تخيل أن لاعباً لم يمارس كرة القدم منذ أشهر ثم طلب منه أن يشارك في مباراة، من المؤكد أن أداءه سيكون أقل بكثير من أقرانه الذين خضعوا لتدريبات في الأيام السابقة. ومع الفارق، يبدو الوضع شبيهاً بالنسبة للجهاز المناعي غير المدرب على مواجهة الفيروسات والجراثيم، ثم وجد نفسه أمام فيروس كورونا المستجد الذي من المؤكد أنه سينال منه، وذلك على عكس الجهاز المناعي المدرب على مواجهة الفيروسات، وهو التفسير الذي قدمه باحثون من الهند لأسباب قلة عدد الوفيات لديهم، رغم كثرة عدد الإصابات.
ويتميز «فيروس كورونا المستجد» بقدرة كبيرة على الانتشار؛ لذلك من المنطقي أنه سيصيب عدداً أكبر من الناس في بيئة مكتظة بالسكان لا يستطيع أبناؤها الحصول على مياه شرب نظيفة، ويستهلكون طعاماً غير صحي، ويتنفسون هواءً ملوثاً، لكن في المقابل فإن أبناء هذه البيئة سيكونون أكثر قدرة على المقاومة عند الإصابة؛ لأن جهازهم المناعي تدرب كثيراً على مواجهة الفيروسات. ويوجد لدى الهند سُدس عدد حالات الإصابة المبلغ عنها عالمياً، ومع ذلك فإن معدل موت الحالات، الذي يقيس عدد الوفيات بين المرضى «أقل من 2 في المائة»، وهو من أدنى المعدلات في العالم، والسر وفق ما ذهبت إليه دراستان نشرتا أول من أمس على موقع المركز الوطني للمعلومات التقنية الحيوية (ncbi)، يرجع إلى «المناعة المدربة على مواجهة الفيروسات».
وإذا كانت ظروف الحياة تجعل الهنود أكثر عرضة لمجموعة من الأمراض غير المعدية، مثل أمراض القلب وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة والسرطان والسكري، والتي من شأنها أن تشكل عبئاً مرضياً كبيراً، حيث يموت على سبيل المثال أكثر من مليون هندي كل عام بسبب تلوث الهواء، وفق تقرير حكومي، فإن هذه الظروف نفسها هي التي تمنح الجهاز المناعي فرصة لمقاومة الأمراض المعدية، وفق هاتين الدراستين.
وقارنت إحدى الدراسات بين البيانات المتاحة حول السكان في 106 دول، مثل كثافة السكان والديموغرافيا وانتشار الأمراض ومستوى الأنظمة الصحية، وقارنت هذه البيانات مع معدلات الوفاة بسبب فيروس كورونا المستجد، المسبب لمرض «كوفيد – 19»، فوجد الباحثون أن نسب الوفيات جراء الإصابة بـ«كوفيد - 19» هي الأعلى في البلدان ذات الدخل المرتفع، والأقل في البدان ذات الدخل المنخفض؛ وهو ما يعني أن لدى الفقراء أصحاب الدخل المنخفض، استجابة مناعية للمرض أفضل، مقارنة مع أقرانهم أصحاب الدخل المرتفع.
وتناولت الدراسة الثانية الدور الذي يلعبه الميكروبيوم، وهو تريليونات الميكروبات الموجودة داخل جسم الإنسان في تجاوز عدوى «كوفيد – 19».
ويشمل الميكروبيوم، البكتيريا والفيروسات والفطريات ووحيدات الخلية، وتساعد في عملية الهضم وتحمي من البكتيريا المسببة للأمراض وتنظم جهاز المناعة وتنتج الفيتامينات.
وقام الباحثان الهنديان برافين كومار وبال تشاندر خلال هذه الدراسة، بفحص بيانات من 122 دولة، بما فيها 80 دولة ذات دخل عال ومتوسط، ووجدا أن الوفيات الأقل جراء الإصابة بـ«كوفيد - 19» في البلدان التي لديها عدد أكبر من السكان المعرضين لمجموعات متنوعة من الميكروبات، لا سيما ما يسمى بـ«البكتيريا سلبية الغرام».
واقترح الباحثان أن التعرض الميكروبي العالي وخاصة للبكتيريا سالبة الجرام يمكن أن يحفز «الإنترفيرون» المناعي من النوع الأول الذي قد يكون له تأثير وقائي ضد (كوفيد – 19).
وتأتي هذه الدراسة مغايرة تماماً لافتراضات بديهية أثيرت في بداية الوباء، مفادها أن فيروس كورونا قد يفتك بسكان الدول النامية، ويؤدي إلى ملايين الوفيات بها، ولكن ما تم الكشف عنه هو أنه قد تحدث زيادة في عدد الإصابات، ولكن المناعة المدربة على مواجهة الفيروسات والجراثيم تساعد على تجاوز الأزمة بشكل أفضل، وهو أمر «لم يكن مفاجئاً» للدكتور علي محمد زكي، أستاذ الفيروسات بجامعة عين شمس، والذي ينسب له علمياً اكتشاف الفيروس المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية «ميرس».
ويقول الدكتور زكي في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، «الدول المزدحمة مثل مصر والهند، تعايش أبناؤها مع فيروسات تنفسية أخرى مثل فيروسات كورونا المسببة لنزلات البرد، وهذه الفيروسات منحتهم وقاية من فيروس كورونا المستجد».
ويضيف، أن «الإصابة بفيروسات كورونا الأخرى شكلت لدى مواطني هذه الدول خلايا ذاكرة مناعية تجعل المرض أقل حدة، وتكون (مناعة مشتركة) تجاه هذه الفيروسات والفيروس الجديد».
وتؤكد دراسة أميركية نشرت في نشرت في العدد الأخير من دورية «mBio» التي تصدرها «الجمعية الأميركية لعلم الأحياء الدقيقة»، أن خلايا الذاكرة البائية المتشكلة عن طريق الإصابة بفيروسات كورونا الشائعة المسببة لنزلات البرد، تتعرف على أخطر منطقة في بروتين «سبايك» الخاص بالفيروس الجديد، والذي من دونه لا يستطيع اقتحام الخلايا البشرية، وهي التي تعرف باسم «S2» وتنتج أجساماً مضادة لها.
وبدت نتيجة الدراسة أيضاً بالنسبة للدكتور محمد علي، أستاذ الفيروسات بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، غير مستغربة.
ويقول الدكتور علي لـ«الشرق الأوسط»، «جهاز المناعة بصفة عامة، لا بد أن يتعرض لـ(ضغط انتقائي)، وهذا الضغط يتحقق عندما يتعرض لمسببات الأمراض من فيروسات وبكتريا، فينتقي أفضل ما عنده لمواجهة أي مسبب مرضي، وهذه حالة تتكون عند التعرض بكثرة لمسببات الأمراض».
«المناعة المدربة» على مواجهة الفيروسات تصمد أمام «كورونا»
«المناعة المدربة» على مواجهة الفيروسات تصمد أمام «كورونا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة