مساعدات «مؤتمر باريس» محصورة بالحاجات الإنسانية الطارئة

فرنسا تؤكد الحاجة إلى التدقيق الجنائي وتربط خطة الإنقاذ بتشكيل الحكومة اللبنانية

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)
TT

مساعدات «مؤتمر باريس» محصورة بالحاجات الإنسانية الطارئة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)

مرة أخرى، يمد الرئيس الفرنسي يده لمساعدة لبنان من خلال المؤتمر الإنساني الافتراضي الذي دعا إليه ورعاه أمس مع أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وبمشاركة 27 دولة وعشر منظمات دولية. ومن بين المشاركين، 12 رئيس دولة وحكومة، فيما الأطراف الأخرى مثلت على مستويات مختلفة. وهذا المؤتمر هو الثاني بعد الأول الذي عقد مباشرة بعد تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب)، و«قد لا يكون الأخير» وفق ما أشارت إليه مصادر الإليزيه أمس في معرض تقديمها له، في حال بقي لبنان يتخبط في أزماته ومحروماً من حكومة جديدة تستجيب لمطالب «مجموعة الدعم للبنان»، وتقوم بتنفيذ مضمون «خريطة الطريق» التي وافقت عليها كافة الأحزاب اللبنانية في اجتماعها مع الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الصنوبر، في الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي. وشددت هذه المصادر على أن المساعدات الإضافية المقررة في مؤتمر الأمس ستكون محصورة بالجانب الإنساني «بسبب تدهور الأوضاع الصحية والاجتماعية والاقتصادية» في لبنان. ومن هذا المنطلق: «لن يكون هناك دفع باتجاه مؤتمر من نوع آخر من أجل التعافي الاقتصادي وتنفيذ التزامات (سيدر) ما لم تأت حكومة جديدة تتمتع بالصدقية وتكون فاعلة لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة من الأسرة الدولية ومن الشعب اللبناني على السواء». ونبهت المصادر الرئاسية، مستبقة انطلاق المؤتمر عبر تقنية «الفيزيوكونفرنس» في السادسة والنصف مساء أمس، من أن الدافع الرئيسي للجهود التي يبذلها الرئيس الفرنسي لمساعدة لبنان هي أنه «يريد أن يمنع تحوله إلى دولة فاشلة وإنقاذه من الإفلاس». وفيما يقوى الجدل في لبنان حول التدقيق الجنائي وحول البنك المركزي خصوصا الدور الذي يمكن أن يقوم به البنك المركزي الفرنسي، تعتبر باريس أن «لا مفر من التدقيق الجنائي لأن الوضع (المالي) يزداد تدهورا، وإذا أراد لبنان أن يتفاوض بجدية مع صندوق النقد الدولي وإلا فإن الطريق إلى الإفلاس أصبحت مفتوحة». أما عن دور محتمل للبنك المركزي الفرنسي، فقد رأت هذه المصادر أنه «ليس له أن يقوم بالتدقيق الجنائي، وأن يحقق في حسابات البنك المركزي اللبناني، ولا يتعين على أطراف لبنانية (ربما في إشارة إلى حاكم مصرف لبنان) أن تعتمد على دوره من أجل التفلت من مسؤولياتها». ونفت وجود خبير من بنك فرنسا المركزي في لبنان أو أن يكون حاكم البنك المركزي اللبناني قد أجرى محادثات رسمية أو شبه رسمية في باريس مؤخرا. وبالمقابل، فإن باريس مستعدة لتقديم «المشورة».
وإزاء استمرار وضع لبنان في التدهور، تؤكد باريس أنها مع أطراف دولية أخرى «مستمرة في الضغوط على الطبقة السياسية اللبنانية» من أجل الاستجابة لمطالب الداخل والخارج. ورغم الإلحاح في السؤال حول «الوسائل» التي تمتلكها باريس من أجل أن يسمع صوتها بعد الانتكاسات التي منيت بها مبادرة الرئيس ماكرون الإنقاذية، فإنها رفضت الذهاب إلى حد التهديد بالعقوبات لا بل أكدت أن العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس ترمب لم تساعد على تشكيل حكومة جديدة. ويبدو أن باريس تعمل بمبدأ «الواقعية السياسية» أي التعامل مع ما هو موجود. وأشارت المصادر الرئاسية إلى أن الأمر الملح والمطلوب اليوم ليس فرض العقوبات، بل المساعدة على الانتهاء من الفراغ المؤسساتي بتشكيل حكومة قادرة ستكون وحدها في وضعية تسمح بحصول لبنان على المساعدات، التي يحتاج حصوله عليها «إلى ضمانات ولتوافر الثقة». وفي غياب ذلك: «نحن مستمرون في إطار الاستجابة للحاجات الإنسانية الطارئة» التي لم تعد محصورة في بيروت وبما نتج عن تفجيرات المرفأ، بل تشمل كافة المناطق اللبنانية مع التركيز على القطاعات الاجتماعية والصحية والتربوية.
ووفق القراءة الفرنسية وبالمقارنة مع العقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية، فإن باريس ماضية في مقاربتها الحالية أي أن تبقى في إطار الضغوط «السياسية» وهي «على اتفاق مع شركائنا للاستمرار بها». لكن الأمور يمكن أن تتغير خصوصا أن هذه المصادر تحرص على تأكيد أن باريس «لم تغير استراتيجيتها» وأن اللجوء إلى فرض عقوبات «ما زال في ذهننا». كذلك اعتبرت أن تحجج البعض في لبنان أحيانا بحصول الانتخابات الأميركية وأحيانا أخرى بتسلم الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن مسؤولياته «ليس إلا من باب التحجج للتعطيل والتهرب من المسؤوليات».
وبعدما تداولت وسائل إعلامية موضوع امتناع باريس عن تزويد لبنان بصور للأقمار الصناعية للفترة التي حصل فيها انفجار مرفأ بيروت اعتقادا من البعض أنه حصل نتيجة ضربات عسكرية، أفادت المصادر الفرنسية بأن باريس «أعطت لبنان ما هو متوافر لديها من صور من الأقمار الصناعية الفرنسية ولكنها ليست متواصلة زمنيا». والسبب في ذلك أن لا أقمار فرنسية كانت مركزة بشكل دائم فوق لبنان في تلك الفترة.
وترى باريس أن كل الجهود التي بذلها الرئيس ماكرون للدفع بالوضع اللبناني قدما واجهت وما زالت تواجه عراقيل متنوعة. فلا ملفات الطاقة أو التدقيق الجنائي ولا الحكومة خطت خطوة واحدة إلى الأمام. ومع ذلك، فإن الرئيس الفرنسي ما زال يحاول وهمه اليوم التعاطي مع الحاجات الإنسانية الملحة فيما الطبقة السياسية اللبنانية غارقة في مماحكاتها وتقاتلها على المواقع والمراكز ومستمرة في حساباتها ورهاناتها. وبانتظار أن يحصل اختراق ما على الصعيد السياسي، سيبقى التعامل مع لبنان من زاوية المساعدات الإنسانية الدائمة والطارئة ما يعني تحويله إلى متسول على أبواب العواصم العالمية. وإذا كانت هناك حاجة لأدلة إضافية على تدهور أوضاعه، فإن التقرير الأخير للبنك الدولي الذي يصف الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتفشي الفقر وتدهور الاقتصاد كفيل بإيقاظ من يريد أن يفتح عينيه على حقيقة معاناة اللبنانيين الذين ينظرون إلى الخارج ويتوقعون منه العون بعد أن خذلتهم دولتهم. يبقى أن زيارة ماكرون الثالثة إلى لبنان ما زالت في الميزان ومصادر الإليزيه تقول إنها غير قادرة على تأكيدها أو نفيها ربما بانتظار التطورات اللبنانية.



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم