقف هنا حتى يتم وينتهي في وقته المحدد إن شاء الله.
وفي الجانب الآخر من الكثبان الرملية كان أحد العمال يصيح وهو يرشد سائق الشاحنة التي كانت ترجع إلى الخلف لنقل مزيد من الرمال بعيدا عن الشاطئ الجديد للقناة. وستقام على طول الشاطئ الشرقي للمجرى الجديد، مزارع سمكية ومشاريع للصيد البحري وغيرها. وعلى تل رملي يشرف على القناة كان يقف نحو 7 من رجال الجيش يحرسون الموقع. وعلى جانب القناة تمر الدوريات لتأمين السفن العابرة للقناة.
ويقول مسؤولو الأمن هنا إن «الإرهابيين الذين جرى تضييق الخناق عليهم في سيناء حاولوا ضرب المشروع، وفشلوا». وفي اليوم التالي تمكنت قوات الأمن من ضبط 4 قال مدير أمن بورسعيد، اللواء إسماعيل عز الدين، إنهم «من عناصر جماعة الإخوان الإرهابية»، وكانوا يستقلون سيارة ويقومون بتصوير المجرى الملاحي للقناة ونقاط التفتيش على طريق «بورسعيد - الإسماعيلية» في محاولة لاستهدافها. كما عثر بالسيارة على «منشورات تحريضية ضد أجهزة الدولة».
وتتلخص فكرة المشروع في إنشاء قناة موازية يبلغ طولها 72 كيلومترا، منها 35 كيلومترا بالحفر الجاف وتوسيع وتعميق 37 كيلومترا من القناة الأصلية التي يبلغ طولها، من البحر الأحمر حتى البحر المتوسط، 190 كيلومترا.
ويتضمن مخطط المشروع تنمية 42 قطاعا آخر من بينها تطوير الطرق التي تربط القاهرة بالمدن الواقعة في الشرق، وهي مدن القناة وسيناء. واستحداث أنفاق للربط بين ضفتي القناة، وكذلك إقامة مطارين، و3 موانئ لخدمة السفن، ومحطات لتموين السفن العملاقة وغيرها. كما يشمل المشروع إقامة وادي السيليكون للصناعات التكنولوجية المتقدمة، وإنشاء منتجعات سياحية ومدن جديدة على طول القناة، مما سيسهم في توفير أكثر من مليون فرصة عمل.
أما الهدف من إقامة المجرى الملاحي الجديد فيتلخص في عدة نقاط استراتيجية واقتصادية وأمنية.. ويقول أحد كبار الضباط من المشرفين على تنفيذ المشروع إن تطوير قناة السويس سواء بإقامة المجرى الجديد أو بتعميق المجرى القديم: «قضية استراتيجية» لأنه يقضي تماما على المشروع المنافس الذي كانت تريد أن تقوم به إسرائيل، والمعروف باسم «إيلات – أشدود» لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط سواء عن طريق قناة مائية أو خط سكة حديد.
أما اقتصاديا فإن المشروع سيعزز الدخل القومي المصري من العملات الأجنبية، ويقلل في الوقت نفسه من تكلفة الرحلة البحرية لملاك السفن ويزيد الطلب على استخدام القناة كممر ملاحي رئيسي عالمي، ويرفع من درجة تصنيف القناة، مع توقع ارتفاع النمو في حجم التجارة العالمية مستقبلا.
وفيما يتعلق بالشق الأمني يأمل القائمون على المشروع أن يعمل على امتصاص البطالة في البلاد خاصة في سيناء والمحافظات المجاورة للقناة، وزيادة الدخل لملايين العمال وتنشيط عجلة الاقتصاد وبالتالي الاهتمام بالخدمات الأساسية للمواطنين، خاصة في المناطق المحرومة.
ويقول مميش إن الحروب التي مرت بها مصر في التاريخ الحديث بدأت من قناة السويس، ولهذا فإن المعركة المقبلة ستكون «معركة تنمية» تنطلق من خلال مشروعي تنمية منطقة قناة السويس وحفر القناة الجديدة.
وحين يدرك سكان مدينة الإسماعيلية، على سبيل المثال، أنك ممن يعملون في القناة الجديدة أو أنك قادم لزيارة المشروع يستقبلونك بالأعلام، ويرفع لك تلاميذ المدارس شارات النصر. ويوجد بين المصريين وقناة السويس تاريخ خاص.. فقد شارك أكثر من ربع مليون فلاح مصري في حفر القناة منذ عام 1859 ولمدة 10 سنوات. وهنا دعا الخديو إسماعيل زعماء العالم لحضور الحفل الأسطوري لافتتاح المشروع الذي غير مسار التجارة في العالم.
ومنذ تأميمها من الشركات الأجنبية في عام 1956 لصالح الدولة المصرية، تعرضت القناة للغلق 5 مرات، بسبب الحروب بين مصر وإسرائيل، إلى أن عادت للعمل من جديد عام 1975. ويستلهم المشروع الحالي مجموعة أفكار جرى طرحها في الماضي على الرؤساء المصريين، منذ عهد السادات، لكنها كانت تقتصر وقتذاك على تحويل الممر المائي التقليدي إلى مركز اقتصادي عالمي، إلى أن تولى الرئيس السيسي المسؤولية، ليفاجأ المصريون في الخامس من أغسطس الماضي بالبدء فعليا في تنفيذ مجرى جديد للقناة وتنمية المنطقة وما حولها بالكامل.
ونجح السيسي في إقناع الشعب بجدوى المشروع وأهميته، وظهر ذلك حين طلب من المصريين شراء شهادات استثمار في القناة الجديدة بفائدة تصرف كل 3 أشهر قدرها 12 في المائة. وتمكن بالفعل، في 15 أغسطس، من جمع 61 مليار جنيه مصري (نحو 8 مليارات دولار).
ويقول الفريق مميش وهو يتحدث بحماسة وعزم عن المشروع إن المصريين حين اشتروا شهادات الاستثمار في القناة الجديدة الصيف الماضي لم يقصدوا تحقيق أرباح لأنفسهم، ولكنهم كانوا يريدون أن يبرهنوا للجميع في الداخل والخارج على ثقتهم في الرئيس وفي الخطوات التي يتخذها من أجل البناء، والدليل على ذلك أن البنوك شهدت ازدحاما على شراء الشهادات، لكنها لم تشهد الازدحام نفسه على تحصيل الفوائد عند حلول موعد استحقاقها.
ومن فوق اللنش البحري يمكن أن ترى على جانبي المجرى القديم الحركة الدائبة، على مدار الساعة، والتي تشبه خلايا النحل بما فيها قوات تأمين القناة من رجال الجيش وقوات الشرطة وأمن القناة. ويقول الفريق مميش، وهو يراقب تدفق المياه في المجرى الجديد: هذا أبلغ رد على كل من شكك في خروج المشروع للنور مؤكدا أن الفضل يرجع لإدارة هيئة قناة السويس والقوات المسلحة والشعب المصري.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.