ترميم صور الذاكرة وسرد لحكايات نادرة

«إنها مجرد منفضة» لسميح القاسم.. من الرامة إلى مسدس عرفات

غلاف {إنها مجرد منفضة}
غلاف {إنها مجرد منفضة}
TT

ترميم صور الذاكرة وسرد لحكايات نادرة

غلاف {إنها مجرد منفضة}
غلاف {إنها مجرد منفضة}

«كنت في الصف السابع الابتدائي حين اكتشف معلم اللغة العربية (شاعرا في الصف)، من خلال موضوع إنشاء وردت فيه مقاطع موزونة ومقفاة، وذهلت حين اتضح أنني أنا هو (الشاعر) الذي أشار إليه معلم اللغة العربية. حين قدمت إلى المدرسة في الغداة شاحبا محبطا، وأخبرت المعلم أنني سهرت الليل ولم أستطع كتابة قصيدة جديدة، داعب المعلم إلياس شعري ضاحكا: لا تذهب إلى القصيدة يا بني، دعها هي تأتي إليك، وستأتي، لا تقلق... كان هذا هو الدرس الأول في النقد الأدبي الذي تعلمته في طفولتي، وطفولة قصيدتي، وتمسكت بعبرته طيلة حياتي اللاحقة».
هكذا يسرد الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم بداية حكايته مع الشعر في «منفضته» التي هي سيرة ذاتية أو ما يشبه السيرة الذاتية، وصدرت عن دار «راية» للنشر في حيفا.
على امتداد 160 صفحة، يتنقل بك صاحب «منتصب القامة» ما بين حكاية وحكاية، بعضها مفعم بالألم، وبعضها الآخر يثير ضحكك، وقد يجعلك تدمع، أو تبتسم، أحيانا، أو حتى تشهق، لكنها كلها، حتى تلك المتعلقة بجده ووالده، حقيقية ونادرة، وما يجعلها تعبق برائحة الزعتر البري في جبال الرامة الفلسطينية أنها تتراوح ما بين الشخصي، والعائلي، والشعري، وحتى السياسي في سيرته التي أطلق عليها اسم «إنها مجرد منفضة».
هو، الذي اختار صيغة المخاطب للحديث عن نفسه، لا يفضل أن يسميها سيرة، ويقول في ذلك: «لعبة النار والرماد لن تتوقف هنا والآن، وبمثل ما يستمر تساقط الرماد من لفافات تبغك في منفضة سجائرك، يستمر تساقط رمادك أنت، شعرا وجسدا وروحا وتجربة، في منفضة الحياة الدنيا، هذه المنفضة الهائلة اللامحدودة. أجل، إنها هائلة ولا محدودة، لكنها تظل في نهاية المطاف منفضة، مجرد منفضة.. إنها مجرد منفضة»، ويؤكد في موقع آخر: «هي ليست سيرة ذاتية.. هي محاولة لترميم صور من الذاكرة.. صور قديمة، بالأبيض والأسود».
الحكايات في «منفضة» سميح القاسم لا يمكن حصرها في تقرير أو مراجعة، لكن من الضروري سرد بعضها، بعد «التلاعب» بصيغة المخاطب، وتغييرها إلى صيغة الراوي.
يتذكر القاسم: «في عام النكبة كما يسمونه، تقطرت أخبار المعارك، وتقاطرت الأقاويل والإشاعات عن انتصارات كبرى وهزائم نكراء فاحشة، وكانت تتناوبني الأفراح الكبيرة والأحزان الغامضة بين نبأ وآخر، اعتقدت أنني لست ولدا، ولذلك اعتقدت بأهمية فرحي وخطورة حزني، ويستمر النقاش بين الناس ويستمر إصغائي الفائض عن عمري، ولكني لا أفهم شيئا، ومع ذلك أتشبث باليقين بأن النصر آت لا محالة».
ويضيف: «صبيحة يوم ما، حضر إلى منزلنا جندي من جيش الإنقاذ يسأل عن والدي. كان يحمل رسالة من ضابط يدعى المقدم عامر، الرسالة موجهة إلى أبي وزوج خالتي المرحوم سلمان الداغر، أحتفظ إلى اليوم بتلك الرسالة المطبوعة على آلة كاتبة، وعثرت عليها بين أوراق أبي بعد رحيله، وكانت دعوة عسكرية لوالدي وزوج خالتي بضرورة التجند للدفاع عن الوطن، وما هي إلا أيام حتى أصبح والدي مسؤولا عن تنظيم مجموعة من العسكريين السابقين من قريتي الرامة في إطار الدفاع الشعبي أو المدني، لا أذكر التسمية الدقيقة لتلك المجموعة، التي يتدرب أفرادها بإطلاق النار على صخرة كبيرة شمال شارع الرامة - بيت دجن».
ويتذكر أيضا: «أصبح والدي كثير التغيب خارج المنزل، وكثرت النداءات المتوترة المستنفرة: اليهود يهاجمون عكا، الهاغانا تهاجم لوبية، اليهود يتقدمون نحو شفا عمرو، إنهم قرب خربتي (هوشة) و(الكساير) بين حيفا وشفا عمرو، اليهود يهددون (البروة)، تفجيرات يهودية في حيفا وفي طبرية».
ويعود القاسم إلى حكايات النكبة، فيروي: «ترددت في البلد أنباء مجزرة دير ياسين، وأخبار عن فظائع أخرى كثيرة، وتدفق على الرامة عدد من اللاجئين بينهم (حسن الكسيح)، وقطعت معظم الطرق الرئيسية في البلاد، وكان على والدي السفر إلى رام الله لإحضار شقيقتي التي تدرس في دار المعلمات هناك، وزميلة لها من الرامة تدرس في ذات المكان، وارتطمت السيارة التي أقلته بلغم، قتل السائق وأصيب والدي برضوض فعاد إلى الرامة، واضطر عمي نجيب إلى السفر لإحضار شقيقتي و9 زميلات لها عبر شرق الأردن وسوريا ولبنان، حيث استضافهم في دمشق عمي المحامي علي الأسعد، لعدة أيام، حتى تم ترتيب عودتهم الآمنة إلى الرامة وعكا وصفد عبر الحدود اللبنانية».
«حدث ذلك في بداية الحرب، وها هي الحرب تقترب من الأسر المجتمعة كلها في الرامة، قدم عمي علي من الشام محاولا إقناع العائلة بمرافقته إلى هناك، لكننا قررنا البقاء في الوطن.. لا أتذكر الوقت بالتحديد، لكني أتذكر أن طائرة يهودية أغارت على قريتي، وألقت قنبلة على منزل قريب فهدمته، وهنا ساد الهرج والمرج، ومحاولات الاختباء من القنابل المتواترة علينا»، يكتب القاسم في «منفضته».
«صبيحة اليوم التالي قرر أهل الرامة إخلاء القرية. قلة منهم غادرت إلى خارج البلاد، لكن الأغلبية الساحقة قررت اللجوء إلى كروم الزيتون القريبة، ومنها كرم العائلة (خلة القصب) لوقوع معظمه في واد يصلح مخبأ مؤقتا، ولوجود نبعة ماء توفر الري إلى يوم الفرج، هناك في الكرم كنت أتعمشق مع بعض الفتيان أشجار الزيتون والتين والخروب واللوز ونغني: طيارة حرامية، تحت التوتة مرمية، يا يهودي يا ابن الكلب، شو جابك ع بلاد الحرب؟!».
ومن الحكايات اللافتة حكاياته مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، حين قال القاسم له في جمع كبير: «والله يا أبا عمار لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بأقلامنا»، فوقف هاتفا: «يا محمد (إشارة إلى محمد الداية حارسه الشخصي)، أحضر المسدس»، فتخيل الحضور كيف سيكون مسار رصاصة عرفات تجاه القاسم، لكنه وحين أحضر محمد المسدس دنا منه وقال: «لا يا أخويا يا سميح، إذا رأيت في اعوجاجا فقومه بمسدسي هذا، لا بالقلم».. فعاد القاسم وأكد له: «لا يا أخي الرئيس.. المسدس يوجه إلى الاحتلال، وأقلامنا كفيلة بتقويم أي اعوجاج في أي منا، وفينا جميعا، وبلا استثناء».



«كتارا» تتوّج الفائزين بجائزة الرواية العربية

الدكتور خالد السليطي المدير العام لمؤسسة الحي الثقافي يسلم الفائزين جائزة «كتارا» (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور خالد السليطي المدير العام لمؤسسة الحي الثقافي يسلم الفائزين جائزة «كتارا» (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

«كتارا» تتوّج الفائزين بجائزة الرواية العربية

الدكتور خالد السليطي المدير العام لمؤسسة الحي الثقافي يسلم الفائزين جائزة «كتارا» (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور خالد السليطي المدير العام لمؤسسة الحي الثقافي يسلم الفائزين جائزة «كتارا» (تصوير: ميرزا الخويلدي)

توّجت مؤسسة الحي الثقافي بقطر «كتارا»، الخميس، الفائزين بجائزتها للرواية العربية في دورتها العاشرة 2024.

وفاز في فئة «الروايات العربية المنشورة» كلّ من: علاء حليحل (فلسطين) عن روايته «سبع رسائل إلى أم كلثوم»، ومحمد طَرزي (لبنان) عن روايته «ميكروفون كاتم صوت»، ويوسف حسين (مصر) عن روايته «بيادق ونيشان». وتبلغ قيمة كل جائزة 30 ألف دولار أميركي، مع ترجمة الروايات الفائزة إلى اللغة الإنجليزية.

وفي فئة الروايات «غير المنشورة» فاز كل من: قويدر ميموني (الجزائر) عن روايته «إل كامينو دي لا مويرتي»، وليزا خضر (سوريا) عن روايتها «حائط الفضيحة»، وياسين كنيمن (المغرب) عن روايته «ع ب ث»، وتبلغ قيمة كل جائزة 30 ألف دولار، مع طباعة الأعمال الفائزة وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.

وفاز في فئة «الدراسات التي تُعنى بالبحث والنقد الروائي»، 3 نقاد، وهم: الدكتور بلقاسم عيساني (الجزائر) عن دراسته «الفكر الروائي»، والدكتور بوشعيب الساوري (المغرب) عن دراسته «تخييل الهوية في الرواية العربية»، والدكتور هاشم ميرغني (السودان) عن دراسته «الروايةُ مسرحاً لجدل الهُويَّات وإعادة انبنائها»، وتبلغ قيمة كل جائزة 30 ألف دولار، مع طبع الدراسات ونشرها وتسويقها.

أما في فئة «رواية الفتيان» ففاز كل من: أبو بكر حمّادي (الجزائر) عن روايته «أنا أدعى ليبرا»، وشيماء جمال الدين (مصر) عن روايتها «بيتُ ريما»، وعلاء الجابر (العراق) عن روايته «أرض البرتقال والزيتون»، وتبلغ قيمة كل جائزة 15 ألف دولار لكل فائز، مع طباعتها ونشرها. وعن «الرواية التاريخية غير المنشورة» فاز ضياء جبيلي (العراق) عن روايته «السرد الدري في ما لم يروهِ الطبري - ثورة الزنج». وفازت في «الرواية القطرية المنشورة» الدكتورة كلثم جبر الكواري عن روايتها «فريج بن درهم».

وجرى الإعلان عن الجوائز بحضور وزراء وسفراء وممثلي بعثات دبلوماسية، وعدد كبير من الأدباء والمثقفين والإعلاميين وجمهور غفير من المهتمين بالشأن الثقافي.

وقال الدكتور خالد السليطي، المدير العام لـ«كتارا»، خلال كلمته أمام الحفل، إن الجائزة، التي أطلقتها المؤسسة عام 2014، تهدف إلى «ترسيخ حضور الروايات العربية المتميزة عربياً وعالمياً، وتشجيع وتقدير الروائيين العرب المبدعين؛ لتحفيزهم على المضي قدماً نحو آفاق أرحب للإبداع والتميز»، مضيفاً: «مدينة الرواية (كتارا) تحتفل اليوم بالأسبوع العالمي للرواية، الذي كان للمؤسسة إسهام في اعتماده من قبل (اليونسكو) خلال الفترة بين 13 و20 أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام»

السليطي يتحدث عن جائزة «كتارا» وجهود المؤسسة لدعم الرواية العربية (تصوير: ميرزا الخويلدي)

وتابع: «كما نحتفل بمرور 10 سنوات على إطلاق الجائزة التي استطاعت خلال عقد من الزمان الوصول بالرواية العربية إلى فضاءات جديدة، عبر معالجة كثير من الإشكالات التي كانت تحدّ من انتشارها، ومن بينها صعوبات النشر والترجمة إلى لغات أخرى غير (العربية)»، مبيناً أن «مبادراتها العديدة أتاحت الربط بين الرواية والترجمة والدراما والفن التشكيلي، وأسهمت في ظهور مواهب أدبية واعدة استفادت من فرص نشر وتسويق الروايات الفائزة وترجمتها للغتين الإنجليزية والفرنسية».

وعدّ السلطي اختيار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، المؤسسة «مدينة الرواية»، تتويجاً لجهود «كتارا» المستمرة «في دعم تقدم وتطوير الرواية العربية باعتبارها صاحبة المكانة الأولى في أدبنا الحديث»، متعهّداً باستمرار دعمهم للرواية والروائيين العرب عبر برامج وأنشطة المؤسسة، التي تتضمن ورش عمل لتعليم فنون الكتابة الإبداعية، لمختلف الفئات العمرية، وتنمية التجربة الإبداعية بمواصلة إصدار دورية «سرديات» تعنى بتقويم مسيرة الرواية من خلال المناهج النقدية الحديثة.

وشهد الحفل الافتتاحي عزف «سيمفونية الرواية»، وهي تجربة موسيقية من تصور وإشراف الدكتور ناصر سهيم، وثمرة تعاون بين «كتارا» و«أوركسترا قطر الفلهارمونية»، حيث استمتع الحضور بالمزج المبتكر بين سحر الموسيقى الأوركسترالية والسرد المشوق في الرواية، الذي يعد شهادة على قوة التناغم والإمكانات اللامحدودة لمكونات الفن.

1697 مشاركة

وشهدت الدورة العاشرة لعام 2024 مشاركة 1697 عملاً، شملت 886 رواية غير منشورة، و437 رواية منشورة صدرت عام 2023، و177 رواية فتيان غير منشورة، و91 دراسة نقدية غير منشورة، بالإضافة إلى 7 روايات قطرية منشورة، و99 رواية تاريخية غير منشورة.

وجرى إعلان القائمة الطويلة التي تضم 18 عملاً من بين الأعمال المشاركة، وتشمل مختلف فئات الروايات. وضمّت روائيين من 17 دولة عربية، تصدرتها مصر بـ26 رواية ودراسة نقدية، تلتها المغرب بـ19، ثم سوريا بـ9 روايات، والأردن بـ8 روايات ودراسات نقدية، والعراق بـ5 .

فعاليات ثقافية

وشهد «مهرجان كتارا للرواية العربية» في نسخته العاشرة ندوات حوارية وفكرية، من بينها ندوة «الرواية والمجتمع»، وتحدث فيها الكاتبان؛ السوداني أيمن خير، والآريتري هاشم محمود، وأيضاً ندوة ثانية عن «الرواية العربية وشبكات التواصل» شارك فيها الروائي فيصل الأنصاري، الحائز على «جائزة كتارا للرواية العربية» عام 2021 عن «فئة اليافعين»، والروائية أسيل سامي، وندوة «الرواية والاغتراب... الكتابة في الغربة والغربة في المكان»، شاركت فيها السينمائية والروائية السويدية (من أصل عراقي) ميسلون فاخر، والروائي والإعلامي السوري عبد الله مكسور.

وشارك في ندوة «أدبيات علمية حديثة في دراسات الأديان»، الباحث في «مركز الدوحة لحوار الأديان» سيكو مارفا توري، والباحث في الحضارة الإسلامية مختار خواجة، والباحثة هند الحمادي. كذلك شارك في ندوة «الرواية القطرية وعلاقتها بالنقد العربي» الروائي القطري الدكتور أحمد عبد الملك، والباحث الدكتور مرزوق بشير، والروائية الدكتورة هدى النعيمي، بإدارة الكاتب الكويتي الدكتور فهد الهندال. وتحدث في ندوة «الرواية العربية في ظل الذكاء الاصطناعي» الروائي الجزائري واسيني الأعرج، والسوداني أمير تاج السر، والمصري إبراهيم عبد المجيد، وأدارتها الدكتورة أسماء فرنان.

واختارت جائزة كتارا للرواية العربية، في دورتها العاشرة، المؤرخ والصحافي والأديب المغربي التهامي الوزاني (1903 - 1972) شخصية العام، باعتباره يمثّل «تجلياً متميزاً للمثقف الشامل».