أوباما يصفّى حساباته العالقة في «أرض موعودة»

سيرته من طفولته إلى مايو 2011 حين اتخذ قراره بتصفية أسامة بن لادن

غلاف المذكرات- الجزء الأول ... أوباما ترك العمل المجزي في المحاماة لمصلحة خوض اللعبة السياسيّة لما تمنحه من قدرة على التغيير
غلاف المذكرات- الجزء الأول ... أوباما ترك العمل المجزي في المحاماة لمصلحة خوض اللعبة السياسيّة لما تمنحه من قدرة على التغيير
TT

أوباما يصفّى حساباته العالقة في «أرض موعودة»

غلاف المذكرات- الجزء الأول ... أوباما ترك العمل المجزي في المحاماة لمصلحة خوض اللعبة السياسيّة لما تمنحه من قدرة على التغيير
غلاف المذكرات- الجزء الأول ... أوباما ترك العمل المجزي في المحاماة لمصلحة خوض اللعبة السياسيّة لما تمنحه من قدرة على التغيير

إذا كان الكتاب يُقرأ من غلافه، فهذا باراك أوباما الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة (مواليد 1961 وحكم من 2009 - 2016) يظهر في صورة ملتقطة باحتراف معتلياً عتبة كاملة الثقة، تعلو محياه ابتسامة بشاشة وكأنها من زمان ذهبي آخر بعيد لا نكاد نذكره، بعدما غرقت الولايات المتحدة في صراعات استقطابيّة الطابع حول الانتخابات الأخيرة، وتفاقمت المصاعب العرقيّة فيها حد الانفجار، فيما ترزح - وهي دولة العالم الأعظم - تحت عبء الجائحة المستعرة فتسجّل تباعاً أرقاماً قياسيّة في أعداد المصابين والضحايا، ويعيش سكانها ضغوطاً اقتصادية غير مسبوقة.
لكن الغلاف هذه المرّة لا يوشوش أذنينا بكل شيء. إذ إن النصّ بمجمله - رغم نثر أوباما المتين ولغته الأنيقة - يبدو أقرب إلى سجّل لتصفية الحسابات العالقة من فترة رئاسته الأولى، وفرصة لقول كلمته حول مسائل حساسة سياسياً لم يكن بمقدوره ربمّا التوسع بطرحها أيّام إقامته في البيت الأبيض.
ومن الواضح أنّ لدى أوّل رئيس أميركي ذي بشرة ملونة المزيد من الحسابات التي تحتاج بدورها إلى الإغلاق تركها لجزء ثان من هذه المذكرات سيغطي فترته الرئاسية الثانية - ولم يعرف على الفور متى يمكن إنجازه - إلى جانب الفوائد الجانبيّة الأكيدة في مضاعفة دخله عبر عدّة ملايين من النسخ ستباع حول العالم ورقيّاً وإلكترونيّاً. وللحقيقة فإن هذا الجزء الأوّل الذي جاء متأخرا بالفعل لمدة سنتين إضافيتين على موعد نشره وفق العقد الأصلي مع الناشر، وتجاوز الحجم المتفق عليه ليصل إلى 700 صفحة (مقابل 500 تم الاتفاق عليها) قد قفز سريعا بعد نشره بساعات إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة وبريطانيا.
يغطّي أوباما في «أرض موعودة*» وسيرته من صغره إلى مايو (أيار) 2011 وبالتحديد تلك الليلة التي كان عليه أن يتخّذ قراره بشأن تصفية أسامة بن لادن في باكستان، حيث كان يتوارى. تحتل فترة يفاعته نحو 200 صفحة لا جديد فيها عملياً عمّا كان رواه في كتابه الشهير «أحلام من والدي - 1995» الذي نشره بخضمّ أجواء التحضير للترشح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، وإن بدا في «أرض موعودة» أكثر ارتياحا لناحية وصف ذكرياته عن طفولته بإندونيسيا، ومتعه الشخصيّة مراهقاً في أجواء هاواي الطبيعيّة والاجتماعية مقارنة بتجنّبه الحديث عن تلك المرحلة عندما كان رئيساً ووظفها الجمهوريّون ضدّه ذلك الحين لدرجة أن الرئيس دونالد ترمب صرّح علنا - إبان حملاته الانتخابيّة عام 2015 - عن اعتقاده بأن الرئيس «أوباما ليس من مواليد الولايات المتحدّة، ومجرّد واجهة لمسلمين متطرفين».
ولا يقتصر الأمر على تناقض صورة الغلاف مع المضمون، إذ إن العنوان أيضاً الشديد التفاؤل بـ«أرض موعودة» ويوجهه مؤلفه إلى «الأجيال الطالعة» لا يقدّم الكثير مما يحفّز إلى الحلم بالغد الأفضل بقدر ما يتولى تحديد قوى الرّفض الجامحة التي تتحكم بالسياق السياسي الأميركي برمته، وتجعل من شبه المستحيل عملياً فرض أجندات تغيير حقيقي حتى لو كنت تجلس على مقعد الرئيس، سواء في معسكر القوى الجمهوريّة اليمينيّة المحافظة، أو لوبيّات المال والنفط، ومع موظفي الإدارة الأميركية المؤدلجين، وأجهزة المخابرات، والجيش، كما اللوبي الصهيوني أنصار إسرائيل وغيرها من مراكز القوى المتغلغلة في كل مفاصل صناعة القرار السياسي الأميركيّ.
ورغم الوصف المفعم بتفاصيل منسوجة بنفس عاطفي ظاهر لجوانب إنسانيّة ولحظات مؤثرة في حياة الرئيس السابق، فإن كتابه «أرض موعودة» هو كتاب سياسي بالدّرجة الأولى، يقدّم فيه أوباما سرديته للقضايا الرئيسية التي واجهها خلال فترة ولايته الأولى، بما في ذلك دوره بمواجهة مترتبات الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 التي كانت على لائحة انتظاره فور تسلّمه مهام منصبه، كما صراعه مع الجمهوريين لإقرار برنامجه المتعلّق بمدّ مظلّة الرعاية الصحية للمزيد من الأميركيين - واشتهر لاحقا باسم (أوباماكير) - والحرب المستمرّة في أفغانستان كما مسائل الهجرة، والبيئة عبر أحداث اضطر للتعامل معها (مثل حادثة أسوأ تسرّب نفطي في تاريخ البلاد)، فيما سكت عن قضايا أخرى مشحونة بالجدل مثل الاغتيالات بالدّرونات، والكشف عن دولة المراقبة التي تمسك بخنّاق الأميركيين وآخرين كثيرين حول العالم، وأيضا الانتخابات التي أوصلت خلفه الرئيس ترمب للرئاسة 2016، ولا بدّ أنّه سيغطيها في الجزء التالي من المذكرات.
ومع أنّ أوباما حاول ارتداء عباءة البطل دوماً في القضايا التي تحدّث بها، إلا أن القراءة المعمقة للنص تكشف عن ثيمات تكررت عبر مختلف المراحل وشكّلت مجمل تجربته الرئاسيّة ومنها ميلٌ غالب لتجنّب الصّراع في المواجهات الحتميّة، والحاجة الدّائمة لدعم الآخرين له بما يخصّ اتخاذ القرارات (لا سيّما النساء القويّات)، إضافة إلى عدم وجود راحة دائمة بسبب لون بشرته الأسود.
يروي أوباما مثلا ما يعتبره إنجازه الشخصي في تعامله مع مترتبات أزمة 2008 الاقتصادية العالميّة، التي تسببت فيها وبشكل أساسي البنوك وبيوتات المضاربات الماليّة الأميركيّة، وأضرّت باقتصاد معظم دول العالم. لكنّه يذكر كيف أنّه اضطر للتنازل مبكراً عن أفكاره الطموحة في التغيير الهيكلي لكوادر الدّولة ومنح الفرص للمواهب الجديدة، لمصلحة الاستعانة بالخبراء المخضرمين، الذين كان جزء منهم على الأقل مشاركين في صنع الأزمة المتفاقمة بشكل أو بآخر. وهو تراجع أيضا - تحت تهديد الخبراء بإمكان حدوث انهيار شامل للنّظام الرأسمالي - عن تصوّراته الأوليّة لاتخاذ إجراءات جذريّة لتنظيم الاقتصاد على أسس جديدة، واكتفى بإنقاذ المؤسسات المنهارة بسبب الجشع وسوء الإدارة باستخدام مليارات من الخزينة العامة، وهي سلوكيّات تتوافق تماماً لما روي عنه من قبل أحد مرشديه في العمل الحزبي بشيكاغو الذي وصفه «بالتردد في خوض المواجهات مع الآخرين، تجنباً لانفجار الأوضاع».
ويذكر أوباما في مواضع عدّة تألمه من معاداة الجمهوريين له وتصويتهم ضد كل مشاريعه في الكونغرس، حتى من دون الاطلاع عليها والتفكير بعواقب رفضها على المجتمع الأميركي بعمومه، فيما يسعى بكل طاقته للحصول على دعم وتأكيد غالبيّة المحيطين بالبيت الأبيض قبل اتخاذه القرارات. ومن الظاهر أنّه بحاجة دائمة لوجود نساء قويّات في فضاءات أجوائه يستمدّ منهن القوّة. بداية من والدته، مروراً برفيقات سنوات مراهقته، ثم زوجته ميشيل أوباما، وفي دهاليز السياسة ملهمته هيلاري كلينتون، بينما لا نجد مثل ذلك التأثير البالغ لأي من الرّجال. وحتى كارل ماركس قرأه في الجامعة كي يحظى بفرصة أفضل للتقرب من الصبيّة اليساريّة الحسناء ذات الساقين الطويلتين! ومن المعروف مثلا أن الرئيس العتيد لم يقتنع بشعار الحملة الرئاسيّة الذي قدّم إليه «نعم بإمكاننا»، ورفَضَه، قبل أن يعود ويتبناه كما هو إثر إبداء السيّدة زوجته رأياً إيجابياً تجاهه.
ومع أن أوباما يخبرنا في سياقات أخرى بأنّه ركب مخاطرة ترك العمل المجزي في المحاماة لمصلحة خوض اللعبة السياسيّة ليس من أجل السلطة بحد ذاتها، ولكن لما تمنحه من قدرة على التغيير انطلاقاً من إحساسه المضني والدائم بعدم الراحة الذي يعرفه ذو البشرة السوداء في مجتمع تهيمن عليه أكثريّة بيضاء، وما زال شديد العنصريّة رغم إنهاء الرق رسمياً في الولايات المتحدّة منذ ما يقرب من 150 عاماً. إلا أنّه وقد صعد إلى المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد فإن لا شيء جذريّاً تغيّر، وأصيبت غالبيّة الناشطين من الأقليّات بعد ثماني سنوات على توليه السلطة بخيبة أمل لناحية تقصيره الفادح.
وهو في المذكرات يمرر الأمر من دون إثارة زوبعات ويكتفي بتعبيره عن حزن من تغلغل المشاعر العنصريّة في مختلف مفاصل المجتمع الأميركي - لا سيّما داخل أوساط الطبقة العاملة البيضاء، في الوقت الذي يحاول وسم عداء الجمهوريين المبدئي تجاهه بارتباطه أكثر بموقعه السياسي كليبرالي تقدّمي، رغم اعتقاده أن الانتقال من عهد الرئيس الرابع والأربعين إلى عهد الرئيس الخامس والأربعين ليس من قبيل الصدفة، فإن مجرد حقيقة أن «رجلاً أسود بارعاً وذكياً وخالياً من الفضائح كان يسكن البيت الأبيض كاف لتحريك نقيضه».
في السياسة الخارجية، أوباما مشترك بحماس تام مع الاستثنائية الأميركية. ويذهب إلى الزّعم بأن أميركا ليس مرهوباً جانبها فحسب، بل تحظى بالاحترام والإعجاب أيضاً، ويردد أنّ «أولئك الذين انتقدوا دور الولايات المتحدّة في العالم لا يزالون يعتمدون علينا للحفاظ على النّظام الدّولي واقفا على قدميه»، ولذا لا نجد رؤية خاصة له في هذا المجال من العمل الرئاسي، ويكتفي بوصف العمليّة السياسيّة كما لو أنه ينظر إليها من بعد دون أن يكون مشاركا فيها.
ولعل ملاحظاته عن كبار رجال الدّولة الأميركيّة والسياسيين الأجانب الذين قابلهم وحدها تستحق الاهتمام هنا، وتشير إلى جانب ساخر يمتلكه الرئيس السابق وقدرة لاذعة على رسم البورتريهات للآخرين. فيصف فلاديمير بوتين بأنّ «وجوده الشخصي غير مؤثر»، فيما ديفيد كاميرون «يتحدّث بثقة من لم يسمح له الثراء الموروث بتجربة الأمور على حقيقتها»، وسارة بالين «لم تكن لديها أي فكرة عما كانت تتحدث عنه، بحق الجحيم»، بينما جوزيف بايدن هو لائق، وصادق، ومخلص «لكنّه من النّوع الذي قد يثير مشكلة كبيرة إذا اعتقد أنّه لم يأخذ حقه من الاحترام» وغيرها.
«أرض موعودة» التي ينحتها أوباما في (نصف) حكايته لذلك الشطر من حياته قد تكون مخيّبة لآمال الجذريين ربّما، لكّن النصّ لا يبتعد عن الأناقة والرفعة من الناحية الأدبيّة تليق بالصورة العامة عن ذلك الرجل الأسود الدّمث الذي كان أوّل ملّون سكن البيت الأبيض، ولم يتوقف يوما عن الابتسام حتى في أحلك اللحظات.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.