عندما تخطئ الديمقراطية علينا البحث عن مقبرة جديدة

مختارات من الشعر الأفغاني المعاصر

أفغانستان... الحرب التي لا تنتهي
أفغانستان... الحرب التي لا تنتهي
TT

عندما تخطئ الديمقراطية علينا البحث عن مقبرة جديدة

أفغانستان... الحرب التي لا تنتهي
أفغانستان... الحرب التي لا تنتهي

يصدر قريباً عن دار «المدى» العراقية كتاب «أنطولوجيا الشعر الأفغاني الحديث»، وهو من تقديم وترجمة مريم العطار. وضمت الأنطولوجيا خمسة وثلاثين شاعراً وشاعرة من المحدثين، ويطلق عليهم في أفغانستان لقب «بساطالباني»، أي ما بعد طالبان، وينقسمون إلى قسمين، حسب المترجمة:
القسم الأول: يضم شعراء معروفين لهم حضور واضح في أفغانستان كالشاعر برتو نادري، والشاعرة خالدة فروغ، والشاعر سميع حامد.
القسم الثاني: هم الشعراء الحداثيون الذين حققوا مكانتهم في وقت قصير مثل محمود جعفري، وهو كاتب مقالات وشاعر ترك بصمات
واضحة والشاعر ضياء قاسمي ومحبوبة إبراهيمي ووحيد بكتاش وإلياس علوي ومجيب مهرداد الذين ترجمت أعمالهم إلى لغات أخرى.

هنا نماذج من قصائد بعض الشعراء

بيدرو بارتو
كاتب وشاعر، ولد عام 1953 في ولاية بدخشان في أفغانستان. حاصل على شهادة البكالوريوس في علم البيولوجيا من جامعة كابل، وعضو في اتحاد الكتاب في أفغانستان، ويعمل الآن مديرا لمجلة «جوندون» الأدبية في أفغانستان. له عشرة كتب شعرية مطبوعة.

سيجارة نصف مشتعلة
في هذه المستنقعات المالحة
النبات ينمو في فصول الله الخضراء
وعبثا تتصور
صنوبرة كبيرة تفيء
على عطش المسافرين...
في هذه المستنقعات المالحة
سيكفرون بنمو «شقائق النعمان»
في إطار القانون لجراد متعطش
وأنا حزين من أجل ذلك الذي لا يعرف
الفرق بين النبع والسراب...
أبكي لأجل ذلك الذي
يأخذ أفكاره السياسية من سواه
مثل نصف سيكارة مشتعلة
ينظرون إلى الديمقراطية في انحناء جسد امرأة
في هذه المستنقعات المالحة
لو نبت مرسال أحمر
لم يكن سوى دم العرائس في دهراود*
لم يكن سواه،
عندما تخطئ الديمقراطية
يجب علينا أن نبحث عن مقبرة جديدة لنا
حتى أبي لا يملك الحق في أن يقول
ثمة حاجب فوق عيون الأصدقاء!
دم ألف عريس وعروس
فداء لأصدقائنا الذين تعلموا فقط أن يقتلوا؛
ليبقوا على قيد الحياة
أصدقاؤنا أناس صابرون
بعقولهم النيرة يضيعون في غابات الـDNA
أصدقاؤنا بأنسجتهم التالفة جربوا قبور تورا بورا**
بألف لون
ولون
في مختبرات الـ«بنتاغون»
لأجل أن فلان بن فلان
ربما هو من الجيل الأول
وربما يكون من سلالة قابيل
أصدقاؤنا
دون أن يعكروا زرقة السماء
عبروا من نهر الدماء
في «الحادي عشر من سبتمبر»
واصطادوا أسماك السلمون.
* هي إحدى المحافظات الأفغانية.
** تورا بورا تعني بالعربية الغبار الأسود، وهي منطقة في شرق أفغانستان.

ليلى صراحت روشني
ولدت عام 1959 في ولاية جاركار في محافظة بروان، حاصلة على شهادة البكالوريوس في الأدب الفارسي من جامعة كابل. عضو في اتحاد الكتاب في أفغانستان. سافرت بعد أحداث طالبان إلى باكستان، ثم هاجرت إلى هولندا، وهناك أسست مجلة بعنوان «حواء في المنفى»، استمرت لعامين. لها خمسة كتب مطبوعة: «طلوع أخضر» و«صرخة متتالية» و«حديث الليل» و«من الصخور والمرايا»، و«على تقويم العام».
توفيت بعد صراع طويل مع مرض السرطان في هولندا عام 2005.

اعتدت الوحدة
أنت لن تأتي
أنت لن تأتي
من أنفاس الطيور
والربيع... كم هو خاو من أنفاس الطيور
الليل ممتلئ بالعدم
كلا،
الليل ممتلئ بوهم غليظ
الشعر
الليل ممتلئ بصمت الشعر
الليل ممتلئ بهمس الانطفاء
أنت لن تأتي
ولن تعلم
أن الليل يشبه المستنقع
قلبي يتعفن في أعماق
يتعفن
ببطء
ببطء
ببطء
أنا كنت أغبط العصافير
التي تعشق التحليق
كم أعشق التحليق
لكن هناك حبل غير مرئي
بطول الزمن
يشد على أجنحتي
الليل تعوَد على وحدته
أنا اعتدت الوحدة
هل تعلم ماذا يعني أن تعتاد على الوحدة؟
أنت تعلم
ولكنَك لن تأتي!
ثلج في غير أوانه
يتساقط الثلج
يتساقط الثلج
الثلج أشبه بصرخة لجثة
تقع فوق التربة
دون عناء
ثقيل
يهبط على تل حزين
قلبي يتمدد
يلتف به الحزن
أجر الحسرة ببطْ
ربما الثلج
جثة صرخة، كانت لي
ربما الثلج صرخة إنسانية

أبو طالب مظفري
ولد عام 1966 في قرية باغجار التابعة لولاية أرزكان. أكمل دراسته الابتدائية ثم سافر إلى باكستان. وفي عام 1981 هاجر إلى إيران. درس الفقه والأصول في الحوزة العلمية في مشهد، وعمل محررا في الصحف الأدبية كصحيفة «دردري» و«الخط الثالث».
له مجموعتان شعريتان.

وحيد
وحيد كذئب أبيض
وحيد في الغابة
ربما سيجدني ذلك الصياد العنيد
من أثر دمائي
حزين
احترقت جميع مسراتي
أرسلتها إلى خمس قارات في العالم،
وضعت رمادها في دلو مغلق،
رميتها في سبعة بحار سوداء.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي