ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»

آمال بتحقيق إصلاحات عبر مكافحة الفساد

ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»
TT

ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»

ملفات عراقية عالقة... الرواتب والعلاقة مع أميركا و«الجيران»

حسم البرلمان العراقي الأسبوع الماضي قانون الانتخابات المثير للجدل، القائم على الدوائر المتعددة والفوز بأعلى الأصوات. وبعد هذه المرحلة تنتظر الجميع في العراق معركة أخرى مؤجلة هي معركة المحكمة الاتحادية العليا، التي لم يستكمل قانونها بعد، كما لم يكتمل نصابها، وهو أمر يتعذر معه إجراء الانتخابات قبل. ثم، تضاف إلى هذه وتلك معركة أخرى لا تقل حساسية وأهمية عن سابقتيها، هي الرواتب والإصلاح الاقتصادي. ذلك أنه للشهر الثاني عجزت الحكومة العراقية عن تأمين الرواتب لنحو 6 ملايين موظف ومتقاعد إلا عبر القروض التي من شأنها زيادة أعباء المديونية واستنزاف رصيد البنك المركزي، مع احتمال انهيار العملة. ومع أن إقرار قانون الانتخابات بدا إنجازاً، لا سيما أنه جاء تحت وطأة المظاهرات الجماهيرية التي انطلقت خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2019، فإن الشكوك ما زالت تحوم حول إمكانية إجرائها في وقتها الذي حدده رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وهو السادس من يونيو (حزيران) 2021.

قبل أيام فجّر نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق بهاء الأعرجي «قنبلة» سياسية حين قال في تصريح متلفز، إن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أعرب له عن شكوكه بإمكانية إجراء الانتخابات النيابية المقررة في الموعد المحدد يوم 6 يونيو المقبل. وفي حين لم يصدر عن مكتب الكاظمي ما يؤكد هذا الكلام، أو ينفيه، فإن قانون الانتخابات جرى رفعه إلى رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح للمصادقة عليه، وهو ما يعني أنه سيغدو بعد نحو أسبوعين نافذ المفعول.
شاكر حامد، المتحدث باسم رئيس البرلمان، أبلغ «الشرق الأوسط»، أنه «بعد هذا التصويت يكون قانون الانتخابات الجديد مكتملاً من الناحية التشريعية، وهو الذي اعتمد الترشيح الفردي وأعلى الأصوات ضمن الدوائر المتعددة في 18 محافظة عراقية». واعتبر أن «هذا القانون جاء ملبياً لمطالب المتظاهرين الإصلاحية وتأدية لجزء من الدين لضحاياها». وبما أن الانتخابات مرتبطة بما إذا كانت الطبقة السياسية قادرة خلال الفترة المقبلة على حسم قانون المحكمة الاتحادية، إما بتعديله أو إكمال نصابه، فإن الكلام عن إمكانية إجراء انتخابات حتى في غير موعدها المبكر يعد ضرباً من الوهم.
أما عن الكيفية التي يمكن من خلالها تفعيل المحكمة الاتحادية، فيقول النائب عن كتلة «سائرون» بدر الزيادي، موضحاً «هناك طريقتان لتفعيل عمل المحكمة: الأولى من خلال تشريع قانون جديد للمحكمة، وهو أمر يتضمن الكثير من الخلافات بشأن موضوع فقهاء الدين وخبراء القانون والتصويت بالإجماع أو الأغلبية وغيرها من النقاط. وسيصار إلى تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات بحال عدم الوصول إلى اتفاق نهائي... والطريقة الأخرى، وهي الأسهل، فمن خلال التنسيق مع باقي الرئاسات وتعديل القانون النافذ لإيجاد آلية ترشيح عضوين جديدين بديلاً عن الأول المُحال على التقاعد والآخر المتوفى».
من جهته، يرى آراس حبيب كريم، النائب عن محافظة بغداد لـ«الشرق الأوسط»، أنه «باستكمال التصويت على قانون الانتخابات، أصبحنا الآن أمام تحديين جديدين، هما: المحكمة الاتحادية والإجراءات العملية الخاصة بكيفية إجراء الانتخابات في موعدها المقرر». ويضيف حبيب، أن «معركة المحكمة الاتحادية لا تقل خطورة وأهمية، إن لم تتفوق على قانون الانتخابات ذاته؛ لأنه في حال لم يحسم قانونها أو نصابها، فلا قيمة من الناحية العملية للانتخابات؛ كونها ستبقى بلا شرعية طبقاً للدستور». ومن ثم، أشار حبيب إلى أن «الجهود خلال الفترة المقبلة يجب أن تنصبّ على استكمال هذه الأمور، بما في ذلك إجراء الانتخابات عبر البطاقة البيومترية كي نضمن نزاهتها ونقطع طرق التزوير».
وفي المقابل، انتقد الدكتور إياد علاوي، زعيم «ائتلاف الوطنية»، قانون الانتخابات، قائلاً إنه «جاء وفق مقاسات بعض الكتل والأحزاب الحاكمة». وتابع في بيان، أن «قانون الانتخابات سيكرّس الطائفية والمحاصصة، وسينتهي بإجراءات واضحة لتقسيم العراق، كما سيعزز الانقسامات التي يشهدها البلد على صعيد السلطات النيابية والقوى المكوّنة للمجلس». وأشار إلى أن «قانون الانتخابات الجديد سيضعف من دور النائب ويعزز المناطقية على حساب مصلحة البلد العليا؛ الأمر الذي سيرتد على الحكومة».

أزمة الرواتب

على صعيد آخر، للمرة الثانية خلال شهرين، يتأخر صرف الرواتب لنحو 6 ملايين موظف ومتقاعد عراقي. وكان السبب المعلن والمخفي هو انعدام السيولة المالية لدى وزارة المالية، وهذا بينما لم يعد رصيد البنك المركزي العراقي قابلاً لمزيد من الاستنزاف. ويأتي هذا الوضع على أثر استنزافه منذ سنوات عبر ما يُسمّى بـ«نافذة بيع العملة» التي تعد إحدى أهم بوابات الفساد في العراق. وفي حين تمكنت وزارة المالية، متأخرة، من صرف الرواتب، مع تقديم الحكومة ما سُمي «الورقة البيضاء» الخاصة بالإصلاح الاقتصادي، فإنها طلبت من البرلمان إقرار «قانون الاقتراض الداخلي» شرطاً لصرف رواتب الشهر الحالي. وفي هذه الأثناء، من المقرّر أن يعقد البرلمان العراقي جلسة حاسمة اليوم (السبت) نشر جدول أعمالها قبل نحو ثلاثة أيام الفقرة الأولى في جدول الأعمال هي التصويت على إقرار هذا «القانون». وزير المالية علي عبد الأمير علاوي، أعلن أن بمقدور المالية صرف الرواتب لكل الموظفين والمتقاعدين في البلاد خلال هذا الأسبوع بمجرد إقرار «قانون الاقتراض الداخلي»، الذي طلبت بموجبه الحكومة اقتراض نحو 41 ترليون دينار عراقي (ما يعادل 38 مليار دولار أميركي)؛ كي تتمكن من دفع الرواتب لنهاية السنة الحالية، فضلاً عن الالتزامات الأخرى، على أمل البدء بالإصلاحات الاقتصادية المنشودة مع مطلع العام المقبل.
وبالتزامن مع أزمة الرواتب التي بدأت تتأخر على نحو غير مسبوق في تاريخ الدولة العراقية، انطلقت حملة لمحاربة الفساد عبر لجنة مركزية شكلها الكاظمي تمكنت من توقيف عدد كبير من المسؤولين في قطاعات مختلفة، كان آخرهم وكيل وزارة الكهرباء أواخر الأسبوع الماضي. وبينما يأمل العراقيون بتحقيق إصلاحات عبر مكافحة الفساد وتفعيل الاستثمار، فإن الطبقة السياسية العراقية تتبادل كرات الاتهام بشأن مسؤولية كل طرف في مجمل الأزمات التي تمر بها البلاد... ومنها أزمات الداخل وأزمات الخارج.

نهاية الحراك أم تأجيله؟

في سياق متصل، ما كان أحد يتصور أن الحراك الشعبي الذي انطلق في الأول من أكتوبر 2019 يمكن أن يكتب نهايته بنفسه في الذكرى الأولى لانطلاقه.
هذا الحراك الجماهيري دفع ثمنه مئات الشهداء وعشرات آلاف الجرحى... وبالتالي، أصبحت له استحقاقات يبحث عنها، في المقدمة منها محاسبة قتلة المتظاهرين.
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الأقرب إلى الحراك الشعبي، والذي جاءت حكومته بناءً على ما أحدثه هذا الحراك من متغيّرات، شكّل لجنة لمحاسبة قتلة المتظاهرين، لكنها لم تعلن نتائجها بعد. ومعلوم أن الحراك رفع الخيَم من ساحة التحرير بوسط العاصمة بغداد، التي فُتحت مع جسر الجمهورية القريب منها بعد سنة على إغلاقها مع الجسر وعدد آخر من الجسور القريبة (السنك والخلاني) التي أغلقت لفترات مختلفة، غير أن قوى الحراك ما زالت من إمكانية الاضطرار إلى العودة إلى الشوارع والساحات ثانية، لكن بوتيرة أخرى... ربما تكون هذه المرة أكثر حسماً. في المقابل، يرى المراقبون والمتابعون، أن الطبقة السياسية العراقية تمكنت من التغلغل داخل الحراك عبر عدد من الأحزاب والقوى. وأنها أسهمت في تفتيت الحراك، مثلما عملت قوى أخرى، أطلقت عليها تسميات مختلفة، في حرف الحراك عن مساره في محافظات الوسط والجنوب بحيث تحولت إلى عمليات تخريب وإحراق مقرات.
المهم أن الأحزاب والقوى السياسية، لا سيما الشيعية منها - بوصفها المستهدفة الأولى بالحراك الجماهيري - تنفست الصعداء جرّاء نهاية الحراك. ولكن في حين يحاول رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الإيفاء بوعوده - سواءً للمتظاهرين أو المواطنين - عبر إجراء انتخابات نزيهة في العام المقبل، فإن القوى السياسية ماضية في وضع العراقيل أمام طريقه، وبخاصة، بعدما شعرت أنه بدأ يقترب أكثر من هموم الناس.
ولعل بين أبرز العراقيل التي بدأت توضع أمام رئيس الوزراء ملف العلاقات الخارجية، ولا سيما، العلاقة مع «الجيران» والولايات المتحدة الأميركية. وبما أن ملف العلاقة مع واشنطن يحتل الأولوية الأولى لحكومة الكاظمي، سواء لجهة الوجود الأميركي في العراق أو بناء علاقة متوازنة للمستقبل، فإن الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أجريت قبل أيام في الولايات المتحدة أخذت حيزاً واسعاً من اهتمامات العراقيين انطلاقاً من ملف العلاقة الأميركية - الإيرانية المعقّد... الذي بات العراق ساحة له.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.