الإعلام الأميركي وحادث باريس.. بين حرية الرأي وحرية الإساءة

نائب رئيس وكالة أسوشييتدبرس: لا نريد نشر كلام فيه إساءة أو استفزاز أو تخويف أو أي شيء يدنس الرموز الدينية

(أ.ف.ب)
(أ.ف.ب)
TT

الإعلام الأميركي وحادث باريس.. بين حرية الرأي وحرية الإساءة

(أ.ف.ب)
(أ.ف.ب)

ليس جديدا، بالنسبة للإعلام الأميركي، موضوع حرية الإساءة. وذلك لأن الموضوع وصل، قبل 20 عاما تقريبا إلى المحكمة العليا (التي تفسر الدستور). وكان ذلك قمة نقاش استمر عقودا، خصوصا بسبب مظاهرات منظمة «كوكلس كلان» المعادية للسود. متى تكون المظاهرة إساءة إلى كل السود؟ ومتى تكون إساءة إلى أسود معين؟ من يحدد درجة الإساءة: المسيء، أم المساء إليه؟
في ذلك الوقت، أشارت المحكمة العليا إلى قرار سابق كانت أصدرته قبل ذلك بـ40 عاما (1954) عندما أعلنت أن التفرقة العنصرية ضد السود في المدارس غير دستورية. وذلك لأنها «تسبب إحساسا بالنقص، مما يؤثر على العقول والقلوب تأثيرات ربما لا يمكن أبدا التخلص منها».
لهذا، في قرارها الأخير عن الموضوع (عام 1992)، قالت المحكمة العليا إن «هيت سبيتش» (كلام الكراهية) حق دستوري، إلا إذا سبب «هيت فايولنس» (عنف الكراهية).
وكانت عائلة سوداء اشتكت أن شبانا بيضا وضعوا صليبا أمام منزلها، وأحرقوه، عادة «كوكلس كلان» في كراهية السود.
لهذا، فرقت المحكمة العليا بين إساءة «متعمدة»، وإساءة «عامة». يعنى هذا أن هناك إساءة، وهناك إساءة. ويعنى هذا أن إحساس العائلة السوداء بالخوف، والاحتقار، وعقدة النقص، والغضب الذي يمكن أن يسبب عنفا، هو مثل قانون تفرقة السود في المدارس.
وطبعا، كررت المحكمة العليا الرأي السابق بأن للحرية حدودا. منع حريات مثل حريات: التعري، وأيضا، بالنسبة للأطفال. وأيضا، الصراخ «حريق، حريق»، كذبا، في مكان مليء بالناس.
هذا ما نوه إليه، في الأسبوع الماضي، سانتاغو ليون، نائب رئيس وكالة أسوشييتدبرس، ومدير قسم التصوير فيها. بأن «السوابق الدستورية في حرية التعبير تفرق بين رأيين: رأي يسيء فقط. ورأي يسيء، وأيضا، يتضمن عدم تسامح ونفورا اجتماعي. الإساءة مسموح بها. لكن، عندما تتعمد الإساءة الكراهية والغضب..».
قال ليون: «لا نريد نحن نشر كلام كراهية، أو كلام مثير فيه إساءة، أو استفزاز، أو تخويف، أو أي شيء يدنس الرموز الدينية، أو يغضب الناس لأسباب دينية أو عرقية».
وأضاف: «نحن لا نحس أن هذا مفيد.. وليس في هذا استسلام للتهديدات الإرهابية». كان ليون يتحدث مع بول فارهي، محرر الشؤون الإعلامية في صحيفة «واشنطن بوست». وكتب فارهي نفسه: «عادة، تغير وسائل الإعلام الأميركية الصور التي تراها قاسية جدا، أو هجومية، رغم أنها تستحق النشر. مثل الحوادث الفظيعة، وضحايا الحرب، والصور العارية. ونشرت وسائل إعلام قليلة جدا الصور المروعة لقطع رؤوس الأميركيين الذين كانت تعتقلهم (داعش). أو الصور العارية لمشاهير في هوليوود وهم مقتولون. رغم الفيديوهات والصور التي تنتشر في الإنترنت». في الحقيقة، لا صحيفة «نيويورك تايمز»، ولا صحيفة «واشنطن بوست» (أكبر صحيفتين تأثيرا في الولايات المتحدة) نشرتا الرسوم الدنماركية أو الفرنسية عن النبي محمد. وحتى بعد حادث باريس، قالتا إنهما لن تنشراها.
نشرتها صحيفة «هفنغتون بوست» الإلكترونية. مع «عذر»: «هذا هو الكرتون الذي اعتقد الإرهابيون أنه يستحق القتل». بل تردد الصحافيون الأميركيون حتى في نشر صورة ستيفاني شاربونيه، رئيس تحرير المجلة الفرنسية (الذي قتل في الهجوم) وهو يقرأ مجلته، وعليها رسم النبي محمد وهو يجلس على كرسي عجلات، ويدفعه يهودي أرثوذكسي. رفضت وكالة أسوشييتدبرس نشر الصورة كاملة. وقصت الكاريكاتير، ونشرت صورة رئيس التحرير فقط واسم المجلة. وقال فيليب كوربيت، مسؤول المستوى الصحافي في صحيفة «نيويورك تايمز»: «نحن لا ننشر عمدا أي شيء يسيء إلى المشاعر الدينية. ونكتفي بوصف الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة، بدلا من نشرها ما دام الوصف يعطي القراء معلومات كافية لفهم الموضوع».
وقال مارتن بارون، مدير التحرير التنفيذي لصحيفة «واشنطن بوست»: «نتجنب نشر ذلك، عمدا وعن قصد ودون فائدة، يسيء إلى الجماعات الدينية. قبل وبعد ما حدث في باريس». لكن، يوم الخميس (بعد يوم من الهجوم على الصحيفة الفرنسية)، تمرد على هذه السياسة قسم صحيفة «واشنطن بوست» الذي يكتب الرأي الرسمي. وهو قسم منفصل عن قسم الأخبار. ونشر في صفحة الرأي الكاريكاتير الذي نشرته المجلة الفرنسية، وفيه رسم النبي محمد يقول: «100 جلدة إذا لم تضحك..» (إشارة إلى نكت على لسان النبي). وقال فريد هايات، رئيس قسم الرأي: «أعتقد أن مشاهدة الكاريكاتير تساعد القارئ على فهم الموضوع». في الحقيقة، كان رأي الصحيفة يوم الخميس، شبه مؤيد للمجلة الفرنسية. وفيه تركيز كبير على حرية نشر أي شيء. وفيه هجوم على الصحافيين الذين لا ينشرون كلاما، أو كاريكاتيرا، أو صورة «خوفا من المتطرفين».
لكن، كرر «الرأي» نشر سياسة الصحيفة منذ سنوات حول هذا الموضوع. وهي: «رفض نشر ما يبدو أنه، دون فائدة، يثير غضب المسلمين، أو يسيء إليهم». وخصوصا «المسلمين في أوروبا، وخصوصا في فرنسا، حيث يتعرضون إلى تفرقة قاسية، وإلى حملات أحزاب سياسية متطرفة».
لكن، اشترطت الصحيفة شيئين:
أولا: ألا يسبب ذلك أعمال عنف (من جانب المسلمين).
ثانيا: ألا يسبب ذلك رقابة صحافية (من جانب الصحافيين).
وهكذا، يبدو أن الإعلام الأميركي، وخصوصا هاتين الصحيفتين المهمتين، يرى الآتي:
في جانب، عدم الإساءة إلى المسلمين (واليهود، والسود، إلخ) بسبب الدين، أو اللون، إلخ.. في جانب آخر، عدم التفريط في حرية الصحافة.
وحسب تصريحات المسؤولين في الصحيفتين، ليس ذلك سهلا.
مثلما قالت صحيفة رئيسية أخرى، هي «يو إس إيه توداي». كتب رئيس تحريرها، ديفيد كالاواي: «سأكون غبيا إذا قلت إن اتخاذ قرار في هذا الموضوع ليس صعبا». وقال إنهم، في صباح اليوم الذي تلا حادث باريس، قرروا نشر كاريكاتير الصحيفة الفرنسية عن النبي محمد. لكن، في المساء، قرروا عدم نشره. ونشر كاريكاتيرات تؤيد حرية الصحافة. وفعلا، نشرت «يو إس إيه توداي» كاريكاتيرا فيه رسم قلم عملاق يقتل شخصا. وعلى القلم عبارة: «القلم يقتل الفاشستيين» (لا المسلمين، ولا حتى الإرهابيين). ويبدو الكاريكاتير يركز على أن حرية الصحافة يهددها أنواع كثيرة من الناس، وعبر التاريخ.
ونشرت صحيفة «واشنطن بوست» كاريكاتيرا فيه رسم بندقية كلاشينكوف عملاقة «الهجوم الدموي»، وإلى جانبها قلم صغير «حرية الصحافة». وعبارة: «لكن، سينتصر القلم». وهنا، أيضا، تحاش واضح لما أعلنته المحكمة العليا، وصار جزءا من التقاليد الدستورية الأميركية: «رأي يسيء فقط. ورأي يسيء، وأيضا، يتضمن عدم تسامح ونفورا اجتماعيا».
وكما كتب فارهي، في صحيفة «واشنطن بوست»: «يصير النقد دون مبرر نوعا من أنواع العاطفة. يصير شيئا غير عقلاني (من أسس العقلانية: لا يوجد منطق في إثارة العواطف. عش واترك غيرك يعش)».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.