سوزان كولينز... آخر الجمهوريين المعتدلين في شمال شرقي أميركا

سيناتورة ولاية ماين تحدّت ترمب ونجت من براثن الخسارة

سوزان كولينز... آخر الجمهوريين المعتدلين في شمال شرقي أميركا
TT

سوزان كولينز... آخر الجمهوريين المعتدلين في شمال شرقي أميركا

سوزان كولينز... آخر الجمهوريين المعتدلين في شمال شرقي أميركا

عندما يتمشى المرء في أروقة مبنى الكابيتول، حيث مقر مجلسي الكونغرس الأميركي في العاصمة واشنطن، يباغته تردد صدى أصوات السياح الذين يدورون في هذا المبنى العريق من كل حدب وصوب، وضجيج العاملين فيه الذين يهرولون في باحاته محاولين التقاط أنفاسهم على وقع المهام الملقاة على عاتقهم.
في خلية النخل هذه، تسمع وقع خطى بطيئة ثم يفاجئك صوت هادئ تشوبه لعثمة واثقة، فتبحث عن مصدره، وترى مجموعة من الصحافيين ملتفة حول امرأة صغيرة البنية، تكاد تختفي بينهم. لكن هؤلاء يستمعون بحذر شديد وصمت غريب لما تقوله. فكلماتها مهمة للغاية، وقد تقلب الموازين في عاصمة القرار. إنها سوزان كولينز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماين التي باتت من الوجوه البارزة التي تحسم مواقفها ملفات شائكة ومهمة في الكونغرس.
السيناتورة سوزان كولينز، البالغة من العمر 67 عاماً سياسية جمهورية مخضرمة، إذ إنها تخدم في مجلس الشيوخ منذ عام 1997. وقد أدت مواقفها في السنين الماضية إلى قلب المعادلة في بعض الملفات. إنها بحق لاعب أساسي في المجلس، حيث عُرفت في سنوات حياتها السياسية التي أمضتها على مقاعده باعتدالها وميلها للتفاهم مع الطرف الآخر ما أمكن. ثم إن البعض يصفها بأنها «آخر الناجين من فئة الجمهوريين المعتدلين المنقرضة في شمال شرقي الولايات المتحدة»، وهذا صحيح إذ إنها الممثل الوحيد للجمهوريين في ولايات إقليم نيو إنغلاند الست الذي يحتل الزاوية الشمالية الشرقية للبلاد. ورغم أن كولينز خدمت في المجلس منذ أعوام، فإن ما دفع بها إلى الواجهة هو مواقفها التي تحدّت فيها الرئيس الأميركي دونالد ترمب غير مرة، وكانت المغردة الوحيدة خارج سرب الحزب في بعض الأحيان.

من زرع البطاطا إلى سن القوانين
ولدت سوزان كولينز لعائلة من أصول آيرلندية في بلدة كاريبو بولاية ماين، التي تحتل أقصى الطرف الشمالي الغربي للحدود مع كندا، حيث شغل كل من والدها وأمها منصب عمدة البلدة. وهي متعلقة جداً بإرثها الآيرلندي، ولذا جمعتها علاقة صداقة قوية بالسيناتور الراحل إدوارد تيد كنيدي (الشقيق الأصغر للرئيس الأسبق جون كنيدي) بسبب «حبهما لوالدتيهما الآيرلنديتين» على حد قولها. وهي غالباً ما تخطّت التجاذبات السياسية، وجمعتها صداقات مع كثيرين من الديمقراطيين بفضل الأصول الآيرلندية المشتركة.
وعلى الصعيد الأسري، لدى كولينز 6 أخوة، ولم تُرزق بأولاد. إذ إنها تزوّجت عام 2012 وهي في التاسعة والخمسين من العمر، من صديقها القديم توماس دافرون، الذي يعمل في إحدى مجموعات الضغط في مجموعة جيفرسون للاستشارات.
عندما كانت كولينز تلميذة في مدرسة كاريبو، اعتادت المدرسة إغلاق أبوابها لثلاثة أسابيع خلال شهر سبتمبر (أيلول) كي يساعد التلامذة المزارعين هناك في جني محصول البطاطا. وأدى هذا إلى صقل شخصيتها، لتغدو في المستقبل من الداعمين الأقوياء للمزارعين. وهي عندما تتحدث عن تجربتها هذه تقول: «أنا محظوظة لأني كبرت وأنا أعمل بجهد وإصرار... وهذه أمور تعكس روح هذا القطاع المتميّز. بالنسبة إلي لا شيء يضاهي رؤية نبتات البطاطا منتشرة على امتداد النظر، والإرث الذي تمثله». وفيما بعد، تلقّت كولينز تعليمها الجامعي وتخرّجت في جامعة سانت لورانس، وهي جامعة خاصة راقية بشمال ولاية نيويورك، عام 1975 حاملة شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية.
أما بالنسبة لمسيرتها السياسية، فإنها بدأتها في العمل مساعدة ضمن فريق السيناتور الجمهوري المعتدل ووزير الدفاع السابق (في عهد بيل كلينتون) ويليام كوهين، وتولّت مسؤوليات محلية في ولاية ماساتشوستس. وعام 1994، كانت المرأة الأولى في تاريخ ولايتها ماين التي كسبت ترشيح حزبها لمنصب الحاكم إلا أنها خسرت في الانتخابات العامة. وبعد ذلك ترشحت لمقعد مجلس الشيوخ وفازت عام 1996، واحتفظت بمقعدها عبر 4 انتخابات متتالية أعوام 2002 و2008 و2014 وأخيراً 2020.

تحديات صحية واعتدال متزن
كثيرون ممن الذين لا يعرفون السيناتورة كولينز جيداً يتساءلون عن سبب البطء الشديد في كلامها، الذي يصل إلى درجة التلعثم. أما السبب وراء ذلك فهو مشكلة صحية تعاني منها، وتؤثر على عضلات الصوت التي تتشنج فجأة فينجم عن تقلصها تقطعاً في الصوت أثناء الكلام، ما يجعل كلامها هذا صعباً على الفهم في بعض الأحيان. مع هذا، لم تمنع هذه المشكلة كولينز من التكلّم بصرامة، وفرض وجودها بقوة في مجلس الشيوخ، فتترأس في عام 2003 لجنة الأمن القومي في المجلس، ثم تصبح في العام 2013 المرأة الأطول خدمة في المجلس عن الحزب الجمهوري. وللعلم، فهي تحتل المركز الثاني في مرّات التصويت عبر تاريخ مجلس الشيوخ، إذ صوّتت ستة آلاف مرة متتالية.
وحقاً، عرفت كولينز باعتدالها منذ تسلمها لمنصبها في مجلس الشيوخ. ففي عام 2017 صنفها «مركز لوغر» المعروف في العاصمة واشنطن (الذي يحمل اسم السيناتور الجمهوري الراحل ريتشارد لوغر تيمناً به) على أنها عضو مجلس الشيوخ «الأكثر اعتدالاً» في دورة الكونغرس الـ115.
وبحسب الأرقام في موقع «فايف ثيرتي آيت»، فإن كولينز الجمهورية دعمت 75 في المائة من مواقف الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق باراك أوباما الديمقراطي، مقابل تصويتها لدعم مواقف ترمب 68 في المائة فقط من المرات، وهي النسبة الأقل بين الجمهوريين في المجلس الذين يدعمون الرئيس الأميركي في معظم مواقفه.

تحدي الرئيس منذ البداية
عند إعلان الرئيس دونالد ترمب نيّته الترشح للسباق إلى الرئاسة عام 2016، لم تتخيل كولينز أنه سيتمكن من انتزاع ترشيح الحزب الجمهوري. إلا أنه، وفي مفاجأة لكثيرين، حصد دعماً كافياً أدى إلى اختياره مرشح الحزب الرسمي. حينذاك، في الثامن من أغسطس (آب) 2016 رفضت كولينز دعمه، وأعلنت أنها لن تصوت لصالحه في الانتخابات الرئاسية. وتابعت في ذلك الوقت، أن قرارها هذا لم يكن سهلاً لأنها انتمت للحزب الجمهوري طوال حياتها، ثم فسّرت موقفها بالقول إنها قرّرت ألا تدعمه لأنها شعرت أنه ليس مؤهلاً لتولّي الرئاسة بسبب «تصرفاته، وبخاصة أنه لا يكترث بمعاملة الآخرين باحترام، ما سينعكس سلباً على سياساته».
وما كان هذا هو الموقف المعارض الوحيد من كولينز إزاء ترمب، بل افتتح سلسلة من المواقف المواجهة له، التي أدت في بعض الأحيان إلى عرقلة أجندته في الكونغرس. إذ صوّتت كولينز ضد المصادقة على تعيينه وزيرة التعليم اليمينية المحافظة بيتسي دي فوس، وانضمت إليها زميلتها الجمهورية الليبرالية عن ولاية ألاسكا السيناتورة ليزا موراكاوسكي، فكانتا بذلك النائبتين الجمهوريتين الوحيدتين اللتين صوّتتا ضد المصادقة. وهذا الأمر، ووفق الدستور، اضطر نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى المجيء إلى مجلس الشيوخ والإدلاء بصوته المرجح الحاسم، وبالتالي، إنقاذ مرشحة الرئيس.
وبعد ذلك بنحو عام، أعربت كولينز عن معارضتها لخطة ترمب والجمهوريين بإلغاء مشروع الرعاية الصحية المعروف باسم «أوباما كير». وفعلاً صوتت ضد محاولات الإلغاء، معتبرة أن ثمة حاجة للاستعاضة عن المشروع بمشروع بديل قبل إلغائه كلياً. ولقد أدى تصويتها هذا إلى فشل محاولات ترمب في إلغاء «أوباما كير»، وخرق وعده الانتخابي. وكأن كل هذا ما كان كافياً لإغضاب ترمب، فقد صوّتت كولينز عام 2019 لمنع إدارة ترمب من رفع العقوبات عن بعض الشركات الروسية، معتبرة أن أي رفع للعقوبات «سيرسل الرسالة الخاطئة لروسيا وحلفاء الرئيس فلاديمير بوتين».

محاكمات عزل ترمب وكلينتون
شهدت كولينز قضيتي عزل رئيسي جمهورية إبّان فترة خدمتها في مجلس الشيوخ. الأولى في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، والثانية في عهد الجمهوري الحالي ترمب. وصوّتت في القضيتين ضد خلع الرئيسين.
في قضية عزل كلينتون، عام 1990، صوتت كولينز (ومعها من كان قد تبقّى من جمهوريي نيوإنغلاند في المجلس) ضد إدانة الرئيس (يومذاك) كلينتون وعزله. وبرّرت كولينز موقفها بأنه رغم أن كلينتون خرق القانون عبر الكذب على المحققين في قضية مونيكا لوينسكي، فهذه التهم لا ترقى إلى عزل رئيس من الحكم، ثم استعملت الحجة نفسها في قضية ترمب عام 2019.
وحول القضية الثانية، ورغم أن كولينز انضمت إلى زميلها السيناتور الجمهوري ميت رومني (المرشح الرئاسي السابق) في دعم الدعوات لاستدعاء المزيد من الشهود لمحكمة ترمب في مجلس الشيوخ، منهم مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، فإنها وقفت في نهاية المطاف وراء الصف الجمهوري وصوّتت ضد إدانة الرئيس وعزله. وبرّرت موقفها بأن أفعال ترمب «لا تقع في خانة الجرائم والجنح التي قد تؤدي إلى عزل الرئيس». وأردفت: «سأصوت ضد العزل، لأنني لا أعتقد أن تصرفاته وصلت إلى المستوى المنصوص عليه في الدستور لقلب نتيجة الانتخابات وعزل رئيس منتخب».
أيضاً، اعتبرت كولينز أن ترمب «تعلّم درساً كبيراً في إجراءات عزله، وسيكون أكثر حذراً في المستقبل». وتابعت: «الرئيس أدين بالفعل، وهذا درس كبير له»، في إشارة إلى قرار إدانته وعزله في مجلس النواب. وفي المقابل، انتقدت كولينز تصرّفات الرئيس ووصفت اتصاله الشهير بنظيره الأوكراني، محور قضية العزل، بأنه غير مناسب أبداً. وأوضحت: «الاتصال الذي أجراه الرئيس كان غير مناسب. لا يجوز لرئيس الولايات المتحدة أن يطلب من بلد أجنبي فتح تحقيق ضد خصمه السياسي (جو بايدن). هذا غير مناسب (وليس اتصالاً رائعاً)»... وذلك في انتقاد مباشر لوصف ترمب اتصاله أكثر من مرة بأنه «اتصال رائع».
من جانب آخر، كانت كولينز تدرك سلفاً أن تصويتها ضد عزل الرئيس قد يؤثر على حظوظها في الانتخابات التشريعية. وعن هذا الأمر قالت: «متأكدة من أنه سيكون هناك أشخاص غير راضين عني في ماين. لكن عملي لا يقضي باتخاذ قرارات بناءً على الثمن السياسي الذي سأدفعه، بل إن أكون حكماً عادلاً أحترم قسم اليمين الذي أديته».
وبالفعل، صدقت مخاوف كولينز، فخاضت سباقاً حامياً للغاية مع منافستها الديمقراطية سارة غيديون، التي طرحت إبان الحملة الانتخابية ملف تصويت كولينز الداعم لترمب، وتمكنت من جمع أموال طائلة. غير أن كولينز تمكنّت في النهاية من الفوز والاحتفاظ بمقعدها الذي احتلته على مدى 23 سنة.

قضاة المحكمة العليا
في سياق متّصل، لعبت كولينز دوراً مهماً في المصادقة على تعيين قضاة المحكمة العليا اليمينيين المحافظين الذين عيّنهم ترمب. لكنها، في حين صوتت للمصادقة على تعيين القاضي بريت كافاناه في منصبه رغم الاتهامات الموجهة ضده بالتحرّش الجنسي، عارضت تسمية آيمي كوني باريت معتبرة أن التوقيت غير مناسب في الموسم الانتخابي. وفي هذه الحالة الأخيرة، كانت الشيخ الجمهوري الوحيد التي صوّت ضد المصادقة على تعيين باريت يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، أي قبل أسبوع تقريباً من يوم الانتخابات الرئاسية.
ورغم أن المجلس (بفضل غالبيته الجمهورية) صادق على تعيين القاضية المحافظة، رغم معارضة كولينز، أثار موقفها هذا حفيظة ترمب الذي علّق: «هناك شائعة بشعة بأن كولينز لن تدعم القاضية الرائعة للمحكمة العليا، وهي لم تدعم إلغاء (أوباما كير) كذلك... إنها غير جديرة بالدعم!». وعلى الأثر، خشي كثيرون أن يكون موقف ترمب هذا هو الضربة القاضية لفرص السيناتورة المخضرمة في إعادة انتخابها.

مواقفها الأخرى البارزة
في موضوع الإجهاض، سوزان كولينز، هي من الجمهوريين القلائل جداً الذين يدعمون حق المرأة بالإجهاض، وعددهم ثلاثة فقط، إلى جانب الجمهوريتين ليسا موركاوسكي (من ألاسكا) وشيلي مور كابيتو (ويست فيرجينيا). إلا أنها رغم دعمها هذا، لم تتردد في دعم تعيين قضاة محافظين يعارضون الإجهاض.
وكانت حجتها في ذلك أنهم لن يسعوا لنقض قرار المحكمة العليا المعروف بـ«رو ضد وايد» الذي يحمي حقوق المرأة في الإجهاض. وهي كانت محقة في تقديراتها، حتى الساعة.
أما في قضايا السياسة الخارجية، فإن كولينز صوتت لصالح حرب العراق عام 2003، لكنها دعمت في عام 2007 الجهود الديمقراطية القاضية بوضع خطة لسحب القوات الأميركية من هناك.
وإزاء الملف الإيراني، عارضت كولينز الاتفاق النووي مع إيران، معتبرة أنه «سيترك طهران قادرة على بناء سلاح نووي بعد انتهاء صلاحية الاتفاق»، وأعربت عن خشيتها من أن إيران ستصبح حينها دولة نووية قوية وخطرة. وفي العام الماضي (2019). وبعدما أسقطت إيران طائرة مسيرة «درون» أميركية، قالت إن الولايات المتحدة لا تستطيع السماح لإيران بشن هجمات من هذا النوع، وإنها حذّرت من أن «أي تصرف متهوّر من قبل أميركا قد يؤدي إلى حرب في الشرق الأوسط».
وفيما يخص إسرائيل، تُعد كولينز «عرّابة» مشروع قانون «معاقبة مقاطعي إسرائيل»، وهو مشروع يجعل من الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل من قبل أميركيين جريمة فيدرالية يعاقب عليها القانون تحت طائلة السجن لمدة 20 سنة، إلا أن مساعي كولينز أخفقت في تمرير المشروع في الكونغرس.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.