المياه تدخل قناة السويس الجديدة

خلية نحل من شرق القاهرة حتى العريش.. لتنفيذ وتأمين المشروع

أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})
أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})
TT

المياه تدخل قناة السويس الجديدة

أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})
أول ممر مائي من القناة القديمة إلى القناة الجديدة واسمه نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 ({ الشرق الأوسط})

يقود السائق المصري حسين حفارا ضخما لرفع الرمال من قناة السويس الجديدة، في شرق القاهرة، ويقول إنه في مثل هذه الأحوال، أي حين يبدأ المطر في صفع الوجوه مع الرياح الشديدة «كنا نطفئ المحركات ونبحث عن مكان للاختباء إلى حين تحسن الطقس»، لكن هذه رفاهية لم تعد موجودة لا له ولا بالنسبة للرجال هنا.
وبينما تنتشر العشرات من النقاط الأمنية بالتعاون بين الجيش والشرطة لمطاردة فلول المتطرفين في سيناء الواقعة على الضفة الشرقية لأهم ممر ملاحي في العالم، يصل ألوف العمال الليل بالنهار من أجل حفر 72 كيلومترا للقناة الجديدة الموازية للمجرى القديم. ويضيف حسين على هدير الحفار: «لم أر أولادي منذ أمر الرئيس عبد الفتاح السيسي بحفر القناة.. 4 أشهر وأنا هنا».

ومنذ إطلاقه في أغسطس (آب) الماضي، انخرط في العمل بالمشروع الجديد أكثر من 84 شركة، ونحو 23 ألفا من المهندسين والعمال وسائقي الشاحنات والحفارات في عملية أصبحت تحظى باهتمام رجال الاقتصاد والسياسة في العالم. ومع ذلك فإن الأمر يبدو أنه لا يتعلق بمجرد شق قناة جديدة فقط، بل بخطة تظهر معالمها أمامك، وأنت تعبر على طول الطريق من شرق القاهرة إلى قناة السويس وحتى سيناء.. خطة متكاملة ذات أبعاد أكبر مما تبدو عليه للوهلة الأولى. ويأتي هذا قبل نحو شهرين من المؤتمر الاقتصادي الذي سبق ودعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، لمساعدة القاهرة والمتوقع أن يعقد في مارس (آذار) المقبل في مصر.
ويراقب النائب البرلماني السابق عن محافظة السويس، عبد الحميد كمال، مشهد الحفر هنا، ويقول إن تنفيذ مشروع القناة الجديدة يسير بمعدلات كبيرة.. هم يسابقون الزمن ويعملون على مدار 24 ساعة عبر 3 ورديات يوميا، مشيرا إلى أن «الجدوى الاقتصادية الضخمة لهذا المشروع العالمي الذي ستستفيد منه مصر وحركة الملاحة والتجارة في العالم.. معدلات العمل مرتفعة لإنجاز أكبر قدر من المشروع قبل المؤتمر الاقتصادي المنتظر».
وخسرت مصر مليارات الدولارات منذ «ثورة 25 يناير 2011»، بسبب الاضطرابات السياسية التي ظهرت معها التنظيمات المتطرفة، وقيام أكثر من 10 آلاف من المتشددين بالتحصن في سيناء خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي التي استمرت لمدة سنة.
وتسلم السيسي رئاسة الدولة المصرية وهي تعاني من نقص حاد في الطاقة وفي المخزون الاستراتيجي من الغذاء مع تراجع كبير في احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي. أضف إلى ذلك الضغوط التي تعرض لها السيسي نفسه من جانب الكثير من الدول الغربية عقب انحيازه وهو وزير للدفاع لرغبة الشعب المصري في التخلص من حكم جماعة الإخوان ومرسي.
لكن مصر تمكنت بمساعدة عدد من الدول العربية وعلى رأسها السعودية من فرض إرادتها في المجتمع الدولي خلال بضعة أشهر فقط، كما تمكنت بمساندة من الأشقاء العرب من سد الاحتياجات الأساسية للشعب خاصة من الوقود والكهرباء. ويقول مصدر في الرئاسة المصرية إن السيسي، وحتى قبل أن يخوض الانتخابات الرئاسية، كان يرى أن البلاد مقبلة على مرحلة مصيرية، وأنه كان يقول: «إما أن نكون أو لا نكون.. وأن مصر إذا لم تتجاوز الكبوة التي وقعت فيها، فإنها لن تقوم لها قائمة لسنوات طويلة».
ويوضح النائب كمال وهو يتابع حفارا ضخما يرفع الرمال من مجرى القناة الجديدة إن «مشروع القناة أوجد منذ الآن فرص عمل كبيرة جدا كانت مصر في حاجة ملحة إليها للتغلب على المشكلة الاقتصادية المزمنة التي تعاني منها.. اليوم أصبحت توجد فرص للآلاف من العمالة الفنية والعمالة العادية وسائقي الشاحنات والحفارات واللوادر والمهندسين. هذه فرص عمل لم تكن متاحة هنا. وحركة تنشيط بالمنطقة لم تكن موجودة، وأصبح الآن يمكن أن ترى أفقا للاستثمار. وبالأمس بدأت مجموعات جديدة تتدرب على تشغيل آليات حفر مستوردة من الخارج.. هذا تحضير لأفق اقتصادي واجتماعي كبيرين».
ورغم أن السيسي كان مترددا في خوض انتخابات الرئاسة حتى لا يقال: إن انحيازه وهو وزير للدفاع لثورة الشعب ضد الإخوان في صيف 2013 هدفها تولي السلطة.. ورغم أنه لم يتقدم للشعب ببرنامج انتخابي محدد، فإن الغالبية العظمى من المصريين كانت تضغط عليه من أجل أن يترشح للرئاسة وأن يقود مصر للمستقبل.
ويقول أحد المقربين من السيسي: «حين اتخذ قرار خوض الانتخابات وخلع البدلة العسكرية وارتداء البدلة المدنية، اغرورقت عيناه بالدموع، لسببين.. الأول أنه لم يكن يرغب في ترك المؤسسة العسكرية التي أمضى فيها معظم حياته الوظيفية. والثانية أنه كان يدرك حجم التحديات التي أمامه، وحاجة مصر إلى نهضة شاملة في وقت وجيز. الرئيس قال حين تولى المسؤولية سنعبر عنق الزجاجة خلال سنتين، وهذا ما يجري بالفعل على أرض الواقع».
ومن خلال حديث مطول مع عدد من القادة العسكريين على ضفة قناة السويس، يبدو أن السيسي أخذ على نفسه عهدا بعدم إطلاق الوعود البراقة للشعب، وأن يقدم بدلا منها عملا حقيقيا على الأرض. فعلى الجانب الشرقي من القاهرة، سواء كنت تسلك الطريق الواصل من العاصمة إلى السويس أو إلى الإسماعيلية أو إلى بورسعيد وسيناء، يمكنك بكل سهولة أن ترى عملية بناء جديدة تشمل توسيع الطرق ونصب الجسور والكباري وحفر الأنفاق.. حتى تصل إلى قناة السويس نفسها التي تعبر منها عشرات الألوف من سفن العالم سنويا.
تتوقف الحافلة في الطريق المجاور للقناة. هنا مدينة الإسماعيلية التي تتوسط جانب المجرى من ناحية الغرب. أنت الآن على مرمى حجر من سيناء التي تقترن الأخبار عنها بالعمليات الإرهابية اليومية، لكن كل هؤلاء العمال الذين يشقون قناة جديدة يبدو أن لديهم ثقة في أن مستقبل المتطرفين إلى زوال. ويقول حسين وهو يقود الحفار: «القتل والتفجير لا يبني مستقبلا لأولادنا. المستقبل في العمل».
ومن داخل بستان من البرتقال الذي تشتهر به مدن قناة السويس، يلقي النائب كمال نظرة على إحدى السفن العملاقة وهي تعبر القناة في طريقها إلى البحر الأحمر قائلا إن «من خلال مشروع الممر الملاحي الجديد ومن خلال الحرب على الإرهاب في سيناء، تستطيع أن تقول إن مصر تبني بيد وتحمل السلاح باليد الأخرى لحماية الشعب من خطر المتطرفين.. وفي النهاية هذا أمر عظيم، خاصة أن القوات المسلحة والشرطة تبذلان مجهودا كبيرا جدا من أجل مقاومة الإرهاب. وبعد أحداث فرنسا وبعد العمليات الإرهابية في عدة بلدان وبعد ظهور داعش، بدأ العالم كله يشعر بمخاطر الإرهاب، وهذا ما سبق وحذر منه الرئيس السيسي».
ويطارد كل من الجيش والشرطة، منذ نحو سنتين من يسميهم بـ«التكفيريين» خاصة في المنطقة المحاذية لحدود سيناء مع قطاع غزة. وتمكنت القوات الأمنية من محاصرة أوكار المتطرفين بعد أن أزالت عشرات المباني السكنية التي تحولت في الماضي لمراكز للتهريب عبر الأنفاق بين غزة وسيناء. وأجرى الجيش مداهمات جديدة في المناطق الحدودية في الشيخ زويد ورفح. وشدد الفريق أول صدقي صبحي وزير الدفاع على أنه «لا تهاون مع من يحاول العبث باستقرار الوطن».
وتنتشر على جانبي الطريق الواصل من القاهرة إلى الإسماعيلية مئات المزارع الكبيرة ويمكن أن ترى الثمار الملونة وهي تتدلى من الأشجار الخضراء. وعلى غير المعتاد في الطرق المصرية، أصبح هناك «دوريات أمنية متحركة» بكثافة، بحيث إنه لا يمكن أن يساورك القلق من حوادث الخطف والإرهاب، كما يقول سائق السيارة الأجرة الذي ظل يعدد طوال الطريق محاسن الرئيس السيسي وما يقوم به من مشروعات. ومن هنا تستطيع أن تعبر القناة إلى داخل مدينة العريش عاصمة محافظة شمال سيناء، وهي منطقة أصبحت مدرجة ضمن المستفيدين من فتح مجالات العمل في السويس.
ويقول رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب: «مصر أصبحت تسير على طريق واضح من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية»، في إشارة إلى قرب عقد المؤتمر الاقتصادي والبدء في إجراءات انتخاب أول برلمان في عهد السيسي. وتجري عملية حفر القناة الجديدة على مرحلتين باستخدام ما يزيد عن 4500 من الآليات المتنوعة.. المرحلة الأولى: الحفر على الناشف لرفع 258 مليون متر مكعب من الرمال. والمرحلة الثانية حفر الرمال المختلطة بالمياه (التكريك) وتبلغ كميتها 242 مليون متر مكعب.
وكان هذا أول يوم لفتح المياه من القناة القديمة إلى القناة الجديدة. وكان يمكن لمركب صغيرة (لنش) أن تعبر مسافة 600 متر للانتقال لأول مرة من القناة القديمة والإبحار فوق مياه القناة الجديدة وبطول نحو كيلومتر، بينما كان العمال يديرون الآلات العملاقة لضخ الرمال المغمورة بالمياه بعيدا عن مجرى القناة الجديدة من الجانبين الشمالي والجنوبي.
وتربط قناة السويس، التي افتتحت للملاحة لأول مرة قبل 150 سنة بحضور قادة العالم في ذلك الزمان، بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وتستخدم طريقا بحريا مختصرا بين شرق العالم وغربه، بدلا من طريق رأس الرجاء الصالح البعيد، والواقع في جنوب القارة الأفريقية، والذي يكلف دوران السفن من حوله الكثير من الوقت والمال.
وتعبر من قناة السويس الحالية أكثر من 18 ألف سفينة سنويا، وتحقق أرباحا لمصر قدرها 4.86 مليار دولار سنويا. لكن مشروع القناة الجديدة سيتيح إمكانية عبور نحو 27 ألف سفينة سنويا. والأهم مضاعفة الدخل القومي لمصر من العملات الأجنبية بنسبة تقدر بنحو 260 في المائة.
ويعد هذا من أكبر المشروعات القومية في مصر منذ عقود. وكانت المدة المقررة للانتهاء منه 5 سنوات ليكون جاهزا أمام حركة الملاحة الدولية، لكن الرئيس السيسي، الذي يسعى لإخراج بلاده من دائرة الفقر والعوز، رد على منفذي المشروع بقوله إنه لا بد أن ينتهي خلال سنة واحدة. ويوضح رئيس هيئة قناة السويس، الفريق مهاب مميش: أجبتُ الرئيس وقلت له، كرجل عسكري، إن الأمر قد جرى تنفيذه بالفعل؛ أي أن المشروع سينتهي في أغسطس المقبل.
وتحرك «اللنش» من أمام مرسى نادي الزهور، على مجرى القناة القديم، بينما كان الجنود والموظفون يلوحون بالأعلام الوطنية من بعيد احتفاء بعدد من المستثمرين المصريين والعرب والأجانب الذين كانوا قد انطلقوا في «لنش» آخر لتفقد عمل الشركات التابعة لهم في حفر المجرى الجديد للقناة، بصحبة اللواء كامل الوزير، رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المشرفة على المشروع.
وفي الخلفية، على رصيف الميناء، كانت فرقة الموسيقى العسكرية بملابسها الحمراء، تعزف الأناشيد الوطنية، ومن بينها نشيد «خلي السلاح صاحي». ومن وسط القناة حلقت طيور البحر حول ناقلة بضائع عملاقة قادمة من آسيا وفي طريقها إلى البحر المتوسط. وخرج أحد البحارة فوق السطح، وأخذ يشير بعلامة النصر بأصابعه.
وهبت الرياح الباردة مجددا وبدأ رذاذ المطر يختلط برذاذ مياه القناة المالحة.. وأمسك أحد مسؤولي بنك الإمارات دبي الوطني، وهو ألماني الجنسية، بالحاجز حيث كان يجلس فوق اللنش البحري الصغير متجها إلى نقطة الاتصال رقم 3 بمنطقة الكيلو 84 جنوب القناة، وهذا المكان هو الذي جرى فتحه من أجل دخول المياه من القناة القديمة إلى القناة الجديدة. وسينتهي حفر 3 قنوات اتصال أخرى بين القناتين خلال أسابيع. ويتراوح عرض اليابسة الذي تفصل بين القناتين بين 500 متر وحتى 4 كيلومترات. وستقام على هذه الأراضي التي تشبه الجزر منتجعات سياحية ومراكز خدمية وغيرها.
وهنا تمكن العمال تحت روافع الحفارات العملاقة من إزالة ملايين الأمتار المربعة من الرمال، وفي كل يوم يزيحون من أمامهم كثبانا رملية جديدة لفتح مسافة يصل طولها إلى 72 كيلومترا. وفي يوم الجمعة كان يمكن التجول بواسطة مركب، لأول مرة، فوق القناة الجديدة.
ورغم سوء أحوال الطقس في مثل هذا الوقت من السنة، يستمر العمال في شق المجرى الملاحي الجديد في تحد لكل الظروف. ويقول محمود بشير، وهو سائق شاحنة من مدينة أسيوط بجنوب البلاد، إن العمل في مشروع القناة الجديدة أنقذه من البطالة بعد أن كان يستخدم شاحنته في نقل البضائع إلى ليبيا التي تعاني في الوقت الحالي من الاضطرابات السياسية والأمنية. ويضيف أنه كان يعمل سائق شاحنة في العراق أيضا حتى أواخر الـتسعينات من القرن الماضي، وعاد إلى مصر بسبب الحرب في العراق وقتذاك.
ومن المعروف أن معاناة مصر مع البطالة ارتفعت بشكل كبير بعد التداعيات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، سواء في العراق أو فيما بعد في ليبيا التي كان يعمل فيها نحو مليوني مصري. ويضيف أحمد عبد المجيد، من محافظة بورسعيد المجاورة، وهو مهندس متخصص في إصلاح مضخات «التكريك»، أي طرد الرمال المشبعة بالمياه في مجرى القناة الجديد، وهو نوع من المضخات العملاقة، إن عملية «التكريك» بدأت تأتي بنتائج طيبة بالفعل منذ عدة أسابيع، وحولت أرضية القناة الجديدة من رمال جافة إلى مستنقعات.
ويبلغ إجمالي كميات الرمال المبللة من خلال أعمال «التكريك» نحو 242 مليون متر مكعب. وتبلغ كلفة طرد هذه الرمال من المجرى الجديد نحو ملياري دولار وتقوم بها 22 كراكة تابعة لشركات عالمية وأخرى لهيئة قناة السويس. وبالإضافة للشركات المحلية توجد أيضا شركات تعمل في المشروع من الولايات المتحدة والإمارات وهولندا وبلجيكا وغيرها. وجاء خبر جديد عبر الهاتف عن وصول كراكتين جديدتين للمشاركة في الحفر، من أجل سرعة إنجاز المشروع هما الكراكة «بلس1» و«بلس2». ويقول مسؤولو القناة إنه بنهاية الشهر الجاري سيصل إجمالي الكراكات إلى 36 كراكة.
ويضيف المهندس عبد المجيد أن «هذه المستنقعات ستتحول سريعا بفعل التكريك إلى مجرى مائي بعمق مترين على الأقل خلال الأسابيع المقبلة، وبعد ذلك تبدأ أعمال تعميق القناة لتكون متاحة لعبور السفن بحلول الصيف المقبل». وتسلم عبد المجيد مثل الآلاف من زملائه هنا أطقم جديدة من الملابس الشتوية التي وفرتها القوات المسلحة مع بطاطين ولوازم معيشة إضافية.
وعلى التلال الرملية وفي الحدائق القريبة من مكان العمل، جرى نصب عشرات الخيام والشقق المتنقلة (كرافانات)، بعضها مخصص للسكن وبعضها الآخر للخدمات الأمنية والعيادات الطبية والاتصالات الهاتفية. وشهد مركز الاتصالات زحاما من جانب العمال أثناء احتفالات المصريين بالمولد النبوي وبليلة رأس السنة. ويقول عبد المجيد: لم يكن هناك وقت للإجازة، وأسرتي تتفهم هذا. قلت لزوجتي عبر الهاتف أن تشتري هدايا المولد للأولاد ولم تتذمر كما كانت تفعل في السابق. هي تعرف أن العمل لن يتوقف هنا حتى يتم وينتهي في وقته المحدد إن شاء الله.
وفي الجانب الآخر من الكثبان الرملية كان أحد العمال يصيح وهو يرشد سائق الشاحنة التي كانت ترجع إلى الخلف لنقل مزيد من الرمال بعيدا عن الشاطئ الجديد للقناة. وستقام على طول الشاطئ الشرقي للمجرى الجديد، مزارع سمكية ومشاريع للصيد البحري وغيرها. وعلى تل رملي يشرف على القناة كان يقف نحو 7 من رجال الجيش يحرسون الموقع. وعلى جانب القناة تمر الدوريات لتأمين السفن العابرة للقناة.
ويقول مسؤولو الأمن هنا إن «الإرهابيين الذين جرى تضييق الخناق عليهم في سيناء حاولوا ضرب المشروع، وفشلوا». وفي اليوم التالي تمكنت قوات الأمن من ضبط 4 قال مدير أمن بورسعيد، اللواء إسماعيل عز الدين، إنهم «من عناصر جماعة الإخوان الإرهابية»، وكانوا يستقلون سيارة ويقومون بتصوير المجرى الملاحي للقناة ونقاط التفتيش على طريق «بورسعيد - الإسماعيلية» في محاولة لاستهدافها. كما عثر بالسيارة على «منشورات تحريضية ضد أجهزة الدولة».
وتتلخص فكرة المشروع في إنشاء قناة موازية يبلغ طولها 72 كيلومترا، منها 35 كيلومترا بالحفر الجاف وتوسيع وتعميق 37 كيلومترا من القناة الأصلية التي يبلغ طولها، من البحر الأحمر حتى البحر المتوسط، 190 كيلومترا.
ويتضمن مخطط المشروع تنمية 42 قطاعا آخر من بينها تطوير الطرق التي تربط القاهرة بالمدن الواقعة في الشرق، وهي مدن القناة وسيناء. واستحداث أنفاق للربط بين ضفتي القناة، وكذلك إقامة مطارين، و3 موانئ لخدمة السفن، ومحطات لتموين السفن العملاقة وغيرها. كما يشمل المشروع إقامة وادي السيليكون للصناعات التكنولوجية المتقدمة، وإنشاء منتجعات سياحية ومدن جديدة على طول القناة، مما سيسهم في توفير أكثر من مليون فرصة عمل.
أما الهدف من إقامة المجرى الملاحي الجديد فيتلخص في عدة نقاط استراتيجية واقتصادية وأمنية.. ويقول أحد كبار الضباط من المشرفين على تنفيذ المشروع إن تطوير قناة السويس سواء بإقامة المجرى الجديد أو بتعميق المجرى القديم: «قضية استراتيجية» لأنه يقضي تماما على المشروع المنافس الذي كانت تريد أن تقوم به إسرائيل، والمعروف باسم «إيلات – أشدود» لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط سواء عن طريق قناة مائية أو خط سكة حديد.
أما اقتصاديا فإن المشروع سيعزز الدخل القومي المصري من العملات الأجنبية، ويقلل في الوقت نفسه من تكلفة الرحلة البحرية لملاك السفن ويزيد الطلب على استخدام القناة كممر ملاحي رئيسي عالمي، ويرفع من درجة تصنيف القناة، مع توقع ارتفاع النمو في حجم التجارة العالمية مستقبلا.
وفيما يتعلق بالشق الأمني يأمل القائمون على المشروع أن يعمل على امتصاص البطالة في البلاد خاصة في سيناء والمحافظات المجاورة للقناة، وزيادة الدخل لملايين العمال وتنشيط عجلة الاقتصاد وبالتالي الاهتمام بالخدمات الأساسية للمواطنين، خاصة في المناطق المحرومة.
ويقول مميش إن الحروب التي مرت بها مصر في التاريخ الحديث بدأت من قناة السويس، ولهذا فإن المعركة المقبلة ستكون «معركة تنمية» تنطلق من خلال مشروعي تنمية منطقة قناة السويس وحفر القناة الجديدة.
وحين يدرك سكان مدينة الإسماعيلية، على سبيل المثال، أنك ممن يعملون في القناة الجديدة أو أنك قادم لزيارة المشروع يستقبلونك بالأعلام، ويرفع لك تلاميذ المدارس شارات النصر. ويوجد بين المصريين وقناة السويس تاريخ خاص.. فقد شارك أكثر من ربع مليون فلاح مصري في حفر القناة منذ عام 1859 ولمدة 10 سنوات. وهنا دعا الخديو إسماعيل زعماء العالم لحضور الحفل الأسطوري لافتتاح المشروع الذي غير مسار التجارة في العالم.
ومنذ تأميمها من الشركات الأجنبية في عام 1956 لصالح الدولة المصرية، تعرضت القناة للغلق 5 مرات، بسبب الحروب بين مصر وإسرائيل، إلى أن عادت للعمل من جديد عام 1975. ويستلهم المشروع الحالي مجموعة أفكار جرى طرحها في الماضي على الرؤساء المصريين، منذ عهد السادات، لكنها كانت تقتصر وقتذاك على تحويل الممر المائي التقليدي إلى مركز اقتصادي عالمي، إلى أن تولى الرئيس السيسي المسؤولية، ليفاجأ المصريون في الخامس من أغسطس الماضي بالبدء فعليا في تنفيذ مجرى جديد للقناة وتنمية المنطقة وما حولها بالكامل.
ونجح السيسي في إقناع الشعب بجدوى المشروع وأهميته، وظهر ذلك حين طلب من المصريين شراء شهادات استثمار في القناة الجديدة بفائدة تصرف كل 3 أشهر قدرها 12 في المائة. وتمكن بالفعل، في 15 أغسطس، من جمع 61 مليار جنيه مصري (نحو 8 مليارات دولار).
ويقول الفريق مميش وهو يتحدث بحماسة وعزم عن المشروع إن المصريين حين اشتروا شهادات الاستثمار في القناة الجديدة الصيف الماضي لم يقصدوا تحقيق أرباح لأنفسهم، ولكنهم كانوا يريدون أن يبرهنوا للجميع في الداخل والخارج على ثقتهم في الرئيس وفي الخطوات التي يتخذها من أجل البناء، والدليل على ذلك أن البنوك شهدت ازدحاما على شراء الشهادات، لكنها لم تشهد الازدحام نفسه على تحصيل الفوائد عند حلول موعد استحقاقها.
ومن فوق اللنش البحري يمكن أن ترى على جانبي المجرى القديم الحركة الدائبة، على مدار الساعة، والتي تشبه خلايا النحل بما فيها قوات تأمين القناة من رجال الجيش وقوات الشرطة وأمن القناة. ويقول الفريق مميش، وهو يراقب تدفق المياه في المجرى الجديد: هذا أبلغ رد على كل من شكك في خروج المشروع للنور مؤكدا أن الفضل يرجع لإدارة هيئة قناة السويس والقوات المسلحة والشعب المصري.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.