الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

قراءة في جولتي وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين على دول جنوب آسيا

الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ
TT

الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

الأمن والخطر الصيني يتصدران حسابات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

في خضم الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة، أجرى وزيرا الخارجية مايك بومبيو والدفاع مارك إسبر، اللذان يعدان من أبرز شخصيات الإدارة الأميركية، زيارة إلى 5 دول في جنوب آسيا، هي الهند وسريلانكا والمالديف وإندونيسيا وفيتنام. وجاءت الزيارات بعدما وافقت واشنطن على صفقة جديدة لبيع أسلحة لتايوان بقيمة 1.8 مليار دولار، وكذلك أخطرت إدارة الرئيس دونالد ترمب الكونغرس الأميركي بخططها لبيع منظومة صواريخ «هاربون» بقيمة 2.37 مليار دولار لتايوان، وهي ثاني أكبر صفقة أسلحة تعقد في غضون أسبوعين إلى الدولة - الجزيرة التي تعتبرها السلطات الصينية إقليماً مارقاً، وذلك في رسالة واضحة لإثارة ضيق بكين.
وفي حين تجري غالبية الارتباطات الوزارية، بل اجتماعات القمة، عبر الفضاء الإلكتروني، حملت مسألة سفر المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى إلى دول جنوب وجنوب شرقي آسيا في طياتها رسالة جيوسياسية لا لبس فيها، مفادها أن الولايات المتحدة تبذل أقصى ما باستطاعتها لاجتذاب هذه الدول إلى «تحالف» استراتيجي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة الصين، سعياً لتعزيز التعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبالتالي تعزيز تحالف «الحوار الأمني الرباعي»، المعروف اختصاراً باسم «كواد».

تتميز منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في الواقع، باتساع شاسع، ولطالما تنافست فيها الولايات المتحدة والصين على بسط النفوذ. أضف إلى ذلك أن هذه المنطقة، التي تحتضن ضمن ما تحتضنه شبه جزيرة الهند الصينية، وامتدادها الماليزي المياناماري (البورمي)، عاشت خلال الفترة الأخيرة تضارباً بين المصالح الهندية والصينية، تحديداً في سريلانكا وجزر المالديف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدول الثلاث التي زارها بومبيو، أي سريلانكا وجزر المالديف وإندونيسيا، تتمتع بأهمية استراتيجية لـ«مبادرة الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ.

تدريبات مالابار... عودة «كواد»!

شهدت مياه المحيط الهندي وسواحله تدفقاً لقطع حربية وطائرات هليكوبتر حربية متقدمة، مرسلة من كل من أستراليا واليابان والولايات المتحدة، للمرة الأولى منذ عام 2007. وذلك خلال الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني).
ومن ثم، أجرت القوات البحرية التابعة للدول المشاركة في التدريبات مجموعة من العمليات العسكرية المعقدة السطحية والمضادة للغواصات والمضادة للطائرات، بجانب تدريبات على إطلاق الأسلحة. ومن المقرر عقد المرحلة الثانية من التدريبات والمناورات في بحر العرب، بشمال النصف الغربي من المحيط الهندي، نحو منتصف نوفمبر.
هذا، وتأتي مشاركة أستراليا في تدريبات مالابار السنوية، التي انطلقت هذا الأسبوع في خليج البنغال (بالنصف الشمال الشرقي من المحيط الهندي) بمثابة تأكيد على صعود «كواد» كملمح جديد من ملامح المشهد الجيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وعلى الرغم من أن جميع القرارات التي صدرت في الفترة الأخيرة لتعزيزها جاءت خلال الأسابيع الأخيرة من أول فترة رئاسية للرئيس دونالد ترمب، يبقى من المحتمل أن تستمر «كواد»، وذلك بفضل الالتزام المؤسّسي القوي تجاهها الذي تبديه العواصم الأربع المعنية جميعها؛ كانبيرا ودلهي وطوكيو وواشنطن.
من ناحية ثانية، نظراً لتركيزها على الصين، قرّرت ألمانيا هي الأخرى تسيير دوريات في المحيط الهندي عبر نشر سفينة حربية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في إطار خطة برلين لمحاولة السيطرة على النفوذ الصيني في المنطقة. واستطراداً، أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب كارينباور أن بلادها تعمل في إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو) بهدف تعزيز علاقاتها مع الدول ذات التوجهات المشتركة مثل أستراليا داخل منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وأضافت الوزيرة الألمانية خلال مقابلة أجرتها معها صحيفة «سيدني مورنينغ هيرالد» الأسترالية: «نعتقد أن ألمانيا عليها أن تجعل موقفها داخل المنطقة واضحاً»، متابعة: «أوروبا في الوقت الراهن بدأت تلتفت على نحو متزايد إلى الأجندة الاقتصادية للصين وتكتيكاتها الجيوسياسية».
كرامب كارينباور، التي ما زال يعتبرها كثيرون خلفاً محتملاً للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قالت أيضاً للصحيفة: «نحن نأمل في أن نتمكن من نشر قوات العام المقبل. وسنوجه مزيداً من الإنفاق نحو الدفاع خلال العام 2021 عن عام 2020... على الرغم من الأضرار التي ألحقتها جائحة (كوفيد 19) بميزانيتنا. واليوم، تكمن الأهمية الكبرى في تحويل ذلك إلى قوة حقيقية».
من ناحيته، قال العميد البحري أنيل جاي سينغ، الذي يتولى أيضاً منصب نائب رئيس «المؤسسة البحرية الهندية» معلقاً: «في أعقاب اجتماع وزراء خارجية (الحوار الأمني الرباعي) في طوكيو أوائل أكتوبر (تشرين الأول)، وما تلاه من الحوار الوزاري الهندي الأميركي (2 + 2) في نيودلهي الأسبوع الماضي، تأتي تدريبات مالابار بمثابة مؤشر واضح على زيادة صلابة الموقف الذي تتخذه اليابان وأستراليا والهند راهناً تجاه الصين. كذلك يجري النظر إلى هذه التدريبات باعتبارها دليلاً على الأهمية التي توليها هذه البلدان الأربعة لمسألة الحفاظ على النظام الدولي الراهن القائم على قواعد بعينها ووجود حرية وانفتاح بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ».
إلا أنه حذّر، في المقابل، من أنه «لا ينبغي افتراض أن مشاركة قوات بحرية من الدول الأربع في تدريبات مالابار تعد بالضرورة مؤشراً على تطوير تحالف بحري أو عسكري فيما بينها». وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنه في حين لم تُخفِ الولايات المتحدة البعد العسكري لنهجها تجاه الصين في المحيطين الهندي والهادئ، بينما تناصبها الصين قدراً مكافئاُ من العداء، في سياق مساعيها لفرض هيمنتها البحرية الإقليمية، فإن الدول الثلاث الأخرى تبدو أكثر حذراً في نهجها.
وعلى رغم الاستفزازات الأخيرة، مثل المواجهة المستمرة التي بدأتها الصين على طول خط السيطرة الفعلية في منطقة جبال الهيمالايا، فسيكون النهج التدريجي يمثل الخيار الأكثر براغماتية. وأفاد مصدر هندي: «كل هذه البلدان، سريلانكا وجزر المالديف وإندونيسيا، مفتاح النجاح داخل منطقة المحيطين الهندي والهادئ»، مشيراً إلى أن الهند تسعى لإقامة سلاسل إمداد قوية ومرنة معها.

المحطة الأولى... الهند

كانت العاصمة الهندية نيودلهي المحطة الأولى للمسؤولين الأميركيين الرفيعين؛ حيث أجرى بومبيو وإسبر الحوار الثالث (2 + 2) مع نظيريهما الهنديين للشؤون الخارجية إس جايشانكار والدفاع راجناث سينغ.
وفي نيودلهي، وقّعت الولايات المتحدة والهند اتفاقاً تاريخياً للتبادل والتعاون، يسمح للبلدين العملاقين بالتشارك في معلومات عسكرية، بما في ذلك خرائط ملاحية وبحرية ومجموعة أخرى من الصور والبيانات التجارية والجيوفيزيائية والجغرافية والجيومغناطيسية، بجانب بيانات تتعلق بالجاذبية. ومن شأن هذا الأمر، معاونة الهند على الوقوف في مواجهة تهديد الجيش الصيني، المتقدم علمياً وتقنياً، على نحو متزايد على طول الحدود داخل إقليم الهيمالايا الممتد لمسافة 4000 كيلومتراً.
وحول العلاقات الاستراتيجية القائمة، بل المعززة حالياً، بين الجانبين الأميركي والهندي، علّق الكاتب الصحافي بي. كيه. بالاتشاندران معرباً عن اعتقاده بأنه «بغضّ النظر عن هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لن تتغير الأوضاع الاستراتيجية للهند، وستصبح السياسات المناهضة للصين جزءاً لا يتجزأ من السياسات الخارجية الأميركية من أجل ضمان أمن ورخاء الولايات المتحدة و(العالم الحر)... في الوقت الذي ربما يكون هذا التوجه المعادي للصين جيداً للفوز بالانتخابات، فإنه يتسم بأهمية حيوية لضمان بقاء الولايات المتحدة قوة عظمى أولى».
وسريلانكا... المحطة الثانية

أما في العاصمة السريلانكية كولومبو، فقد ألقى الوزير بومبيو بمشروع الولايات المتحدة «مؤسسة تحدّي الألفية»، الذي تبلغ موازنته 480 مليون دولار، جانباً وانطلق في توجيه انتقادات شديدة للصين. ومن جانبها، واجهت سلطات سريلانكا طلبات بضرورة اتخاذها قرارات بخصوص علاقتها بالصين ومراجعة الخيار الذي تعرضه عليها الولايات المتحدة والمتمثل في معاونتها على تحقيق تنمية اقتصادية شفافة ومستدامة. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه سبق لبومبيو أن ألغى زيارة كانت مقررة لسريلانكا في يونيو (حزيران) العام الماضي في أعقاب خروج مظاهرة مناهضة للولايات المتحدة هناك. وما يذكر ضمن هذا الإطار أن سريلانكا تقع مباشرة بجوار خطوط الشحن الرئيسية في المحيط الهندي، التي تستخدمها الصين في استيراد الطاقة والمواد الخام من أفريقيا والشرق الأوسط، وتصدير منتجاتها إلى العالم.

تحركات في المالديف

في المحطة الثالثة، التي كانت مدينة ماليه الصغيرة، عاصمة جزر المالديف، ما كان لدى وزير الخارجية الأميركي كثير لينجزه، لأن الرئيس إبراهيم صليح موالٍ للغرب بقوة. ونشير هنا أن نظام الرئيس السابق عبد الله يمين كان موالياً للصين علانية، واقترض منها بشدة من أجل تطوير البنية التحتية للبلاد، وهناك من يقول إنه سقط ضحية شرك الديون الصينية. غير أن نظام يمين خسر في انتخابات عام 2016 بسبب اتهامات بالتورط في الفساد والاستبداد. وحول المسألة الاستراتيجية، يصف بعض المحللين المعنيين بالشؤون البحرية جزر المالديف بأنها «بوابة» بين الممرات الضيقة في غرب المحيط الهندي في خليج عدن ومضيق هرمز من ناحية، ومضيق ملقا في شرق المحيط الهندي على الجانب الآخر. وقد وقّعت الولايات المتحدة «اتفاقية إطارية أمنية ودفاعية» مع المالديف.
الهند، الجارة الكبرى للأرخبيل الصغير، اختارت أن تسرب بحذر حقيقة أن «إطار العمل للعلاقات الدفاعية والأمنية بين الجانبين» جرى «عرضه» على مسؤولي نيودلهي في ماليه «أولاً». ويبدو هذا الأمر مثيراً للاهتمام بالنظر إلى أن الاتفاق جرى توقيعه بهدوء أثناء زيارة وزيرة الدفاع المالديفية، ماريا ديدي، إلى الولايات المتحدة. ولم تكشف تفاصيل عن هذا الأمر بعد. وكانت الهند قد حالت دون إبرام معاهدة دفاعية بين الولايات المتحدة وجزر المالديف عام 2013. لكنها «رحّبت» بالخطوة الأخيرة، وأعلنت على نحو أثار الدهشة إلى حد ما أن الاتفاقية لم تقلص من دور الهند «كجهة موفرة للأمن»، وإنما في الواقع تكمل هذا الدور.
أما، فقد قال من جانبه، في ماليه وبصراحة إن «الحزب الشيوعي الصيني يواصل سلوكه التهديدي والخارج عن القانون والتهديد». وأعلن عن افتتاح سفارة في العاصمة المالديفية. وتجدر الإشارة إلى أنه فيما مضى كان السفير الأميركي لدى سريلانكا مسؤولاً عن جزر المالديف.
منذ عام 2018، عندما أصبح إبراهيم صليح رئيساً، تخلت البلاد عن ميلها السابق نحو بكين، وأعادت صياغة سياستها الخارجية لتعكس العلاقات الأخرى الطويلة الأمد، بما في ذلك مع الهند. وكانت هناك بعض الأصوات في جزر المالديف المعارضة لفكرة بناء صداقة وثيقة للغاية مع الولايات المتحدة والهند. وفي الأيام الأخيرة، وبعد تداول شائعات بأن جنوداً هنوداً سيتمركزون في جزر المالديف، طلبت إحدى وسائل الإعلام المحلية الحصول على معلومات بموجب قانون حق الحصول على المعلومات في جزر المالديف حول عدد أفراد الدفاع الهندي في البلاد، إلا أن قوات الدفاع الوطنية لجزر المالديف قالت إنه من المتعذر الكشف عن هذه المعلومات لدواعٍ أمنية.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.