«التّوجّه»... فلسفة ألمانية جديدة لأجل عالم لا ثوابت فيه

تسعى إلى فتح آفاق أمام تفكير الأفراد بدلاً من البحث عن حقائق كليّة

فيرنر ستيغماير
فيرنر ستيغماير
TT

«التّوجّه»... فلسفة ألمانية جديدة لأجل عالم لا ثوابت فيه

فيرنر ستيغماير
فيرنر ستيغماير

لقد تغيّر العالم كثيراً خلال وقت قصير. وعلى نحو دراماتيكي وجدت البشريّة نفسها بلا أسلحة نظريّة ولا ثوابت فكريّة أو طرائق عمل ذات قيمة فعليّة في مواجهة كارثة وباء «كوفيد - 19» وما يترّتب عليها. ولكن أين الفلسفة من هذا كلّه؟ ولماذا رغم كل الأموال التي تصرف على أكاديميات محبي الحكمة وكتبهم ومجلاتهم لم نجد - في وقت الأزمة - فلاسفة قادرين على توجيهنا للتعامل مع تقلبات الزّمن؟
الواقع أن الفلسفة المعاصرة ربّما كانت تستعد لمثل هذه التحوّلات بتمهّل، وكتب أحد المفكرين قبل سنوات قليلة تصوراته عن شكل العالم تالياً، معتبراً أن ساعة منتصف ليل البشريّة ستكون مع نهاية العقد الحالي، قبل أن تتدّخل «كورونا»، وتُعيد لخبطة جميع الأوراق. لكنها وكما انتهت إليه هذه الأيّام على يد الأكاديميّات الغربيّة أصبحت أكثر ارتباكاً وغموضاً من حالها في أي وقت مضى، وانقسمت إلى مجالات غير مترابطة: في مكان ما تسعى الآن إلى وضع معايير محددة للدّقة أو العدالة أو الحقيقة، وفي مكان آخر تعمل على معالجة قضايا نظرية أو عملية موغلة في التخصص، أو هي في بقيّة الأماكن لا تزيد عن اجترار مدرسي، وإعادة مضغ للتراث الفلسفي المتراكم منذ «جمهوريّة» أفلاطون، وعلى العموم باتت أشبه بمظلّة عريضة تجمع بين شلل متعارضة يمكن التنقل بينها دون تأزّم فكري، واسماً جليلاً عتيقاً أشبه بسيارة كلاسيكيّة لا قيمة فعليّة لها في الحياة اليوميّة سوى ما تثيره من ذكريات نوستالجيّة عن ماض كان أكثر تعقلاً من لحظتنا الرّاهنة.
وهكذا فلسنا وحدنا فقدنا الاتجاه في هذا العالم الذي نعيش، بل الفلسفة أيضاً أضاعت بوصلتها ولم تقدم للبشريّة في هذا المنعطف، ولو نظرة عامة أوليّة أو قليلاً من اليقين، مستقيلة من دورها الأساس - كبحث في أساسيات الوجود والتفكير والعمل - واستخلاص النتائج واقتراح توجهات حول كيفية تعاملنا بشكل أفضل مع عالم يتغير بلا هوادة، في الحياة اليومية وكذلك العلوم البحتة والإنسانية. وإذا كان ثمّة من يُلام على هذا التخلّي فلن يكون سوى الجامعات الغربيّة (الأنغلوفونيّة) ومنهجية التعليم فيها التي أُخضعت بالكامل للآيديولوجيا السياسيّة المهيمنة، ودفعت بالفلسفة إلى ركن عاجي للانشغال بقضايا نظريّة محضة دون أي تماس مع الواقع.
ومع ذلك، فإنّ هنالك أخباراً بارقة تأتي من ألمانيا - مهد الفلسفة الغربيّة قبل أن تنتقل مفاتيحها إلى خارج البرّ الأوروبي - وذلك بتشكّل مدرسة جديدة تطرح أفكاراً مثيرة للاهتمام بشأن الصيغة التي يمكن فيها للفرد - غير المتخصص - الاستفادة من الفلسفة في تحديد توجهات بشأن علاقته الشخصيّة بالعالم حوله في ظلّ أجواء انعدام اليقين واستحالة توقّع المستقبل بأي درجة مقبولة من الدّقة. ويطلق على هذه المدرسة اسم «فلسفة التوجه»، وهي تتمحور بشكل خاص حول أعمال البروفسور والفيلسوف الألماني المعاصر فيرنر ستيغماير (مواليد 1946)، لا سيّما بعد صدور كتابه «التوجّه: تحقيق فلسفيّ»، بالألمانيّة: «Philosophie der Orientierung»، عام 2008 لحظة الأزمة الماليّة العالميّة، مثيراً بعضاً من الجدل المتخصص في بلاده حصراً، إذ تجاهله العالم الأنغلوفوني لعقد تقريباً، ولم تتعاط بأفكاره الأكاديميّات قبل أن يكتشفه مايك هودجز، وهو مالك شركة لإدارة الاستثمارات والمضاربة الماليّة، الذي كلّف راينهارد مولر - صديق له من أصول ألمانيّة حاصل على دكتوراه بالفلسفة - بنقل الكتاب إلى الإنجليزيّة، وأسس وقفيّة خاصّة تتولى نشر أفكار ستيغماير في الولايات المتحدة وعبر البلاد الأنغلوفونيّة. وللحقيقة فإن النسخة الإنجليزيّة التي نشرتها الوقفيّة، وأُنجزت بتعاون وثيق مع المؤلّف لضمان ضبط المصطلح الفلسفي بين اللغتين جاءت تحديثاً مفيداً للنص الأصلي، فأزيلت منه الشروحات الأكاديميّة وبعض الموضوعات المتعلقة بحيثيّات ألمانيّة محليّة الطابع، كما الحواشي والقوائم وأسماء المراجع الألمانيّة العديدة، فيما أضيفت مقدّمة جديدة وفصول مستجدّة عن مسائل لم تعالجها نسخة 2008 كالرقمنة والعولمة، ليقترب الكتاب بالفعل من هدفه الأساس: عدّة عمل لتنوير القارئ العادي ومساعدته على التفكير في «توجهاته»، ومنحه القدرة على مواكبة العصر والقوة لاتخاذ القرارات في ظروف جديدة على الإطلاق على نحو يسمح بالاستمرار في طريق ما، أقلّه لبعض الوقت لحين يصبح اتخاذ توجهات مغايرة ضرورياً.
«التّوجه» في هذا السّياق أبعد ما يكون عن تمرين ترفٍ فكري - بل هو عمليّة تتحدى الفرد، وتدفعه للتفكير مليّاً في إيجاد مسارات عبر ظروف الحياة الإنسانيّة ليس فقط لناحية اليوميّات، ولكن أيضاً لأن البقاء في عالمنا الشديد التقلّب بات يعتمد وبشكل متزايد على حسن «التوجّه» الذي نتخذه.
إذا كان كل توجه هو في النهاية اختيار بين مسارات ممكنة تحت ظروف حالة معينة، خاصة أو اجتماعية، أو حتى عالمية، فإن «فلسفة التوجه» تتطلب دائماً من الفرد لتعظيم تلك المسارات حسماً مبكراً في تحديد المصطلحات وضبط المفاهيم كنقطة انطلاق لكل طريقة مجدية للتفكير أو التحدث أو التصرّف. وهي لذلك تعيد تعريف الدّور الذي ينبغي للفلسفة أن تلعبه اليوم عبر تقديمها للأفراد غير المتخصصين فرزاً وإعادة نظر في مجمل النتاج الفلسفي المتراكم وتعريفاً بقيمته التطبيقيّة، بالترافق مع إعادة توجيه بوصلة الممارسة الفلسفيّة - وبالتعاون مع العلوم - بعيداً عن المسائل المغرقة في التجريد بحثاً عن الكوني والنهائي والخالد إلى ساحة إعانة الأفراد على إدارة موضعهم من العالم، ومنحهم الأدوات للتعاطي مع المؤقت والعابر والمتغيّر، وتحسين قدرتهم على اتخاذ القرارات في أجواء عدم التيقّن الغالبة، ومن ثمّ التحقيق في كيفية تجلي توجهات الأفراد في الحياة الاجتماعية سلوكيّات: أي في تفاعلاتهم مع التغيّرات واتصالاتهم بالآخرين وفي نظم الاجتماع الوظيفية، مثل الاقتصاد والإعلام والسياسة والقانون والعلوم والفن والدين، ومحاولة القبض على الكيفيّة التي تكتسب فيها تلك التوجهات أهمية معنوية وأخلاقية، وكيف تتأثر بالظواهر المستجدة للعولمة والرّقمنة، وأسرار علاقتها بالميتافيزيقيا، ودائماً دون توقع أسباب أو مبررات أو تقييمات عالمية سرمديّة الطابع.
ولا شكّ بالطبع من أن منهج «فلسفة التوجه» هذا ليس مبتكراً بالمطلق - إذ لا يمكن بالفعل ابتداع فلسفة جديدة تماماً. فـ«التوجهات - وفق ستيغماير - هي دائماً نوع من إعادة التوجيه». وعلى نحو خاص، «فإن فلسفة التوجه» قريبة بشكل خاص من أفكار الفرنسي بليز باسكال (1623 - 1662) الذي أعرب مبكراً وبشكل لافت للنظر عن الحاجة إلى «التّوجه»، كما مباحث الألماني إيمانويل كانت (1724 - 1804) الذي وضع تلك الحاجة في خضم فلسفته النقدّية للعقل المحض، ومجادلات فريدريك نيتشه (1844 - 1900) قبل أن يكتسب المفهوم أول تشكلّ حقيقي له في المدرسة البراغماتية الأميركية - لا سيّما أعمال وليام جيمس (1842 - 1910) - في فضاءات التجريبية والنفعية، وبعيداً عن الحلول اللّفظية، والافتراضات المسبقة، والمبادئ الثابتة، والنظم المغلقة، والالتصاق المرضي بالمُطلَقات والأصول.
من خلال تأكيدها على فرديّة وزمانية التّوجه الإنساني، توسّع «فلسفة التوجه» آفاق التحقيق الفلسفي أمام تفكير الأفراد وتصرفاتهم في العالم، وبدلاً من إهدار أعمارهم القصيرة في البحث عن حقائق كليّة، تمنحهم الهدوء اللازم لتقييم الوقائع والأخبار الكاذبة معاً، لتكون المهمّة باستمرار أمامهم الاختيار بينهما. هذه القدرة على الاختيار تحرر توجهاتنا نحو آفاق جديدة من التفكير والسلوك وطرائق العيش قد تساعدنا على مواكبة تحولات الأزمنة. فـ«سعادة المكتشفين العظماء في سعيهم لليقين يمكن أن تتحول الآن إلى حبور بالعثور على عدم اليقين والمغامرة في كل مكان»، كما كتب نيتشه يوماً في دفتر ملاحظاته.



مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
TT

مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)

«زهوري اليانعة في داخل خميلة»... كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر، لوصف السنوات التي قضاها في مصر، والأعمال الإبداعية التي قدّمها خلالها، وضمنها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة «احتفالية القرد والحمار».

تنقل المر خلال 15 عاماً قضاها في مصر ما بين حواري الحسين، ومقاهي وسط البلد، وحارات السبتية، ودروب الأحياء العتيقة، متأثراً بناسها وفنانيها، ومبدعي الحِرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح؛ لتأتي لوحاته التي تضمنها المعرض سرداً بصرياً يعبّر عن ولعه بالبلد الذي احتضنه منذ توجهه إليه.

لوحة لرجل مصري مستلهمة من صورة فوتوغرافية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول المر لـ«الشرق الأوسط»: «أعمال هذا المعرض هي تعبير صادق عن امتناني وشكري البالغين لمصر، ويوضح: «جاءت فكرة المعرض عندما وقعت عقد تعاون مع إحدى الغاليريهات المعروفة في الولايات المتحدة، وبموجب هذا العقد لن أتمكن من إقامة أي معارض في أي دول أخرى، ومنها مصر التي عشت فيها أجمل السنوات، أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتفعيل هذا الاتفاق أن أقول لها شكراً وأعبّر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم وما زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم مصادفة».

اللوحات تقدم مشاهد مصرية (الشرق الأوسط)

استلهم الفنان 25 لوحة بخامة ألوان الأكريلك والأعمال الورقية من مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والـ«بوستال كارد» المصرية القديمة، التي تعكس بدورها روعة الحياة المصرية اليومية، ودفء المشاعر والترابط المجتمعي فيها وفق المر: «لدي نحو 5 آلاف صورة مصرية، جمعتها من (الاستوديوهات) وتجار الروبابكيا، ومتاجر الأنتيكات، ومنا استلهمت لوحاتي».

ويضيف: «مصر غنية جداً باستوديوهات التصوير منذ عشرات السنين، ولديها قدراً ضخماً من الصور النادرة المُلهمة، التي تحكي الكثير عن تاريخها الاجتماعي».

الفنان صلاح المر (الشرق الأوسط)

يستطيع زائر المعرض أن يتعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في أعماله؛ حيث حرص المر على أن يضع بجوار اللوحات داخل القاعة الصور المرتبطة بها، ولكن لن يعثر المتلقي على التفاصيل نفسها، يقول: «لا أقدم نسخة منها ولا أحاكيها، إنما أرسم الحالة التي تضعني فيها الصورة، مجسداً انفعالي بها، وتأثري بها، عبر أسلوبي الخاص».

لوحة مأخوذة عن صورة لطفل مصري مع لعبة الحصان (الشرق الأوسط)

تأتي هذه الأعمال كجزء من مشروع فني كبير بدأه الفنان منذ سنوات طويلة، وهو المزج ما بين التجريد التصويري والموضوعات ذات الطابع العائلي، مع الاحتفاء بالجماليات الهندسية، والرموز التراثية، والاستلهام من الصور، ويعكس ذلك ولعه بهذا الفن، تأثراً بوالده الذي عشق الفوتوغرافيا في شبابه.

يقول: «بدأ تعلقي بالفوتوغرافيا حين عثرت ذات يوم على كنز من الصور في مجموعة صناديق كانت تحتفظ به الأسرة في مخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور بعدسة والدي الذي انضم إلى جماعة التصوير بكلية الهندسة جامعة الخرطوم أثناء دراسته بها».

لوحة مستلهمة من صورة قديمة لعروسين (الشرق الأوسط)

هذا «الكنز» الذي عثر عليه المر شكّل جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية ومؤثراً وملهماً حقيقياً في أعماله، والمدهش أنه قرر أن يبوح للمتلقي لأول مرة بذكرياته العزيزة في طفولته بالسودان، وأن يبرز دور والده في مشواره الفني عبر هذا المعرض؛ حيث يحتضن جدران الغاليري مجسماً ضخماً لـ«استوديو كمال»؛ وهو اسم محل التصوير الذي افتتحه والده في الستينات من القرن الماضي.

لوحة تعكس تفاصيل مصرية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول: «أقنع والدي جدي، بإنشاء استوديو تصوير بمحل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، وتم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للتحميض، وذلك في الجزء الخلفي من الدكان».

وجوه مصرية (الشرق الأوسط)

وداخل المجسم تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المر، والمؤثر الفني الذي شكل أعماله؛ ما يجعله أكثر تواصلاً، وتأثراً بلوحات المعرض؛ فالمتلقي هنا يستكشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه التقاط صور لنفسه داخل محله القديم!

وأثناء ذلك أيضاً يتعرف على جانب من تاريخ الفوتوغرافيا، حيث المعدات، وهي عبارة عن الكاميرا YASHIKA التي تستخدم أفلام مقاس 621 وEnlarger والستارة التي تعمل كخلفية وأدوات أخرى للتحميض والطباعة، وتجفيف الفيلم والصور بواسطة مروحة طاولة، وقص الصور بمقص يدوي: «استمر العمل لمدة سنة تقريباً، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن امتد تأثير هذه التجربة داخلي حتى اللحظة الراهنة».

مجسم لاستوديو والد الفنان في الغاليري (الشرق الأوسط)

«احتفالية القرد والحمار» هو اسم «بوستال كارد» عثر عليه الفنان لدى تاجر روبابكيا، ويجسد مشهداً كان موجوداً في الشارع المصري قديماً؛ حيث يقدم أحد الفنانين البسطاء عرضاً احتفالياً بطلاه هما القرد والحمار، ومنه استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: «تأثرت للغاية بهذا الملصق؛ وجعلت اسمه عنواناً لمعرضي؛ لأنه يجمع ما بين ملامح الجمال الخفي في مصر ما بين الفن الفطري، والسعادة لأكثر الأسباب بساطة، وصخب المدن التي لا تنام».