عادت ستائر الخوف تنسدل مجدداً على أوروبا تحت وطأة موجة الوباء الثانية بعد أن بلغ معدّل الإصابات فيها 46 في المائة من المجموع العالمي، وعادت لتصبح مرة أخرى البؤرة الرئيسية لانتشار الفيروس، الذي ارتفع عدد الوفيّات الناجمة عن الإصابة به بسرعة كبيرة في الأيام الأخيرة الماضية، وتضاعف عدد الحالات التي تعالج في وحدات العناية الفائقة في المستشفيات الأوروبية خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة.
وبعد أن دفع هذا المشهد الوبائي الكارثي أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا)، إلى إعلان تدابير الإغلاق التام، بات من المحتوم أن تكرّ في الأيام المقبلة سبحة التدابير المماثلة في الدول الأخرى التي تحاول بكل الوسائل الممكنة تأخير قرارات الإقفال العام وتأجيل الكوارث المعلنة.
وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أعلنت إقفال المقاهي والمطاعم ودور السينما والمسارح والمسابح والمنشآت الرياضية اعتباراً من مطلع الأسبوع المقبل في جميع أنحاء البلاد، وذلك بعد أن وصل معدّل الإصابات فيها إلى 156 لكل 100 ألف مواطن. وتوجّهت ميركل إلى مواطنيها أمس قائلة: «إنه ليوم صعب جداً بالنسبة لي. أعرف أني أطلب إليكم القيام بتضحيات كبيرة، لكن الوقت يداهمنا وعلينا التحرّك بسرعة».
ومن جهته، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن مساء الأربعاء فرض الإقفال العام في جميع أنحاء البلاد اعتباراً من فجر اليوم (الجمعة)، ومنع المواطنين من مغادرة منازلهم إلا للذهاب إلى المدرسة أو الطبيب أو إلى العمل أو للمشتريات الضرورية. وقال ماكرون، الذي بلغ معدّل الإصابات في بلاده 660 إصابة لكل 100 ألف مواطن خلال الأسبوعين الماضيين: «واجبنا أن نقاوم، كلٌّ من موقعه، من غير جدل، وأن نوفّر الحماية للضعفاء بيننا».
وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان درلاين، قد أعلنت أن التدابير التي اتخذتها الدول خلال الربيع الماضي لاحتواء الموجة الأولى من الوباء قد رُفعت قبل موعدها بكثير، كاشفة أن اللقاح لن يوزَّع قبل أبريل (نيسان)، ومؤكدة بذلك ما قاله مدير الوكالة الأوروبية للأدوية بأن اللقاحات لن تنزل إلى الأسواق قبل الربيع، وأن الكميات اللازمة لتلقيح جميع الأوروبيين لن تتوفّر قبل نهاية العام المقبل.
وفيما كانت القوّتان الاقتصاديتان الأوليان في أوروبا تتراجعان أمام الزحف الشرس للوباء وتقرران الإقفال التام، اهتزّت أسواق المال في بلدان الاتحاد وسجّلت البورصات الأوروبية خسائر تزيد عن 370 مليار يورو في يوم واحد، أي نصف قيمة صندوق الإنعاش الذي أقره الاتحاد مؤخراً لمساعدة البلدان المتضررة من موجة الوباء الأولى.
وكانت الأيام المنصرمة قد شهدت اتصالات ومشاورات مكثّفة بين العواصم الأوروبية الكبرى، برلين وباريس وروما ومدريد، قبل الإعلان عن التدابير الفرنسية والألمانية، وتحضيراً للقمّة الموسّعة عبر الفيديو، مساء أمس (الخميس)، لمناقشة وتنسيق التدابير المقبلة في مواجهة الموجة الثانية لإبقاء الحدود الداخلية للاتحاد مفتوحة أمام حركة المواطنين والبضائع.
ولا تقتصر مخاوف السلطات الصحية الأوروبية على معدلات انتشار الوباء والارتفاع السريع في عدد الإصابات الجديدة، بل تتعداها لتشمل بشكل خاص تدنّي المعدّل العمري للإصابات الخطرة الذي أصبح دون 40 سنة في معظم بلدان الاتحاد، والعدد الإجمالي للوفيات اليومية الذي تجاوز عتبة الألف منذ مطلع هذا الأسبوع. وكان المستشار الصحي للمفوضية الأوروبية، بيتر بيوت، قد علّق على ما دعت إليه بعض الأوساط لقصر العزل على الفئات الضعيفة بهدف الوصول سريعاً إلى مناعة القطيع بين الشباب، بقوله: «من شأن ذلك أن يؤدي إلى وقوع ملايين الضحايا».
وكانت رئيسة المفوضية قد أعلنت أمس الخطوط العريضة والتوجيهات التي تتضمنها الاستراتيجية المشتركة الجديدة لمواجهة موجة الوباء الثانية، وطلبت إلى الشباب زيادة الفحوصات السريعة، معلنة عن تخصيص مبلغ 100 مليون يورو لشراء هذه الفحوصات وتوزيعها على الدول الأعضاء. كما طلبت إلى الحكومات فرض هذه الفحوصات في جميع مطارات الاتحاد لتحاشي إغلاق الحدود الداخلية.
لكن رغم كل هذه التدابير يبقى اللقاح هو رهان أوروبا الرئيسي في المعركة ضد الوباء. وقالت فون درلاين إنها تتوقع الموافقة النهائية لوكالة الأدوية الأوروبية على اللقاحات مطلع فبراير (شباط) المقبل، وأن يبدأ توزيعها على الدول الأعضاء بمعدّل 20 إلى 50 مليون جرعة شهرياً.
وفيما تستعدّ دول أوروبية أخرى، مثل إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا، لتحذو حذو فرنسا وألمانيا، وتحاول قدر الإمكان تأجيل قرار الإغلاق التام لتخفيف بعض الخسائر على اقتصاداتها المنهكة، من المنتظر أن تستلهم هذه الدول في استجاباتها للموجة الثانية نفس الاعتبارات التي استندت إليها الحكومتان الفرنسية والألمانية عند الإقدام على خطوة الإقفال التام رغم الفارق الملحوظ بين المشهد الوبائي في البلدين.
ويقول الخبراء إن الاعتبار الأول الذي دفع برلين وباريس إلى اتخاذ قرار الإقفال العام هو فشل تدابير تتبّع الإصابات، حيث قالت المستشارة الألمانية إن «75 في المائة من الإصابات لم يعد بإمكاننا أن نحدد مصدرها بقدر معقول من الدقة». وكان ماكرون قد أشار في كلمته إلى الفرنسيين، مساء الأربعاء، إلى أن «نظام التتبع فعّال عندما لا يتجاوز عدد الإصابات بضعة آلاف يومياً، أما الآن فلم يعد منه جدوى».
أما الاعتبار الثاني، وهو الذي يقضّ مضجع الجميع في أوروبا، فهو خطر انهيار المنظومة الصحية التي لن تعود قادرة على استيعاب الإصابات الجديدة والحالات الخطرة. وتتوقّع السلطات الفرنسية أن يصل عدد الحالات التي تستدعي العلاج في وحدات العناية الفائقة إلى 9 آلاف منتصف الشهر المقبل، فيما لا يزيد عدد الأسرة في هذه الوحدات عن 5 آلاف حالياً. ويقول خبراء أوروبيون إنه لا توجد دولة غربية واحدة قادرة على مواجهة موجة وبائية كهذه، وإنه حتى ألمانيا التي يزيد عدد أسرة العناية الفائقة فيها عن 30 ألفاً لم تعد قادرة على استقبال أكثر من 7500 حالة في الوقت الراهن.
ويضيف الرئيس الفرنسي اعتباراً أخلاقيّاً إلى الاعتبارات الصحية لتسويغ قراره، فيقول: «حتى في حال زيادة عدد أسرة العناية الفائقة كما نفعل حالياً، من منّا يريد أن يدفع بالآلاف من مواطنينا للعلاج أسابيع في العناية الفائقة مع ما ينجم عنها من أضرار صحيّة؟».
وفيما نبّهت منظمة الصحة العالمية إلى أن الإصابات الجديدة في أوروبا قد ارتفعت بنسبة 33 في المائة خلال الأسبوع الماضي، وأن الضغط على المنظومات الصحية في بلدان مثل إيطاليا وهولندا وبلجيكا والمملكة المتحدة قد بلغ مستويات الإنذار الأحمر، رجّح الخبراء أن يكون هذا الارتفاع السريع في الإصابات الأوروبية منذ مطلع الشهر الحالي نتيجة مباشرة لموجة البرد القارس التي ضربت مناطق واسعة من أوروبا حيث انخفضت درجات الحرارة من 15 إلى 20 درجة مئوية بين ليلة وضحاها.
فرنسا وألمانيا تفتحان الباب لعزل أوروبا
بعدما عادت القارة بؤرة للوباء بـ46 % من الإصابات العالمية
فرنسا وألمانيا تفتحان الباب لعزل أوروبا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة