«داعش».. الأصل إخواني

قيادي في جماعة {الجهاد} المصرية لـ «الشرق الأوسط»: الاعتقاد بوجود فرق بين فكر «الإخوان» و«داعش».. جهل

TT

«داعش».. الأصل إخواني

«داعش» نبتة إخوانية قطبية نشأت على كتب سيد قطب ومنهجه في «الظلال» و«معالم في الطريق» وغيرهما من كتبه منذ الستينات، ولا تجد أحدا من «داعش» أو من «القاعدة» عموما إلا وهو يعظم سيد قطب ويعتبره مثلا أعلى ونموذجا يحتذى، وعلى رأسهم أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة»، فإنه نص على أن فكر سيد قطب وكتبه هي المصدر الرئيسي لمنهج رجاله.
ويقول خبراء في الجماعات المتطرفة، إنه لم يعد هناك شك في أن «داعش» نبتة شيطانية للتفكير القطبي الإخواني، وهي امتداد طبيعي للتنظيمات التكفيرية التي تربت على موائد الجماعة وفي داخل السجون وفي مدارسها مثل «القاعدة» وجبهة النصرة، وغيرهما.
وبالإضافة إلى اعتراف يوسف القرضاوي، في فيديو انتشر وكشفت عنه «الشرق الأوسط» قبل أسابيع، نقلا عن مواقع التواصل الاجتماعي، أن زعيم تنظيم داعش الإرهابي، أبو بكر البغدادي «كان من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين». وفي الفيديو نفسه، شرح القرضاوي أن البغدادي كان له «نزعة قيادية، مما حثه على الانضمام لـ(داعش) وقيادة التنظيم بعد خروجه من السجن». وأشار القرضاوي إلى أن «(داعش)، وغيره من التنظيمات الإرهابية، استقطبت شبابا من عدة دول تحت ذريعة الجهاد في سبيل الله».

وفي تسجيل صوتي نادر لسيد قطب أكد فيه أن طريق الدعوة المزعومة للجماعة ليست مفروشة بالورود، ولكنها مفروشة بالأشلاء والجماجم مزينة بالدماء وليست مزينة بالورود والرياحين. وكانت هذه الكلمات مقدمة، بل تأصيلا منهجيا يسير عليه أتباع هذا الفكر الدموي الضال الذي انبنت عليه فكرة ما يسمى «داعش» التي نشرت أخيرا في الرقة والموصل ملصقات لأقوال سيد قطب أو أفكار القطبيين، والتي بات لها مشايخ وأئمة يؤمنون بأفكار القطبيين ويقدسونها، حيث يتحدث أتباعه باللهجة نفسها، فهم يعتبرون أن الدين لا يمكن أن يصل إلى الناس عن طريق الدعوة أو المنابر ويسخرون من كل ما ينادي بهذا المنهج، وقد انتشرت فيديوهات التنظيم على الشبكة العنكبوتية في مواقعهم التي تؤكد فكرة أن الإسلام لا يقوم عن طريق المنابر، بل إن هناك طريقا واحدا فقط هو الطريق المفروش بالجماجم والأشلاء.
ولا تخلو إصدارات «داعش» من أفكار سيد قطب التكفيرية، ومنها استشهاد أغلب إصدارات التنظيم بمقولة سيد قطب في الظلال 3/ 1543 «فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد»، و«النص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها. فهي حدود الطاقة إلى أقصاها.. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها»، بحسب محسوبين على متطرفين في لندن. وربما بالعودة إلى كتاب أيمن الظواهري «فرسان تحت راية النبي» الذي نشرته «الشرق الأوسط» على حلقات بعد هجمات سبتمبر (أيلول): «إن سيد قطب هو الذي وضع دستورنا في كتابه (معالم في الطريق)، وإن سيد هو مصدر الإحياء الأصولي، وإن كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، يعد أهم إنتاج عقلي وفكري للتيارات المتطرفة، وإن فكره كان شرارة البدء في إشعال الثورة ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج، والتي ما زالت فصولها الدامية تتجدد يوما بعد يوم. والكتاب منشور اليوم بالكامل في موقع (التوحيد والجهاد) الذي يشرف عليه أبو محمد المقدسي المنظر الشرعي لكل المتطرفين حول العالم».
كما أكد الظواهري في محاضرة له، أن أسامة بن لادن خرج من تنظيم الإخوان المسلمين وأشار إلى أنه كان يتبع تعليمات التنظيم بحذافيرها عندما توجه إلى باكستان، فيما قال عبد الله عزام الزعيم الروحي للأفغان العرب في كتابه «عشرون عاما على استشهاد سيد قطب»: «والذين يتابعون تغير المجتمعات وطبيعة التفكير لدى الجيل المسلم يدركون أكثر من غيرهم البصمات الواضحة التي تركتها كتابة سيد قطب وقلمه في تفكيرهم. والذين دخلوا أفغانستان يدركون الأثر العميق لأفكار القطبيين آنذاك وفي الجيل كله فوق الأرض كلها. ومنهم أيضا محمد المقدسي وهو أحد الأفغان العرب المشهورين بشدة التكفير والحكم بالردة على المسلمين واستباحة دمائهم، وله عدة كتب تعج بالآراء المتطرفة مثل (ملة إبراهيم), وهذه الكتب كانت توزع في معسكرات أسامة بن لادن على الأفغان العرب، فقد قال في كتابه (ميزان الاعتدال): بل قد أمضيت عمرا في رافد تصحيحي من روافد الإخوان الذين قد أرضعونا (الظلال) و(المعالم) وغيرها من كتب سيد وأخيه والمودودي – رضاعة في طور الحضانة أعني بداية الهداية».
إلى ذلك، أكد خبراء مصريون أن «(داعش) وجبهة النصرة وأنصار الشريعة والتوحيد والجهاد وأنصار بيت المقدس، جميعها أسماء لجماعة واحدة هي جماعة الإخوان، وأن طلب تنظيم داعش عودة الخلافة الإسلامية هي ورقة قديمة في الفكر الإخواني، وأن قسم كل من يدخل الجماعة أو التنظيم يكون على المصحف والمسدس، وأن قادة (داعش) يقرأون الأفكار المتطرفة وفتاوى الدماء الصادرة عن جماعة الإخوان». فيما قال قيادي جهادي مصري، إن الاعتقاد بوجود فرق بين فكر الإخوان و«داعش».. جهل، وإن اعتراف الأب الروحي للإخوان الشيخ يوسف القرضاوي، بانتماء زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، للإخوان، خير دليل ويعني أنه «شهد شاهد من أهلها».
من جانبه، قال القيادي في تنظيم الجهاد المصري، الشيخ نبيل نعيم، إن «أي إنسان يعتقد أنه ليس هناك فرق بين الإخوان و(داعش).. جاهل»، مضيفا: «لكن (الإخوان) كانت لديهم قدرة على إخفاء ما يعتنقونه خاصة فيما يخص المسلمين».
وتابع بقوله: «(الإخوان) أول من كفر المتجمعات، ومحمد قطب شقيق سيد قطب كفرهم، وسيد قطب، أبرز منظري جماعة الإخوان، قال في كتابه (معالم في الطريق): إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون، وهم يحيون حياة الجاهلية، وإذا كان فيهم من يريد أن يخدع نفسه، أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام ممكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية، فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئا، ليس هذا إسلاما، وليس هؤلاء مسلمين»، لافتا إلى أن «هذه هي عقيدة تنظيمات داعش وجبهة النصرة وأنصار الشريعة والقاعدة».
وأضاف نعيم لـ«الشرق الأوسط»، أنه «لا فرق بين ما يعتنقه (الإخوان) و(داعش)؛ لكن (الإخوان) بسبب ما نزل بهم من البلاءات، اتبعوا نظام (التقية) أي يقولون الشيء وهم يخفون شيء آخر.. يبيحون في أنفسهم سهم تكفير المجتمعات الإسلامية، وأن الدول كافرة ويجوز استحلال الأموال الحكومية، والكذب على الناس والتجسس.. كل هذا تعتنقه جماعة الإخوان.. فالإخوان يتبعون نظام (العزلة الشعورية) فهم يعيشون في مجتمعات منفصلين عنها شعوريا»، مؤكدا أن «داعش» و«جبهة النصرة»، و«أنصار الشريعة»، و«القاعدة»، ترجموا هذا لواقع عملي، مضيفا: «إن قول القرضاوي، إن البغدادي كان ينتمي للإخوان هذا خير دليل، وكأنه (شهد شاهد من أهلها)».
وأضاف نعيم، أن «(الإخوان) لا يختلفون عن (داعش) فكريا»، مشيرا إلى أنهم أصل العنف في العالم، وجميع المنظمات الإسلامية الإرهابية خرجت من رحمها.
ويرى مراقبون أن رفع أنصار جماعة الإخوان رايات تنظيم داعش السوداء، وهتفوا له في حي المطرية الشعبي (شرق القاهرة)، أثناء مظاهرات نظموها يوم 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ضمن فعاليات دعا إليها تحالف يقوده «الإخوان» تحت شعار «قوة في وحدتنا».. لهو خير دليل على أن فكرهم واحد وهو العنف والتخريب.
وصنفت الحكومة المصرية «الإخوان» كجماعة إرهابية، وتشير المعلومات إلى تحول قطاع عريض من شباب جماعة الإخوان والتيار الإسلامي الرافض لعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي إلى تبني العنف، وهاجر العشرات من أعضاء جماعة الإخوان إلى سوريا أثناء حكم مرسي، وانضموا إلى تنظيم جبهة النصرة، ثم تحولوا إلى «داعش» لاحقا، وشغلوا مواقع قيادية في التنظيم.
بدوره، فسر الشيخ رسمي عجلان، من علماء الأزهر، العلاقة بين «داعش» وجماعة الإخوان المسلمين، قائلا: «يلتقي (داعش) وجماعة الإخوان في طلبهما بعودة الخلافة الإسلامية، واستخدامهما للعنف وإراقة الدماء والتطرف الفكري»، لافتا إلى أن طلبهما بعودة الخلافة الإسلامية ليس بجديد، وهي ورقة قديمة في الفكر الإخواني، لأنهم يعلمون أن هذه العبارة تجذب العوام والسذج من المسلمين ويغريهم بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لعودة الأمة الإسلامية قوية، فتصبح الدول الإسلامية يد واحدة في وجه التكتلات الدولية الغربية الحديثة، مشيرا إلى أن «هذا كلام لا وجود له على أرض الواقع، فهم يلعبون بمشاعر الناس ويعتمدون في التأثير عليهم على الصورة الجميلة للخلافة الإسلامية في ذاكرة التاريخ والناس، وقديما قال أحد قيادات «الإخوان» لا مانع من أن يحكم مصر - قلب الأمة العربية – وإلى بنغلاديش الجنسية أو باكستانيا، لأن الخلافة قادمة، وسواء كانت عاصمة الخلافة بغداد أو دمشق أو القاهرة.. فهذه هي المصيبة الكبرى أنهم لا يقرأون فقه الواقع وفقه الأولويات ولا حتى ما يدور حولهم من تغيرات سياسية والاقتصادية واجتماعية وتكنولوجية.
وأضاف الشيخ عجلان، وهو عضو الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، وله الكثير من الدراسات الخاصة بكيفية مواجهة التطرف والعنف، لـ«الشرق الأوسط»: «يلتقي كل من (داعش) وجماعة الإخوان في فكر العنف وإراقة الدماء، والسبب يرجع للتطرف الفكري عند (داعش) وجماعة الإخوان»، لافتا إلى أن «هذا ليس افتراء عليهم، فتاريخ الاغتيالات الإخوانية معروف ومشهور للجميع، وما قاموا به من تفجيرات وقتل وسفك للدماء البريئة في السنوات الثلاث الماضية، لهو أكبر شاهد وأعظم دليل.. وهم عندهم من يفتي بإباحة هذه الأعمال الإجرامية، لأنهم يعتبرون من لا يحكم بكتاب الله فهو كافر، ولأن المجتمع لم يخرج عليه فهو كافر، وقتال الكفار واجب ديني».
وتابع بقوله: «كان سيد قطب مفتي الدماء في جماعة الإخوان، وكان قسم كل من يدخل جماعة الإخوان على المصحف والمسدس، وعندما سئلوا عن الأبرياء الذين يموتون بسبب التفجيرات التي يقومون بها؟، قالوا: يموتون على نياتهم ويبعثون على نياتهم»، وهذا كلام مخالف للشرع الحنيف الذي جاء به سيد المرسلين سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم. و«داعش» تعتنق نفس الفكر لأن بها كثيرا ممن ينتسبون لجماعة الإخوان، وقادتهم يقرأون الأفكار المتطرفة وفتاوى الدماء الصادرة عن جماعة الإخوان، ولذا تجد أن أول مطلب لهم عودة الخلافة الإسلامية، ومفتي «داعش» يحلل لهم القتل وسفك الدماء لكل من خالفهم أو اعترض على فكرهم وأفعالهم، بل أباح لهم القتل الجماعي من أجل الوصول للخلافة.. وهذه وسيلة حرام شرعا وقانونا وإنسانيا.
ولفت عجلان إلى أن «داعش» اعتنقت الفكر التكفيري مثل جماعة الإخوان، فأصبح الحاكم عندهم كافرا، ومؤسسات الدولة كافرة، والمجتمع والناس كفارا، فقتالهم حلال، وسبي نسائهم وقتل شبابهم ورجالهم وسلب أموالهم غنيمة لهم، وهذا شيء لا يصدقه عاقل، ولم يقره دين من الأديان السماوية، ومعلوم أن «(داعش) و(الإخوان) صناعة خارجية، لتشويه صورة الإسلام السمح الحنيف، وتشويه صورة المسلمين المتميزين بالوسطية والاعتدال.. وفي هذه الحالة تتدخل الدول الغربية الكبرى في العالم الإسلامي لتقيم الحرية والديمقراطية، ويندرس الإسلام تحت عجلات الحرب الصناعية ويحرق الأخضر واليابس، بسبب الفكر المتطرف والعنف وسفك الدماء من جماعة (داعش والإخوان)».
من جهته، قال الخبير الأمني في مصر اللواء سامح سيف اليزل، إن «الأسماء المتعددة للجماعات الإرهابية لا تعني أنها منفصلة فكريا وآيديولوجيا»، مشيرا إلى أنها «جميعا تسير على نهج واحد وتتبنى الأفكار ذاتها»، مضيفا لـ«الشرق الأوسط»: «إن (داعش) وجبهة النصرة وأنصار الشريعة والتوحيد والجهاد وأنصار بيت المقدس، أسماء لجماعة واحدة هي جماعة الإخوان»، موضحا أن هذه الجماعات خرجت من تحت عباءة «الإخوان».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.