الفارابي والتنوير العربي

معرفته كانت موسوعية شملت كل العلوم المتوافرة في عصره

نصب الفارابي في بغداد
نصب الفارابي في بغداد
TT

الفارابي والتنوير العربي

نصب الفارابي في بغداد
نصب الفارابي في بغداد

يعد الفارابي الفيلسوف الكبير الثاني في اللغة العربية بعد الكندي، وقبل ابن سينا الذي يجيء في المرتبة الثالثة من حيث التسلسل الزمني. وبعد أن درس في فاراب وبخارى، انتقل إلى بغداد لإكمال تعليمه. وبغداد آنذاك كانت عاصمة الدنيا، وبالتالي فكل النوابغ -أو من يريدون أن يصبحوا نوابغ- ينبغي أن يحجوا إليها، تماماً كباريس أو لندن أو نيويورك حالياً. وهناك، درس واشتغل لفترة طويلة إلى حد أنه أصبح عراقياً تقريباً. وربما لهذا السبب توجد حالياً جامعة أهلية في بغداد باسم: كلية الفارابي الجامعية. وفي أثناء هذه الفترة المديدة، اكتسب الفارابي معرفة عدة لغات، وتعمق في شتى فروع المعرفة، من علمية أو فلسفية. وقد شهد تعاقب ستة خلفاء عباسيين على الحكم. ثم استقر لاحقاً في حلب، حيث أصبح مقرباً من أميرها الشهير سيف الدولة الحمداني. وحتماً تعرف على المتنبي هناك، فبلاط سيف الدولة كان مليئاً بالعباقرة. ثم عاد إلى دمشق في أواخر عمره، وفيها مات عام 950، عن ثمانين عاماً تقريباً. وهو عمر طويل جداً بالنسبة لذلك الزمان، ويعادل المائة سنة حالياً. وفي أثناء حياته الطويلة هذه، عاش الفارابي حياة التقشف والزهد في الحياة الدنيا، فلم يتزوج، ولم يركض وراء المال والوجاهات، كما يفعل كثير من المثقفين العرب وغير العرب. ويقال إنه ما كان يطلب من سيف الدولة إلا أربعة دراهم يومية كافية لسد الرمق فقط، ويرفض كل ما عدا ذلك. ولو شاء لاكتنز الذهب والفضة، واقتنى الضياع والإقطاع. ومن صفاته الجميلة أنه كان يقضي معظم أوقاته في البساتين وعلى شواطئ الأنهار. وهل هناك حياة أجمل من هذه؟ كان يؤثر العزلة والوحدة لكي يخلو كلياً للتأمل والتفكير، وتدبيج المؤلفات التي أنارت العالم العربي والإسلامي كله.

الجمع بين العلم والإيمان
كانت معرفة الفارابي موسوعية، تشمل كل العلوم المتوافرة في عصره؛ انظر كتابه «إحصاء العلوم». ولذلك لقبوه بالمعلم الثاني، بعد أرسطو. وما كان أحد يضاهيه في هذا المجال، ربما ما عدا ابن سينا الذي جاء بعده بقرن أو يزيد. ولكن ابن سينا لم يعش أكثر من 57 سنة. ومع ذلك، فقد أضاء الكون بوجوده وعبقريته المشتعلة. أما الفارابي، فقد عاش عمراً مديداً أتاح له أن يطلع على معارف ومصنفات كثيرة جداً. وبالمختصر المفيد، يمكن القول إن الفارابي كان فيلسوفاً متأثراً بالفكر الإغريقي قبل كل شيء؛ أي فكر أفلاطون وأرسطو. وكان يعد أنهما كشفا الحقيقة المطلقة مرة واحدة، وإلى الأبد. وبالتالي فكل من جاء بعدهما ينبغي أن يحذو حذوهما. وكان يجمع بين الدين الإسلامي والعقلانية الإغريقية؛ أي بين العلم والإيمان، كما نقول نحن حالياً. وهنا تكمن عظمته. بل وصل الأمر به إلى حد تقديم الحقيقة الفلسفية على الحقيقة المذهبية أو العقائدية؛ وهذا شيء مدهش جداً بالنسبة لذلك الزمان. هذا يعني أنه سبق فولتير وكانط إلى التنوير. ونحن نعتقد عموماً أن ابن رشد هو أكبر فيلسوف عقلاني في تاريخ الإسلام، ولكن هذا غير صحيح على الإطلاق، فالفارابي هو الفيلسوف العقلاني الأول والأكبر في تاريخنا. يضاف إلى ذلك أنه كان منفتحاً على العقائد والأديان كافة، بالإضافة إلى الإسلام. وهنا يكمن اختلافه عن الفقهاء المنغلقين داخل مذاهبهم وطوائفهم. والواقع أن ميزته الأساسية تكمن هنا، وهي التي تميزه عن ابن رشد الذي ظل فقيهاً متشدداً في أعماقه، رغم ألمعيته وانفتاحه على الفلسفة اليونانية. فالفارابي -المسلم- كان منفتحاً على الأديان الأخرى، ولم يكن يكفر أتباعها، على عكس ابن رشد. وكان يعتقد بإمكانية وجود عدة أديان صحيحة فاضلة في العالم، لا ديناً واحداً. فالناس الطيبون المستقيمون أخلاقياً موجودون في كل الأديان والمجتمعات، وكذلك الناس السيئون المنحرفون. وقد يكون بعض أبناء ديننا أو جماعتنا من أحقر الناس. وبالتالي، فقد أعطانا الفارابي درساً في التسامح الديني والانفتاح الفكري قلّ نظيره. وليتنا نهتم بهذا الدرس الآن ونستعيده لكي نواجه به حركات التعصب والانغلاق. لقد أثبت الفارابي إمكانية المصالحة بين العقل والنقل، أو بين الفلسفة والدين. وقال لنا إننا إذا ما فهمنا الدين جيداً -أي بشكل عقلاني- فإن التعصب سوف ينتهي من المجتمع، ولن تعود هناك مشكلات بين الأديان والطوائف؛ هذا هو الدرس الأساسي الذي خلفه لنا الفارابي من خلال أعماله ومؤلفاته الفلسفية والسياسية الكثيرة. لقد قدم تفسيراً عقلانياً مستنيراً للدين الإسلامي. ومشى بذلك على خطى سلفه الكبير الكندي الذي كان فيلسوف العرب الأول الذي طالما هاجم المتاجرين بالدين.

مدينة الفارابي الفاضلة
كان الفارابي يعتقد أن الحقائق الفلسفية كونية؛ أي تنطبق على جميع البشر أياً تكن أديانهم ومذاهبهم، وذلك بخلاف الأديان التي لا تنطبق حقائقها إلا على أتباعها فقط. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية. فتعاليم الفلسفة العقلانية والمنطقية تنطبق على المسلم والمسيحي واليهودي دون أي تمييز لأن آلتها العقل، والعقل مشترك بين الناس، وليس محصوراً بأبناء طائفة واحدة أو دين واحد. وهذا الكلام يذكرنا بعبارة ديكارت الشهيرة: إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر. وبالتالي، فقد سبق الفارابي ديكارت إلى هذه الفكرة الأساسية. ولذلك نقول إن التنوير العربي سبق التنوير الأوروبي بعدة قرون، بل ومهد له الطريق. ولكن هناك فرق بين من يشغل عقله ويطور العلوم والاكتشافات كافة، وآخر يلغي عقله ويستسلم للشعوذات والخرافات، كما حصل لنا في عصر الانحطاط، حيث انطفأت أنوار العالم الإسلامي كلياً. وعندئذ، ساد الشعار الشهير: من تمنطق فقد تزندق، أو كان يتفلسف لعنه الله... إلخ، بل لا يزال هذا الانحطاط سائداً حتى الآن في عصر الإخوان الدواعش وبقية الظلاميين. ولكن لحسن الحظ فهناك بقع ضوء كثيرة في أقطار هذه الأمة، والمصابيح ابتدأت تشتعل من جديد هنا أو هناك. والنهضة العربية آتية لا ريب فيها. أتوقف هنا لحظة لكي أشيد بالقرارات الأخيرة المتخذة في المملكة العربية السعودية لصالح تعليم الفلسفة والفكر النقدي، وكذلك ترسيخ قيم التسامح والتفاهم في الأوساط الطلابية والجامعية. ولهذا السبب سحبت وزارة التعليم من التداول كتب التطرف والتعصب لحسن البنا وسيد قطب والمودودي وبقية أقطاب الإخوان. من هنا نبدأ: أما إسلام الأنوار وإما إسلام الظلمات. قلناها ألف مرة!
وأما فيما يخص الفكر السياسي، فيمكن أن نقول ما يلي: عندما نقرأ الأفكار والآراء الواردة في كتاب أفلاطون المعروف باسم الجمهورية، فإننا ندرك مدى تأثر الفارابي بها من خلال كتابه المشهور أيضاً: أراء أهل المدينة الفاضلة. والمدينة الفاضلة هي تلك التي يحكمها الفيلسوف العاقل تماماً، كما هو الحال في جمهورية أفلاطون. الفرق الوحيد بينهما هو أن الأولى مؤمنة، تجمع بين النبوة والوحي من جهة، وبين العقل والحكمة الفلسفية من جهة أخرى. أما الثانية فهي وثنية، وبالتالي ينقصها الإيمان بالله والتعالي الرباني. ولكن قوانين جمهورية أفلاطون يمكن أن تنطبق مع بعض التعديل على الجمهورية الإسلامية الفاضلة للفارابي.
هذا وقد تحدث الفارابي عن الدين الكوني بصفته مثلاً أعلى. وهو دين يتجاوز كل الأديان الخصوصية فيما يحتضنها ويستوعبها؛ إنه دين ينطبق على البشرية جمعاء كما ذكرنا سابقاً. وذلك لأنه يجمع بين النبوة والمنطق والحكمة الفلسفية في آن معاً. وبالتالي، فهو يشمل الإسلام والمسيحية واليهودية وبقية الأديان الأخرى. هكذا، نلاحظ أن فكر الفارابي يساعدنا على تجاوز حروب الأديان والمذاهب التي تهدد عالم اليوم. لقد سبق المفكر السويسري المعاصر هانز كونغ إلى الشعار الشهير: لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان. واسمحوا لي أن أشيد هنا أيضاً بـ«بيت العائلة الإبراهيمية» المقام في أبوظبي، عاصمة الإمارات العربية المتحدة. وهو مشروع إيماني تنويري ضخم سوف يساهم في نشر فكرة التسامح وترسيخها في العالم العربي لأول مرة بهذا الشكل. وسوف يغير الصورة الداعشية السوداء التي شكلها العالم عنا مؤخراً، وشوهت وجهنا الأخلاقي والإنساني العريق: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» أو «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». أين راح كل ذلك؟ هل ذهب أدراج الرياح؟ مستحيل. ينبغي أن يعود. والسياسة التنويرية المتبعة حالياً في السعودية والإمارات والبحرين سوف تساهم في هذه العودة إلى جادة الصواب حتماً.
وأخيراً، يمكن القول إن كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» هو عبارة عن مساهمة كبرى في بلورة العلوم السياسية، بالإضافة إلى علم الاجتماع. وذلك قبل أن يظهر ابن خلدون بزمن طويل، هذا ناهيك من دوركهايم وماكس فيبر. ويمكن القول أيضاً إن الفارابي هو أول فيلسوف مسلم يولي للشؤون السياسية كل هذه الأهمية، ويدعو إلى تشكيل الحكومة المدنية الفاضلة، وعلى رأسها الحكيم الفيلسوف، وليس الولي الفقيه أو رجال الدين كما يزعمون. فللدين مجاله وللسياسة مجالها، ولا ينبغي الخلط بينهما في كل شاردة وواردة، كما تفعل حركات الإسلام السياسي أو المسيس حالياً. وهنا، نلاحظ مدى تأثره الواضح بأفلاطون كما ذكرنا. والمقصود بالحكومة الفاضلة هنا الحكم الرشيد في لغتنا الحالية.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟