إذا كان الكتاب يُقرأ من غلافه، فهذا باراك أوباما الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة (مواليد 1961 وحكم من 2009 - 2016) يظهر في صورة ملتقطة باحتراف معتلياً عتبة كاملة الثقة، تعلو محياه ابتسامة بشاشة وكأنها من زمان ذهبي آخر بعيد لا نكاد نذكره، بعدما غرقت الولايات المتحدة في صراعات استقطابيّة الطابع حول الانتخابات الأخيرة، وتفاقمت المصاعب العرقيّة فيها حد الانفجار، فيما ترزح - وهي دولة العالم الأعظم - تحت عبء الجائحة المستعرة فتسجّل تباعاً أرقاماً قياسيّة في أعداد المصابين والضحايا، ويعيش سكانها ضغوطاً اقتصادية غير مسبوقة.
لكن الغلاف هذه المرّة لا يوشوش أذنينا بكل شيء. إذ إن النصّ بمجمله - رغم نثر أوباما المتين ولغته الأنيقة - يبدو أقرب إلى سجّل لتصفية الحسابات العالقة من فترة رئاسته الأولى، وفرصة لقول كلمته حول مسائل حساسة سياسياً لم يكن بمقدوره ربمّا التوسع بطرحها أيّام إقامته في البيت الأبيض.
ومن الواضح أنّ لدى أوّل رئيس أميركي ذي بشرة ملونة المزيد من الحسابات التي تحتاج بدورها إلى الإغلاق تركها لجزء ثان من هذه المذكرات سيغطي فترته الرئاسية الثانية - ولم يعرف على الفور متى يمكن إنجازه - إلى جانب الفوائد الجانبيّة الأكيدة في مضاعفة دخله عبر عدّة ملايين من النسخ ستباع حول العالم ورقيّاً وإلكترونيّاً. وللحقيقة فإن هذا الجزء الأوّل الذي جاء متأخرا بالفعل لمدة سنتين إضافيتين على موعد نشره وفق العقد الأصلي مع الناشر، وتجاوز الحجم المتفق عليه ليصل إلى 700 صفحة (مقابل 500 تم الاتفاق عليها) قد قفز سريعا بعد نشره بساعات إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة وبريطانيا.
يغطّي أوباما في «أرض موعودة*» وسيرته من صغره إلى مايو (أيار) 2011 وبالتحديد تلك الليلة التي كان عليه أن يتخّذ قراره بشأن تصفية أسامة بن لادن في باكستان، حيث كان يتوارى. تحتل فترة يفاعته نحو 200 صفحة لا جديد فيها عملياً عمّا كان رواه في كتابه الشهير «أحلام من والدي - 1995» الذي نشره بخضمّ أجواء التحضير للترشح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، وإن بدا في «أرض موعودة» أكثر ارتياحا لناحية وصف ذكرياته عن طفولته بإندونيسيا، ومتعه الشخصيّة مراهقاً في أجواء هاواي الطبيعيّة والاجتماعية مقارنة بتجنّبه الحديث عن تلك المرحلة عندما كان رئيساً ووظفها الجمهوريّون ضدّه ذلك الحين لدرجة أن الرئيس دونالد ترمب صرّح علنا - إبان حملاته الانتخابيّة عام 2015 - عن اعتقاده بأن الرئيس «أوباما ليس من مواليد الولايات المتحدّة، ومجرّد واجهة لمسلمين متطرفين».
ولا يقتصر الأمر على تناقض صورة الغلاف مع المضمون، إذ إن العنوان أيضاً الشديد التفاؤل بـ«أرض موعودة» ويوجهه مؤلفه إلى «الأجيال الطالعة» لا يقدّم الكثير مما يحفّز إلى الحلم بالغد الأفضل بقدر ما يتولى تحديد قوى الرّفض الجامحة التي تتحكم بالسياق السياسي الأميركي برمته، وتجعل من شبه المستحيل عملياً فرض أجندات تغيير حقيقي حتى لو كنت تجلس على مقعد الرئيس، سواء في معسكر القوى الجمهوريّة اليمينيّة المحافظة، أو لوبيّات المال والنفط، ومع موظفي الإدارة الأميركية المؤدلجين، وأجهزة المخابرات، والجيش، كما اللوبي الصهيوني أنصار إسرائيل وغيرها من مراكز القوى المتغلغلة في كل مفاصل صناعة القرار السياسي الأميركيّ.
ورغم الوصف المفعم بتفاصيل منسوجة بنفس عاطفي ظاهر لجوانب إنسانيّة ولحظات مؤثرة في حياة الرئيس السابق، فإن كتابه «أرض موعودة» هو كتاب سياسي بالدّرجة الأولى، يقدّم فيه أوباما سرديته للقضايا الرئيسية التي واجهها خلال فترة ولايته الأولى، بما في ذلك دوره بمواجهة مترتبات الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 التي كانت على لائحة انتظاره فور تسلّمه مهام منصبه، كما صراعه مع الجمهوريين لإقرار برنامجه المتعلّق بمدّ مظلّة الرعاية الصحية للمزيد من الأميركيين - واشتهر لاحقا باسم (أوباماكير) - والحرب المستمرّة في أفغانستان كما مسائل الهجرة، والبيئة عبر أحداث اضطر للتعامل معها (مثل حادثة أسوأ تسرّب نفطي في تاريخ البلاد)، فيما سكت عن قضايا أخرى مشحونة بالجدل مثل الاغتيالات بالدّرونات، والكشف عن دولة المراقبة التي تمسك بخنّاق الأميركيين وآخرين كثيرين حول العالم، وأيضا الانتخابات التي أوصلت خلفه الرئيس ترمب للرئاسة 2016، ولا بدّ أنّه سيغطيها في الجزء التالي من المذكرات.
ومع أنّ أوباما حاول ارتداء عباءة البطل دوماً في القضايا التي تحدّث بها، إلا أن القراءة المعمقة للنص تكشف عن ثيمات تكررت عبر مختلف المراحل وشكّلت مجمل تجربته الرئاسيّة ومنها ميلٌ غالب لتجنّب الصّراع في المواجهات الحتميّة، والحاجة الدّائمة لدعم الآخرين له بما يخصّ اتخاذ القرارات (لا سيّما النساء القويّات)، إضافة إلى عدم وجود راحة دائمة بسبب لون بشرته الأسود.
يروي أوباما مثلا ما يعتبره إنجازه الشخصي في تعامله مع مترتبات أزمة 2008 الاقتصادية العالميّة، التي تسببت فيها وبشكل أساسي البنوك وبيوتات المضاربات الماليّة الأميركيّة، وأضرّت باقتصاد معظم دول العالم. لكنّه يذكر كيف أنّه اضطر للتنازل مبكراً عن أفكاره الطموحة في التغيير الهيكلي لكوادر الدّولة ومنح الفرص للمواهب الجديدة، لمصلحة الاستعانة بالخبراء المخضرمين، الذين كان جزء منهم على الأقل مشاركين في صنع الأزمة المتفاقمة بشكل أو بآخر. وهو تراجع أيضا - تحت تهديد الخبراء بإمكان حدوث انهيار شامل للنّظام الرأسمالي - عن تصوّراته الأوليّة لاتخاذ إجراءات جذريّة لتنظيم الاقتصاد على أسس جديدة، واكتفى بإنقاذ المؤسسات المنهارة بسبب الجشع وسوء الإدارة باستخدام مليارات من الخزينة العامة، وهي سلوكيّات تتوافق تماماً لما روي عنه من قبل أحد مرشديه في العمل الحزبي بشيكاغو الذي وصفه «بالتردد في خوض المواجهات مع الآخرين، تجنباً لانفجار الأوضاع».
ويذكر أوباما في مواضع عدّة تألمه من معاداة الجمهوريين له وتصويتهم ضد كل مشاريعه في الكونغرس، حتى من دون الاطلاع عليها والتفكير بعواقب رفضها على المجتمع الأميركي بعمومه، فيما يسعى بكل طاقته للحصول على دعم وتأكيد غالبيّة المحيطين بالبيت الأبيض قبل اتخاذه القرارات. ومن الظاهر أنّه بحاجة دائمة لوجود نساء قويّات في فضاءات أجوائه يستمدّ منهن القوّة. بداية من والدته، مروراً برفيقات سنوات مراهقته، ثم زوجته ميشيل أوباما، وفي دهاليز السياسة ملهمته هيلاري كلينتون، بينما لا نجد مثل ذلك التأثير البالغ لأي من الرّجال. وحتى كارل ماركس قرأه في الجامعة كي يحظى بفرصة أفضل للتقرب من الصبيّة اليساريّة الحسناء ذات الساقين الطويلتين! ومن المعروف مثلا أن الرئيس العتيد لم يقتنع بشعار الحملة الرئاسيّة الذي قدّم إليه «نعم بإمكاننا»، ورفَضَه، قبل أن يعود ويتبناه كما هو إثر إبداء السيّدة زوجته رأياً إيجابياً تجاهه.
ومع أن أوباما يخبرنا في سياقات أخرى بأنّه ركب مخاطرة ترك العمل المجزي في المحاماة لمصلحة خوض اللعبة السياسيّة ليس من أجل السلطة بحد ذاتها، ولكن لما تمنحه من قدرة على التغيير انطلاقاً من إحساسه المضني والدائم بعدم الراحة الذي يعرفه ذو البشرة السوداء في مجتمع تهيمن عليه أكثريّة بيضاء، وما زال شديد العنصريّة رغم إنهاء الرق رسمياً في الولايات المتحدّة منذ ما يقرب من 150 عاماً. إلا أنّه وقد صعد إلى المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد فإن لا شيء جذريّاً تغيّر، وأصيبت غالبيّة الناشطين من الأقليّات بعد ثماني سنوات على توليه السلطة بخيبة أمل لناحية تقصيره الفادح.
وهو في المذكرات يمرر الأمر من دون إثارة زوبعات ويكتفي بتعبيره عن حزن من تغلغل المشاعر العنصريّة في مختلف مفاصل المجتمع الأميركي - لا سيّما داخل أوساط الطبقة العاملة البيضاء، في الوقت الذي يحاول وسم عداء الجمهوريين المبدئي تجاهه بارتباطه أكثر بموقعه السياسي كليبرالي تقدّمي، رغم اعتقاده أن الانتقال من عهد الرئيس الرابع والأربعين إلى عهد الرئيس الخامس والأربعين ليس من قبيل الصدفة، فإن مجرد حقيقة أن «رجلاً أسود بارعاً وذكياً وخالياً من الفضائح كان يسكن البيت الأبيض كاف لتحريك نقيضه».
في السياسة الخارجية، أوباما مشترك بحماس تام مع الاستثنائية الأميركية. ويذهب إلى الزّعم بأن أميركا ليس مرهوباً جانبها فحسب، بل تحظى بالاحترام والإعجاب أيضاً، ويردد أنّ «أولئك الذين انتقدوا دور الولايات المتحدّة في العالم لا يزالون يعتمدون علينا للحفاظ على النّظام الدّولي واقفا على قدميه»، ولذا لا نجد رؤية خاصة له في هذا المجال من العمل الرئاسي، ويكتفي بوصف العمليّة السياسيّة كما لو أنه ينظر إليها من بعد دون أن يكون مشاركا فيها.
ولعل ملاحظاته عن كبار رجال الدّولة الأميركيّة والسياسيين الأجانب الذين قابلهم وحدها تستحق الاهتمام هنا، وتشير إلى جانب ساخر يمتلكه الرئيس السابق وقدرة لاذعة على رسم البورتريهات للآخرين. فيصف فلاديمير بوتين بأنّ «وجوده الشخصي غير مؤثر»، فيما ديفيد كاميرون «يتحدّث بثقة من لم يسمح له الثراء الموروث بتجربة الأمور على حقيقتها»، وسارة بالين «لم تكن لديها أي فكرة عما كانت تتحدث عنه، بحق الجحيم»، بينما جوزيف بايدن هو لائق، وصادق، ومخلص «لكنّه من النّوع الذي قد يثير مشكلة كبيرة إذا اعتقد أنّه لم يأخذ حقه من الاحترام» وغيرها.
«أرض موعودة» التي ينحتها أوباما في (نصف) حكايته لذلك الشطر من حياته قد تكون مخيّبة لآمال الجذريين ربّما، لكّن النصّ لا يبتعد عن الأناقة والرفعة من الناحية الأدبيّة تليق بالصورة العامة عن ذلك الرجل الأسود الدّمث الذي كان أوّل ملّون سكن البيت الأبيض، ولم يتوقف يوما عن الابتسام حتى في أحلك اللحظات.
أوباما يصفّى حساباته العالقة في «أرض موعودة»
سيرته من طفولته إلى مايو 2011 حين اتخذ قراره بتصفية أسامة بن لادن
أوباما يصفّى حساباته العالقة في «أرض موعودة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة