رسائل فان غوخ التي «تُعقّد صورته»

على الرغم من شخصيته الآسرة كان إنساناً يصعب العيش معه

لوحة «حقل قمح مع غربان»
لوحة «حقل قمح مع غربان»
TT

رسائل فان غوخ التي «تُعقّد صورته»

لوحة «حقل قمح مع غربان»
لوحة «حقل قمح مع غربان»

ابتداءً بفيلم «الكرب والنشوة» حيث قام تشارلتون هيستون بدور مايكل أنجلو، وحتى فيلم «بولوك» الذي قام ببطولته إد هاريس، ظلت أفلام هوليوود عن حياة الفنانين المعذبين تُرضي ذائقة الجمهور، ولم يحقق أحد قدراً من الاهتمام أعلى مما حققه فان غوخ.
في عام 1956 رسّخ كِرك دوغلاس في فيلم «شبق للحياة» الصورة الشائعة للفنان الهولندي: العبقرية المعذبة وهي عاجزة في قبضة رؤية لم يستطع أحد آخر تصورها. الشبه بين ملامح دوغلاس وفان غوخ ثبّتت شكل الفنان في الثقافة الشعبية وصار من الممكن القول إن الناس اليوم بمعرفة عامة للفن يستطيعون أن يميّزوا فان غوخ بالنظر إلى إحدى لوحاته الذاتية، متخيلينه ذلك الفنان المجنون الذي قطع أذنه.
لكن الرجل الحقيقي كان أكثر تعقيداً من ذلك. كان ابناً لقِسٍّ محترم، ومثقفاً يتحدث ثلاث لغات بطلاقة. بدأ حياته الفنية سمساراً للأعمال الفنية. وأشعت شخصيته في رسائله التي كان جزءاً منها يُنشر بعد موته بعامين في يوليو (تموز) 1890، موته الذي يُظَن على نطاق واسع أنه كان انتحاراً.
على الرغم من شخصيته الآسرة، كان فان غوخ إنساناً يصعب العيش معه، وفي مظهره انعكاس للاضطراب في داخله. كتب محررا الكتاب: «كانت في وجهه رعشة، وبدت يداه في حركة دائبة. كان الناس يخشونه بسبب مظهره المتوحش والأشعث وبسبب طريقته المتوترة عندما يتكلم». قد يعود المظهر الوحشي الأشعث إلى فقره ليس إلا، ولكن ليس ثمة شك في أن قناعة فان غوخ أنه كان دائماً على حق جعلته مزعجاً مثل ابن عم نصف ثمل يعلن آراءً لا تقبل النقاش على مائدة عيد الشكر. كان أخوه الأصغر (ثيو) يفعل المعجزات لإعالته ولا شك أنه حين مات صعد إلى مكانة عالية على يمين الإله لأنه قاوم إغراءات خنق الرسام في مناسبات عديدة.
كتب كينيث ريكسروث أن «مراسلات الفنانين والمثاليين الكبار في تاريخ الإنسان الغربي تدور في الغالب حول المال»، وفان غوخ أحد أولئك. حتى في هذه المختارات الموجزة من رسائله يمثل المال، أو الافتقار إليه، انشغالاً دائماً. «آه يا ثيو»، يكتب عام 1883 من لاهاي: «يمكنني أن أنجز الكثير لو كانت أنحو أفضل قليلاً». ومن الأحلام المتكررة طوال المراسلات انتقال إلى الريف أو، إن كان في الريف، إلى منطقة ريفية أخرى حيث سيكون الاستديو أقل كلفة والطعام مغذياً ورخيصاً.
ولكن على الرغم من أحلام كهذه، احتاج فان غوخ إلى رفقة فنانين آخرين، حتى إن كان ذلك لمجادلتهم، وتتوهج المراسلات بشكل خاص عام 1886 حين انضم إلى أخيه في باريس. كتب لفنان إنجليزي صديق له: «هناك باريس واحدة، ومهما تكن الحياة صعبة هنا وحتى إن صارت أسوأ وأصعب –فإن الهواء الفرنسي ينقّي المخ ويترك أثراً طيباً– عالم من الطيبة».
تحت تأثير الانطباعيين الذين رأى أعمالهم في باريس، تخلى فان غوخ عن الألوان الأرضية التي شاعت لدى الفنانين الهولنديين المتأثرين بمدرسة باربيزون والذين أثّروا فيه عند بداياته مفضلاً الألوان البراقة التي نربطها الآن بأعماله. بزياراته لاستديوهات رسامين مثل غوغان وسيورات وإيميل بيرنارد، تبوأ فان غوخ موقعه بين الطليعة المتطرفة، مع أنه كان أكثر استقلالية من أن يكون جزءاً من مجموعة منظمة. بحلول 1888، حين ترك باريس إلى آرل جنوب فرنسا باحثاً عن الضوء والإقامة الأرخص، تبين له أنه واحد من قادة جيله في الفنون.
جلب صيف وخريف عام 1888 روائع فان غوخ التي اشتهر بها اليوم. رسائله إلى غوغان أقنعت الفنان أخيراً بأن ينضم إليه، لكن انهيار فان غوخ نهاية ذلك العام حمله إلى مصحة. كان وراء ذلك الانهيار على الأرجح عدة أسباب: الطعام السيئ وسوء التغذية، ونوبات خفيفة تشبه الصَّرَع، وآثار أمراض جنسية انتقلت إليه عبر السنين، وطبيعته العصبية أساساً. بعد تسعة أشهر في المصحة كتب إلى ثيو بخفة دم لم تُعهد عنه: «أحاول أن أتحسن الآن مثل شخص أراد الانتحار وحين اكتشف أن الماء بارد عاد إلى ضفة النهر مرة أخرى». بعد أقل من سنة من كتابة تلك الرسالة خرج من المصحة وأقام في قرية صغيرة إلى الشمال حيث انتهت معاناته.
المسدس الذي يكسوه الصدأ الآن والذي استخدمه فان غوخ ليطلق النار على نفسه جرى بيعه في باريس منذ شهرين بأكثر من 180 ألف دولار، يشير إلى افتتاننا المستمر بالفنان. إن زيارة لأي متحف اليوم ستنتج وفرة من الأشياء التي كان فان غوخ ملهماً لها، من مناشير المنحنيات والدُّمى إلى أكواب القهوة وربطات العنق الحريرية. إنها الشعبية الهائلة لفن فان غوخ تلك التي تشعل رغبتنا بأن نكون على صلة بذلك الرجل الذي لا يزال يتحدث بلغة رفيعة في هذه الرسائل.

* ترجمة مراجعة كتبها ريغان أبشو ونشرها في {واشنطن بوست} لكتاب «حياة في رسائل»
تحرير ناينكي باكر، وليو جانسن، وهانز لويجتن



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.