ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»

آمال بتحقيق إصلاحات عبر مكافحة الفساد

ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»
TT

ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»

ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»

حسم البرلمان العراقي الأسبوع الماضي قانون الانتخابات المثير للجدل، القائم على الدوائر المتعددة والفوز بأعلى الأصوات. وبعد هذه المرحلة تنتظر الجميع في العراق معركة أخرى مؤجلة هي معركة المحكمة الاتحادية العليا، التي لم يستكمل قانونها بعد، كما لم يكتمل نصابها، وهو أمر يتعذر معه إجراء الانتخابات قبل. ثم، تضاف إلى هذه وتلك معركة أخرى لا تقل حساسية وأهمية عن سابقتيها، هي الرواتب والإصلاح الاقتصادي. ذلك أنه للشهر الثاني عجزت الحكومة العراقية عن تأمين الرواتب لنحو 6 ملايين موظف ومتقاعد إلا عبر القروض التي من شأنها زيادة أعباء المديونية واستنزاف رصيد البنك المركزي، مع احتمال انهيار العملة. ومع أن إقرار قانون الانتخابات بدا إنجازاً، لا سيما أنه جاء تحت وطأة المظاهرات الجماهيرية التي انطلقت خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2019، فإن الشكوك ما زالت تحوم حول إمكانية إجرائها في وقتها الذي حدده رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وهو السادس من يونيو (حزيران) 2021.

قبل أيام فجّر نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق بهاء الأعرجي «قنبلة» سياسية حين قال في تصريح متلفز، إن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أعرب له عن شكوكه بإمكانية إجراء الانتخابات النيابية المقررة في الموعد المحدد يوم 6 يونيو المقبل. وفي حين لم يصدر عن مكتب الكاظمي ما يؤكد هذا الكلام، أو ينفيه، فإن قانون الانتخابات جرى رفعه إلى رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح للمصادقة عليه، وهو ما يعني أنه سيغدو بعد نحو أسبوعين نافذ المفعول.
شاكر حامد، المتحدث باسم رئيس البرلمان، أبلغ «الشرق الأوسط»، أنه «بعد هذا التصويت يكون قانون الانتخابات الجديد مكتملاً من الناحية التشريعية، وهو الذي اعتمد الترشيح الفردي وأعلى الأصوات ضمن الدوائر المتعددة في 18 محافظة عراقية». واعتبر أن «هذا القانون جاء ملبياً لمطالب المتظاهرين الإصلاحية وتأدية لجزء من الدين لضحاياها». وبما أن الانتخابات مرتبطة بما إذا كانت الطبقة السياسية قادرة خلال الفترة المقبلة على حسم قانون المحكمة الاتحادية، إما بتعديله أو إكمال نصابه، فإن الكلام عن إمكانية إجراء انتخابات حتى في غير موعدها المبكر يعد ضرباً من الوهم.
أما عن الكيفية التي يمكن من خلالها تفعيل المحكمة الاتحادية، فيقول النائب عن كتلة «سائرون» بدر الزيادي، موضحاً «هناك طريقتان لتفعيل عمل المحكمة: الأولى من خلال تشريع قانون جديد للمحكمة، وهو أمر يتضمن الكثير من الخلافات بشأن موضوع فقهاء الدين وخبراء القانون والتصويت بالإجماع أو الأغلبية وغيرها من النقاط. وسيصار إلى تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات بحال عدم الوصول إلى اتفاق نهائي... والطريقة الأخرى، وهي الأسهل، فمن خلال التنسيق مع باقي الرئاسات وتعديل القانون النافذ لإيجاد آلية ترشيح عضوين جديدين بديلاً عن الأول المُحال على التقاعد والآخر المتوفى».
من جهته، يرى آراس حبيب كريم، النائب عن محافظة بغداد لـ«الشرق الأوسط»، أنه «باستكمال التصويت على قانون الانتخابات، أصبحنا الآن أمام تحديين جديدين، هما: المحكمة الاتحادية والإجراءات العملية الخاصة بكيفية إجراء الانتخابات في موعدها المقرر». ويضيف حبيب، أن «معركة المحكمة الاتحادية لا تقل خطورة وأهمية، إن لم تتفوق على قانون الانتخابات ذاته؛ لأنه في حال لم يحسم قانونها أو نصابها، فلا قيمة من الناحية العملية للانتخابات؛ كونها ستبقى بلا شرعية طبقاً للدستور». ومن ثم، أشار حبيب إلى أن «الجهود خلال الفترة المقبلة يجب أن تنصبّ على استكمال هذه الأمور، بما في ذلك إجراء الانتخابات عبر البطاقة البيومترية كي نضمن نزاهتها ونقطع طرق التزوير».
وفي المقابل، انتقد الدكتور إياد علاوي، زعيم «ائتلاف الوطنية»، قانون الانتخابات، قائلاً إنه «جاء وفق مقاسات بعض الكتل والأحزاب الحاكمة». وتابع في بيان، أن «قانون الانتخابات سيكرّس الطائفية والمحاصصة، وسينتهي بإجراءات واضحة لتقسيم العراق، كما سيعزز الانقسامات التي يشهدها البلد على صعيد السلطات النيابية والقوى المكوّنة للمجلس». وأشار إلى أن «قانون الانتخابات الجديد سيضعف من دور النائب ويعزز المناطقية على حساب مصلحة البلد العليا؛ الأمر الذي سيرتد على الحكومة».

أزمة الرواتب

على صعيد آخر، للمرة الثانية خلال شهرين، يتأخر صرف الرواتب لنحو 6 ملايين موظف ومتقاعد عراقي. وكان السبب المعلن والمخفي هو انعدام السيولة المالية لدى وزارة المالية، وهذا بينما لم يعد رصيد البنك المركزي العراقي قابلاً لمزيد من الاستنزاف. ويأتي هذا الوضع على أثر استنزافه منذ سنوات عبر ما يُسمّى بـ«نافذة بيع العملة» التي تعد إحدى أهم بوابات الفساد في العراق. وفي حين تمكنت وزارة المالية، متأخرة، من صرف الرواتب، مع تقديم الحكومة ما سُمي «الورقة البيضاء» الخاصة بالإصلاح الاقتصادي، فإنها طلبت من البرلمان إقرار «قانون الاقتراض الداخلي» شرطاً لصرف رواتب الشهر الحالي. وفي هذه الأثناء، من المقرّر أن يعقد البرلمان العراقي جلسة حاسمة اليوم (السبت) نشر جدول أعمالها قبل نحو ثلاثة أيام الفقرة الأولى في جدول الأعمال هي التصويت على إقرار هذا «القانون». وزير المالية علي عبد الأمير علاوي، أعلن أن بمقدور المالية صرف الرواتب لكل الموظفين والمتقاعدين في البلاد خلال هذا الأسبوع بمجرد إقرار «قانون الاقتراض الداخلي»، الذي طلبت بموجبه الحكومة اقتراض نحو 41 ترليون دينار عراقي (ما يعادل 38 مليار دولار أميركي)؛ كي تتمكن من دفع الرواتب لنهاية السنة الحالية، فضلاً عن الالتزامات الأخرى، على أمل البدء بالإصلاحات الاقتصادية المنشودة مع مطلع العام المقبل.
وبالتزامن مع أزمة الرواتب التي بدأت تتأخر على نحو غير مسبوق في تاريخ الدولة العراقية، انطلقت حملة لمحاربة الفساد عبر لجنة مركزية شكلها الكاظمي تمكنت من توقيف عدد كبير من المسؤولين في قطاعات مختلفة، كان آخرهم وكيل وزارة الكهرباء أواخر الأسبوع الماضي. وبينما يأمل العراقيون بتحقيق إصلاحات عبر مكافحة الفساد وتفعيل الاستثمار، فإن الطبقة السياسية العراقية تتبادل كرات الاتهام بشأن مسؤولية كل طرف في مجمل الأزمات التي تمر بها البلاد... ومنها أزمات الداخل وأزمات الخارج.

نهاية الحراك أم تأجيله؟

في سياق متصل، ما كان أحد يتصور أن الحراك الشعبي الذي انطلق في الأول من أكتوبر 2019 يمكن أن يكتب نهايته بنفسه في الذكرى الأولى لانطلاقه.
هذا الحراك الجماهيري دفع ثمنه مئات الشهداء وعشرات آلاف الجرحى... وبالتالي، أصبحت له استحقاقات يبحث عنها، في المقدمة منها محاسبة قتلة المتظاهرين.
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الأقرب إلى الحراك الشعبي، والذي جاءت حكومته بناءً على ما أحدثه هذا الحراك من متغيّرات، شكّل لجنة لمحاسبة قتلة المتظاهرين، لكنها لم تعلن نتائجها بعد. ومعلوم أن الحراك رفع الخيَم من ساحة التحرير بوسط العاصمة بغداد، التي فُتحت مع جسر الجمهورية القريب منها بعد سنة على إغلاقها مع الجسر وعدد آخر من الجسور القريبة (السنك والخلاني) التي أغلقت لفترات مختلفة، غير أن قوى الحراك ما زالت من إمكانية الاضطرار إلى العودة إلى الشوارع والساحات ثانية، لكن بوتيرة أخرى... ربما تكون هذه المرة أكثر حسماً. في المقابل، يرى المراقبون والمتابعون، أن الطبقة السياسية العراقية تمكنت من التغلغل داخل الحراك عبر عدد من الأحزاب والقوى. وأنها أسهمت في تفتيت الحراك، مثلما عملت قوى أخرى، أطلقت عليها تسميات مختلفة، في حرف الحراك عن مساره في محافظات الوسط والجنوب بحيث تحولت إلى عمليات تخريب وإحراق مقرات.
المهم أن الأحزاب والقوى السياسية، لا سيما الشيعية منها - بوصفها المستهدفة الأولى بالحراك الجماهيري - تنفست الصعداء جرّاء نهاية الحراك. ولكن في حين يحاول رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الإيفاء بوعوده - سواءً للمتظاهرين أو المواطنين - عبر إجراء انتخابات نزيهة في العام المقبل، فإن القوى السياسية ماضية في وضع العراقيل أمام طريقه، وبخاصة، بعدما شعرت أنه بدأ يقترب أكثر من هموم الناس.
ولعل بين أبرز العراقيل التي بدأت توضع أمام رئيس الوزراء ملف العلاقات الخارجية، ولا سيما، العلاقة مع «الجيران» والولايات المتحدة الأميركية. وبما أن ملف العلاقة مع واشنطن يحتل الأولوية الأولى لحكومة الكاظمي، سواء لجهة الوجود الأميركي في العراق أو بناء علاقة متوازنة للمستقبل، فإن الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أجريت قبل أيام في الولايات المتحدة أخذت حيزاً واسعاً من اهتمامات العراقيين انطلاقاً من ملف العلاقة الأميركية - الإيرانية المعقّد... الذي بات العراق ساحة له.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.