كل الكتّاب عميان يحتاجون إلى عيني امرأة تقرأ

«القارئ الأخير» لريكاردو بيجيليا

دوستويفسكي
دوستويفسكي
TT

كل الكتّاب عميان يحتاجون إلى عيني امرأة تقرأ

دوستويفسكي
دوستويفسكي

من عنوانه يبدو كتاب الأرجنتيني ريكاردو بيجيليا «القارئ الأخير» نصاً آخر حول القراءة التي باتت باباً جذاباً من التأليف، لكنه أوسع من ذلك. هو في الحقيقة عن الكتابة، عن ماهية الأدب، يتوقف فيه مطولاً أمام نصوص تولستوي، وجيمس جويس، وكافكا، وإدغار آلان بو، وسرفانتيس بالطبع. وضمن هذه الوقفات المطولة، يستشهد بكثير من النصوص الأخرى. وهو بالقدر نفسه كتاب عن قارئ الأدب في ظروفه المختلفة، وعن القارئ داخل الرواية.
صدر الكتاب هذا الشهر عن منشورات المتوسط، في ترجمة عن الإسبانية أنجزها الروائي المصري أحمد عبد اللطيف.
وفي واحدة من أعلى مطالع الكتب، يبدأ بيجيليا بحكاية عن مصور فوتوغرافي يحتفظ بنموذج مصغر لمدينة شيده بطريقته الخاصة لكي تبدو مدينته قريبة متعددة، بعيدة هائمة، تبدو فيها الميادين والشوارع والضاحية التي تتلاشى وتضيع في الحقول؛ المدينة الصغيرة هي بوينس آيرس معدلة ومصابة بالجنون، وخاضعة لرؤية بانيها.
يعيش الرجل من التصوير، أي من مهنة تمثيل واختزال للواقع، ويخرج من بيته نادراً، ويعمل دورياً على إعادة تشييد الجهة الجنوبية من مدينته بعد أن يطمسها الفيضان في كل خريف، وبهذا يتجاوز نموذجه علاقات «التمثيل» بين بوينس آيرس الواقعية ونموذجها المصغر، لتبدو المدينة الحقيقية هي المختبئة في بيته، وتبدو الأخرى مجرد سراب أو ذكرى!
يسمح المصور للراغبين برؤية مدينته الصغيرة، لكنه لا يسمح إلا بزائر وحيد في كل مرة، وهكذا خلق الرجل عالماً موازياً يتطابق مع مفهوم عزرا باوند عن الكتابة، ومفهوم كلود ليفي شتراوس عن الفن بصفته نموذجاً معقداً عن الواقع، يختلف عنه بأنه يعمل على نطاق صغير.
وبعد أن يضعنا بيجيليا أمام شرط العزلة الضروري لدخول نطاق القراءة الصغير، يسأل: ما القارئ؟ في صورة فوتوغرافية يجلس بورخيس مقرفصاً في دهليز، وفوق عينيه كتاب يحاول فك رموز حروفه. هو القارئ الأخير الذي واصل القراءة حتى فقد نور عينيه.
مدمن القراءة والقارئ المتيقظ دائماً يعدهما الكاتب تمثيلين متطرفين لما تعنيه قراءة نص، ويمثلان تجسيدات سردية لحضور القارئ المعقد في الأدب. هذا النوع يستحق أن نسميهم القراء الأنقياء، حيث لا تكون القراءة مجرد ممارسة لنشاط، بل أسلوب حياة. وبالتركيز على أشكال ولحظات التلقي، يحدد ريكاردو بيجيليا مشروعه بصفته كتابة عن القارئ، لا القراءة.

قارئ القارئ
أصل القارئ المنعزل هو بورخيس الذي سيعود إليه الكاتب دائماً، وهذا طبيعي، فذلك هو الرجل الذي وحَّد بين فعلي القراءة والكتابة، حيث يقوم مشروعه على قصص كانت موجودة من قبل، تدخل إلى بورخيس القارئ بشكل وتخرج من بورخيس الكاتب بتضعيفات لعبة المرايا التي يلعبها جيداً.
القارئ بورخيس والقارئ الذي اخترعه يقيمان في النص انطلاقاً من الفضاء الذي يفتحه بين الكلمة والحياة. بورخيس هو القارئ الأكثر إبداعاً منذ دون كيخوتة، وهو القارئ الأكثر تراجيدية، ليس كقارئ كافكا الذي يجلس في غرفة تطل على جسور براغ في ظلام الليل، لكنه قارئ في تيه مكتبة، يقرأ سلسلة من الكتب، وليس كتاباً معزولاً، قارئ مبعثر في اقتفاء الأثر داخل نص. وثمة شيء مفقود أو مستبعد يقطع انسجام النص، وفي ذلك الغامض تكمن الفنتازيا، ويجد القارئ نفسه في مواجهة التكاثر واللانهائية. من هذا التوليد الذي يقوم به القارئ، نشأ رفض بورخيس للاعتقاد بانغلاق فرصة الكتابة أمام الأجيال: «اليقين بأن كل شيء قد كُتب يلغينا، ويحولنا إلى أشباح»، لهذا كان حريق المكتبة في نصوصه هاجساً براحة مستحيلة.

كافكا والناسخة
في يومياته، يصف كافكا الآنسة فيليس باور التي التقى بها في بيت صديقه ماكس برود عندما ذهب ليُسلمه مخطوط كتابه الأول عام 1912: «بدت لي خادمة. لم أشعر بأدنى حد من الفضول لأعرف من هي، لكني في الحال تفاهمت معها». يبدأ في مراسلتها. هكذا يحافظ على عزلته، ويستحضر المرأة إلى تلك العزلة بالصفة التي يريدها هو: المرأة القارئة. يختبرها بقراءة الخطابات أولاً، بعد ذلك تصبح قارئة للمخطوطات. القارئة الخادمة التي يجب أن تظل مقيدة إلى كتابته. وهكذا تصبح المرأة الصورة العاطفية التي تسمح بتوحيد الكتابة مع الحياة.
وفي ليلة اللقاء الأولى، يتلقى كافكا هدية أخرى عندما يكتشف أن الآنسة ناسخة، فتتحول من صورة المرأة التي تقرأ إلى صورة المرأة التي تنسخ النصوص على الآلة الكاتبة التي شاعت في ذلك الوقت، ولا يستطيع أن يستعملها بنفسه، لأن ضرباتها تقطع خط إلهامه؛ المرأة صارت آلة نسخ.
ثمة صور للمرأة بصفتها آلة نسخ قبل كافكا. آنا غريغوري سنيتكينا، ناسخة الاختزال التي التقى بها دوستويفسكي في أكتوبر (تشرين الأول) 1866 ليملي عليها رواية المقامر، وبعد شهر طلب يدها ثم تزوجها في فبراير (شباط) من العام التالي. وفيرا نابوكوف، المرأة التي تمشي بمسدس لتحمي زوجها، وتساعده في دروسه، وهي قبل كل شيء ناسخة نصوصه. ثمة علاقة شبيهة تربط بورخيس بالنساء، قارئات وناسخات، ومن ملاحظة أن بورخيس كان أعمى، ينتهي بيجيليا إلى الخلاصة: كل الكُتّاب عميان، تعوزهم نظرة شخص آخر، نظرة امرأة عاشقة تقرأ.

القراءة والجريمة
أحدث تمثيل لصورة القارئ هو المتحري السري، ليس بصفته الرمزية قارئ بصمات، بل لأن هذا النوع الأدبي ولد في مكتبة. المشهد الأول في رواية إدغار آلان بو «جرائم شارع مورج - 1841» التي أسست لرواية الجريمة يجري في مكتبة بشارع مونمارتر، حيث يتعرف الراوي مصادفة على أوجست دوبين، كلاهما يبحث عن كتاب نادر رفيع، لا نعرف ما هو مثلما لا نعرف الكتاب الذي كان هاملت يقرأه حين زاره شبح أبيه.
دوبين رجل أدب مهووس بالكتب، معزول اجتماعياً. وهذا شرط يميز رجل التحري عن البشر العاديين، شخص لا يقيم علاقات مع المجتمع، وليست لديه أسرة، وهذه صورة كافكا المنعزل. هي صورة العازب في فضاء استقلال متطرف، شرط لامتلاك رجل التحري القدرة على القراءة والتحليل. ويتابع بيجيليا حضور الأدب والقراءة في الرواية البوليسية لدى كثير من الكتاب بعد بو.

القراءة باب الموت
القراءة في أوقات الخطر. القراءة المتطرفة، خارج المكان، في ظروف الخسارة، ظروف الموت، أو أياً كان التهديد بالتدمير. القراءة تعارض عالماً كريهاً، مثل مخلفات حياة أخرى وذكرياتها. وهناك صورة فريدة لجيفارا في بوليفيا كان يقرأ فوق شجرة، وسط تجربة الفرقة المحاربة المطاردة. وقد ظل جيفارا حتى موته وفياً لما قرأه، وربما كانت حياته ذاتها إعادةً وتكراراً لنموذج تعلق به من القراءة. يكتب تشي في مشاهد من الحرب الثورية: «سريعاً ما فكّرتُ في أفضل طريقة أموت بها في تلك اللحظة، وقد بدا أن كل شيء قد ضاع. تذكرتُ قصة قديمة لـجاك لندن، حيث يستعد البطل المتكئ إلى جذع شجرة لإنهاء حياته بكرامة، عندما عرف أنه محكوم عليه بالإعدام مجمداً في المناطق المثلجة بـألاسكا».
يعثر جيفارا في القراءة على النموذج المناسب لموته، وقد مات بكرامة مثل شخصية في قصة منسية بتاريخ الكتابة، مثلما عثر دون كيخوته في روايات الفروسية عن نموذج الحياة التي يريد أن يعيشها؛ إنها الثقافة التي تقولب التجربة.
ويتوقف بيجيليا أمام المشهد الشهير لآنا كارنينا وهي تقرأ كتاباً في القطار. ثمة رغبة من الرواية في تثبيت صورة المرأة بصفتها مستهلكاً لفن السرد. كان تولستوي مثل أدباء عصره منبهراً بالقطار، لكن هناك معنى أبعد للقراءة في القطار؛ معنى الرحلة داخل رحلة. في أي ظرف آخر، يتوغل القارئ، ويكتشف التوازي بين رحلته ورحلة البطل في العمل الذي يقرأ.
وترسم رواية تولستوي صورة لقارئة تفك شفرة حياتها من خلال الروايات الخيالية، هكذا يتجلى التوتر بين التجربة الحياتية المملة وتجربة القراءة العظيمة. وحينئذ تظهر البوفارية (نسبة إلى مدام بوفاري) الحلم بحياة الرواية بصفتها طموحاً لما نفتقده في الحياة الواقعية. أنا وبوفاري محاولتان للهروب من الحياة إلى الرواية قادتهما إلى الموت، وثمة تجارب تفعل العكس. ينقلب الخيالي إلى واقعي.

القراءة الأصعب
ينتهي بيجليو بتأمل متأنٍ طويلٍ لـعوليس، رواية جيمس جويس؛ النص الروائي الأصعب. ويعنون الفصل بـ«كيف صُنعت عوليس»، في نوع من التحية للروسي فيكتور سيكلوفسكي، صاحب دراسة «كيف صُنعت دون كيخوته»، مثنياً على تفرد طريقة الروس في قراءة الأدب، حيث يبحثون عن المعنى من خلال الشكل والبناء. ويقتبس كذلك عن نابوكوف قوله «القارئ الجيد، القارئ المثير للإعجاب، لا يتماهى مع شخصيات الكتاب، إنما مع الكاتب الذي ركب الكتاب». هذه الطريقة الروسية لامتلاك النصوص يراها ملائمة للاقتراب من رواية جويس الذي قال رداً عن سؤال حول عنوان روايته، والعلاقة مع نص هوميروس عن عوليس الأصلي، فقال إنه النظام الذي أعمل به. هكذا، علينا أن نبحث عن الأوديسة في البنية المختبئة والممحوة في عوليس جويس.
وحتى نهاية الكتاب، يؤرقنا العنوان: لماذا القارئ الأخير؟ لا يضع بيجيليا نقطة الختام قبل أن يريحنا، مستنداً إلى مقولة فيتغنشتاين: «في طريق الفلسفة، يربح من يستطيع الركض بتأنٍ، أو ذاك الذي يصل الأخير إلى هدفه». والقارئ الأخير يستجيب ضمنياً لهذا البرنامج.



الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم