عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا

كتاب ونقاد مصريون يستعيدون طه حسين بعد نصف قرن على رحيله

عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا
TT

عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا

عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا

ماذا تبقى من طه حسين، بعد نحو نصف قرن من رحيله عن عالمنا؟ الرجل الذي شغل عصره وزمانه، وأرسى ركائز الاستنارة والعقلانية في التعامل مع قضايا الأدب والتاريخ والمجتمع، وتعرض للمحاكمة بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926، في واحدة من أشهر القضايا والمعارك الثقافية التي شهدتها مصر والعالم. بهذه المناسبة تستطلع «الشرق الأوسط» في هذا التحقيق آراء نقاد وكتاب مصريين، حول تراث «عميد الأدب العربي»، وما الذي نأخذ منه لدعم مستقبلنا وثقافتنا الراهنة.

د. جابر عصفور: «معلم الفقراء»
كان طه حسين معلماً للفقراء، وهو أول من تحمس لهم، وحرص على أن ينالوا من التعليم ما لم يصل له في صباه. وعلى هذا عندما تولى مهام وزارة التعليم في 12 يناير (كانون الثاني) 1950، أصدر قراراً في 1951 بمجانية التعليم الثانوي، اتساقاً مع فكرة أن التعليم متاح ومشاع كالماء والهواء. وقد ظل مؤمناً بما كتبه في مؤلفه المهم: «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أصدره عام 1938، والذي قام بتأليفه بعد توقيع معاهدة 1936 مع إنجلترا، ووضع فيه تصوره لما يجب أن تكون عليه مصر من الناحية التعليمية والقدرة على التأثير.
ركز «العميد» على نقطتين مهمتين جداً فيما يتصل بتعليم الفقراء، أولاهما نوعية التعليم الذي يجب أن يقدم لهم؛ لكن للأسف الآن أصبحت العملية التعليمية تدار دون أن يكون لها مضمون حقيقي. وقد قرأت طه حسين جيداً، ولدي كتاب يناقش مؤلفاته وأفكاره، وأرى أن أهم ما نادى به طه حسين هو تعليم الفقراء بلا مقابل، بحيث لا تحمِّلهم الدولة أي أعباء؛ خصوصاً المتفوقين منهم، والآن لا تزال مجانية التعليم قضية مشكوكاً فيها، أما عن نوعية التعليم التي دعا إليها فلم تتحقق في عديد من الدول باستثناء الدول الغنية التي تمتلك ثروة نفطية؛ لكن بقية الدول غير قادرة على تحقيق نوعية التعليم التي دعا لها «العميد» وحلم بها.
أما القضية الأخطر التي دعا لها فهي إلغاء ثنائية التعليم. كان يرفض وجود نوعين من التعليم (مدني وديني) ويرى أن التعليم لكي يؤتي ثماره ويحقق أهدافه في بناء المجتمع، لا بد من أن يكون - حسب معايير الدولة التي تسعي لوجود حكم مدني ديمقراطي حديث - تعليماً مدنياً وليس دينياً. من هنا رفض التعليم المزدوج، وكان يرى أنه سوف يؤدي لانقسامات كبيرة في المجتمع، ويرسخ قيم رفض الآخر، وعدم قبول وجهات النظر المخالفة. وقد خبر «العميد» ذلك عملياً أثناء دراسته في «الأزهر»؛ حيث ناله كثير من التعنت بسبب وجهات نظره التي كان من نتائجها خروجه من هناك دون حصوله على «العالمية»، واضطراره للالتحاق بـ«الجامعة الأهلية» التي حصل منها على درجة الدكتوراه، عن أبي العلاء المعري، ثم سفره إلى فرنسا وحصوله على الدكتوراه من «جامعة مونبلييه»، في فلسفة ابن خلدون. وكان المناخ بالطبع في كلتا الجامعتين مختلفاً تماماً عما لاقاه من شيوخه في «الأزهر».
ورغم مرور كل هذه السنوات على دعوته إلى تحقيق تعليم متجانس؛ فإنها ما زالت حتى الآن لا تجد إرادة قادرة على تفعيلها ووضعها موضع التنفيذ، ولا أظن ذلك سيتحقق، فنحن خاضعون لضغط الجماعات الإرهابية، والتيارات السلفية. من هنا لن يتحقق التعليم المدني المستدام الذي قال عنه طه حسين إنه واجب مستمر لا بد من إعطائه للمثقف على مدى حياته. وقد كان يرى المدارس مراكز حضارية مشعة، وليست أماكن لتلقي الدروس فقط؛ بل لديها دورها المهم في المجتمعات التي حولها.

د. أشرف راضي: «سيرته الذاتية»
أهم ما في مشروع طه حسين الفكري هو سيرته الذاتية التي دونها في رواية «الأيام»، وظلت مقررة على طلاب الثانوية العامة في مصر لسنوات طويلة، وشكَّلت وجدانهم، وكانت نبراساً لمسيرتهم في الحياة، وهي أهم وأعظم ما تركه «العميد»، وتقدم سيرته الذاتية والأفكار التي طرحها في موضوعات شتى. في تقديري، فإن عدداً من الرسائل لا تزال صالحة: أولها السعي للتحرر من القيود التي فرضها العجز الجسدي؛ حيث تغلب على فقدان البصر بتقوية البصيرة، والقيود التي فرضتها نشأته في قرية نائية، والتي فرضها «الأزهر»، وقد تحداها بانتقاله للدراسة في «الجامعة المصرية» الوليدة، لاكتشاف معارف جديدة وعلوم أحدث، وأخيراً القيود التي تضعها أفكار الأولين، والتي تحداها بكتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926 الذي أحدث ضجة سياسية وفكرية.
يروي لنا طه حسين في «الأيام» عن الخرافات والأساطير التي كانت شائعة في قريته الصغيرة؛ لكنه لم يسلم عقله الصغير لهذه المرويات. كان يحركه الشغف بالمعرفة والعلم، ولم ينتهِ شغفه بحصوله على الدكتوراه في الأدب العربي وأرفع الجوائز الأدبية، فراح يغوص في تراثنا الأدبي متعلماً قبل أن يكون عالماً.

الروائي أشرف الصباغ:
«منظومة كاملة»
بعد حوالي نصف قرن على رحيله، وما يقرب من 84 عاماً (1889– 1973) عاشها، قدم طه حسين منظومة كاملة من الأفكار والرؤى، من الصعب أن نتعامل معه على أنه ماكينة أفكار فقط، إنما يجب التعامل مع ما قدمه باعتباره نسقاً فكرياً متكاملاً، ومنهجاً ورؤية شاملة للتقدم. لكن من جهة أخرى، لا يمكن القول إن كل ما تركه طه حسين يصلح الآن لحياة المجتمع المصري أو المجتمعات العربية عموماً. لقد مر على ما طرحه وقدمه نحو نصف قرن. جرت خلال تلك الفترة تحولات جذرية في العالم، وحدثت طفرات في الفكر والفلسفة والأدب والنقد، ودخلت البشرية عصر التقدم العلمي التقني ما بعد الحداثي والعالم الافتراضي. تكمن أهمية طه حسين وطروحاته في قيمة أخرى تتعلق حصراً بتحوله إلى نسق معرفي، وقوة دفع لإطلاق أفكار جديدة نحو المستقبل الذي كان يؤمن به ويعمل ويغامر بحياته من أجله. ربما يكون الواقع نفسه، وبحكم الزمن، قد تجاوز أفكاره؛ لكن من حيث الجوهر، فإن أفكاره في الفلسفة والمجتمع والتعليم، ومن حيث الرؤية الاجتماعية للتاريخ، تتحول إلى شكل من أشكال رأس المال الرمزي في حقلَي الثقافة والمعرفة، وهذا هو الأهم الذي يُكسبها قيمة متجددة.

الباحث نبيل عبد الفتاح:
«منهج مغاير»
السؤال المعرفي والإشكالي حول أثر طه حسين في تطور نظم الأفكار الحداثية، يبدو لي جزءاً من خطاب البداهات؛ لأن المقارنات المنهجية والبحثية الفعالة انتهت بما يشبه الإجماع على الأثر الفعال لدوره، وكتاباته التأسيسية في عديد من المجالات، وطرحه الأسئلة المختلفة، والمنهج التاريخي النقدي المغاير الذي أحدث قطيعة مع الفكر الموروث والتقليدي، والبلاغة الكلاسيكية والذائقة اللغوية المسيطرة. لطه حسين حضوره الباهر في قلب الكتابة العربية كلها بلا نزاع، وذلك منذ كتابه «في الشعر الجاهلي»، وما طرحه من مقاربة تاريخية صادمة للعقل النقلي الأدبي والديني معاً، وهي ممارسة تاريخية شكلت قطعاً منهجياً ومعرفياً مع السائد والمسيطر الذي يعيد في ملل تكرار مقولات لا تاريخية، ثم كتابه «الفتنة الكبرى»، وغيرها من الكتب التي لا تزال تمثل جذوراً مرجعية أولية في مقاربة الموروثات التاريخية، فالمقاربة التي أسس لها «العميد» شكَّلت الموجِّه التاريخي لعديد من الكتابات التي مارسها بعض كبار الباحثين العرب. من هنا يمكن القول إن «العميد» سيبقى جزءاً من تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر.

د. كمال مغيث: «قيمة كبرى»
كان طه حسين صاحب أكمل مشروع نهضوي، بدءاً من حديثه عن التعليم ودوره، والجامعة ودورها، وعن الديمقراطية والدستور، وحتى كتاباته في التراث والدين والثقافة والعلاقة مع الغرب، والترجمة. ولا يمكن النظر إلى كتاباته بعيداً عن هموم مجتمعه. وقد اختبر كل ما قدم من اجتهادات في الواقع في مرحلة ما قبل «ثورة 1919» وأثناءها، وخلال علاقته بحزب «الأحرار الدستوريين»، و«الوفد»، ثم مع «ثورة يوليو» (تموز) 1952 حتى وفاته. كل هذا يجعل لطه حسين ولأفكاره قيمة كبرى ونحن نتصدى لمشكلاتنا، وقد كان لديه ثلاث قضايا رئيسية: أولها الإيمان بحرية النقد وحرية العقل، وبالديمقراطية، وبالعدالة الاجتماعية. وكان يعتقد أن الانطلاق لتحقيقها لا بد من أن يكون من خلال تراثنا، كما اختبر أفكاره في التعليم في مواقع كثيرة، فضلاً عن ممارستها في الجامعة، وقد كان لديه إيمان مطلق بمجانية التعليم.

د. محمد بدوي: «النظرة النقدية»
في تقديري أن طه حسين نموذج للمفكر الحداثي. بل هو أهم مفكر منذ «عصر النهضة» إلى اليوم، ونحن ما زلنا في حاجة إلى مشروعه وأفكاره. نحتاج إلى تعميم منهجه العلمي في دراسة الأدب والثقافة والعلوم الإنسانية، وهو المنهج الذي يقوم على النظرة النقدية، كما ظهر في كتبه عن ابن خلدون والشعر الجاهلي والفتنة الكبرى. نحتاجه أيضاً في تعميق رؤيتنا للعلاقة بالآخر، كما صاغها في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو أكثر الرؤى الحديثة كمالاً وعمقاً. كما نحتاجه في فهم مسألة الهوية، فقد كان يضع قدماً في التراث العربي وأخرى في الثقافة الحديثة.
وأخيراً يحتاج المثقف العربي إلى إرادة طه حسين الحديدية وجرأته في اقتحام القضايا المتعلقة بالتقدم والعدالة، وقدرته على تفكيك البديهيات والمسلمات.

الناقد عبد الناصر حنفي:
«ابن لحظته وواقعه»
لا شك في أن جهود طه حسين كانت خطوة متقدمة ومطلوبة بشدة، في سياق إعادة بناء الثقافة المصرية وتحديد المسارات الرئيسية لعلاقتها بالعالم ورؤيتها لذاتها وللآخر. والأمر هنا لا يتوقف على ما كتبه أو ما حاول إتاحة تداوله من أفكار فحسب، إنما يمتد أيضاً لدوره الأكاديمي والحكومي في صناعة السياسة الثقافية المصرية.
لكن منجزه كان في النهاية مجرد خطوة تمهيدية لا قيمة لها بذاتها، إن لم تكن مقدمة لغيرها، ولا أعتقد أن هذه النقطة كانت غائبة عن رهانات طه حسين نفسه، بالنظر إلى حرصه على هدوء أفكاره (بل تقليم أظافرها إن لزم الأمر) وتدرج الإجراءات التي يقوم بها أو يدعو إليها، ولذلك سيبدو هذا «المفكر» الذي جمع بين سمات المثقف الأكاديمي ورجل الدولة، ابن لحظته وواقعه بصورة مفرطة، وهو واقع يتباعد عنا بسرعات فلكية منذ سبعينات القرن الماضي.

الكاتب حاتم رضوان:
«تجنب ثقافة النقل»
دعا طه حسين إلى تجديد الخطاب الثقافي، وعدم الانسياق وراء الأفكار والقوالب الجامدة والجاهزة، وتجنب ثقافة النقل. وكانت له آراء بخصوص الديمقراطية، أكد فيها أنها السبيل الوحيد إلى تحديث المجتمع وتحرير الوطن وتوحيد الأمة، وأن الديمقراطية والحرية عنصران أساسيان ومتلازمان لأي وجود إنساني. ونادى بتعلم وإتقان اللغات الأجنبية لمعرفة الآخر والانفتاح على الغرب المتحضر؛ لكي نكون أنداداً وشركاء له في الحضارة، وهو صاحب شعار «التعليم كالماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه». كما كانت لغته سابقة لعصرها تمتاز بالسلاسة والبعد عن التقعر والتعقيد.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.