«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

{سيلفي} المتطرفين.. صورة من العصور الوسطى بتقنية القرن الواحد والعشرين

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية
TT

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

بخلفية سينمائية، يمتزج فيها لون الأفق الأزرق الباهت بحد أفق آخر من الأرض الجرداء، يبدأ فيديو «داعش» الأحدث على مستوى الإنتاج المصور للتنظيم، والأكثر حداثة على مستوى محتوى الصورة من كثافة الرمزيات التي حواها التسجيل الذي يستمر لمدة 3 دقائق.
يلفت النظر في المقطع المصور، اعتماده تقنيات سينمائية ليس لتحسين الصورة فحسب، بل لتعميق المحتوى «الرسالي» في صورة كثيفة الترميزات المتلاحقة، مع خلفيات صوتية تختلط باحترافية، تميل للمدرسة «الواقعية».

تتداخل في الفيديو أصوات رياح آتية من بعيد مع صوت احتكاك «سكاكين الذبح» مع بعضها حين يخرجها مقاتلو «داعش» من الصندوق استعدادا لنحر الرهائن، مع خلفية خطابية ذات مضامين بربرية تنتهي بجملة «فاعلموا أن لنا جيشا (..) شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء».
على مستوى الصورة، يدير التسجيل حواران بصريان مع المشاهد على درجتين مختلفتين. المستوى الأول، يكون بين مقاتلي التنظيم الوحشي والمشاهد وهم يجرّون الرهائن «الغربيين» وينظرون إلى الكاميرا ويستلون «سكاكينهم» الحربية. فيما يظهر المستوى الثاني بين الرهائن الذين ستكون نظرتهم الغائمة للكاميرا، هي آخر ما سيراه المشاهدون من أسرار في عيونهم.
يستمر المشهد في تراتبية متمهلة حول خطوات «الذبح» التي ستحدث لاحقا، مع إصرار التنظيم على إظهار ملامح الإرهابيين، التي بدا أن أبرز رسائلها، هو اختلاف الأعراق التي ظهرت في الفيديو في تأكيد على عالمية التنظيم الدموي.
«أنساء الأشلاء» ينهون تسجيلهم، بإحالة الرهائن إلى كتلة من الجثث والجماجم المتراصفة، يسيل منها جدول صغير من الدماء.
أي معنى تطلقه الصورة؟
بعيدا عن الأسئلة التقنية، من الصعب أن يدير المراقب ظهره للدلالات الرمزية لمحتوى الصورة القادمة من مجاهيل التاريخ لتحتل نشرات أخبار القرن الواحد والعشرين. فأي معنى تطلقه الصورة؟ وما هي الأطراف التي تتداخل فيها؟ وثم سؤال أخير، أي سلطة للصورة؟ هذه الأبعاد الثلاثة التي أفرد مبحثا كاملا لها ريجيس دوبري، المفكر الفرنسي الشهير في كتابه «حياة الصورة وموتها».
وينبه فيه دوبري، وهو الذي يرأس حاليا «دفاتر الوسائطية، الرائدة في مجال تحليل الوسائط وآلياتها الثقافية» إلى أن «المعارك الكبرى التي دارت حول الصورة تدور حول هذه الأبعاد الثلاثة. لهذا رمت بالرهبان والصناع والجنود معا في حلبة المصارعة القاتلة. فالصورة المصنوعة هي في الآن نفسه منتوج ووسيلة عمل ودلالة».
على ذات النسق، يشرح حسن الحريري، الباحث المغربي المتخصص في المنطق وتاريخ العلوم، تأثير الفروقات بين قراءة النص المكتوب و«قراءة الصورة» على المتلقي.
ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مسار القراءة في النص موجه من طرف الكاتب، رغم أن كل قارئ يحافظ دائما على إمكانية (القفز) على كلمات، أو جمل أو فقرات، في حين أن مسار قراءة صورة ما، يكون بالأساس من إنتاج الذات الملاحظة (المشاهد)».
ويزيد الحريري «فالخطاب البصري لا يخضع لقواعد تركيبية صارمة، إضافة إلى أن عناصره تُدْرك بشكل متزامن، الأمر الذي يعني أن الصورة خطاب تركيبي لا يقبل التقطيع إلى عناصر صغرى مستقلة، بحيث إنها كتلة تختزن في بنياتها دلالات لا تتجزأ. فإذا كانت العلامة اللسانية تقوم على الاعتباط والمواضعة فإن الصورة تقوم على التعليل والمشابهة وتتسم الصورة (بالتعدد الدلالي) أي أنها تقدم للمشاهد عددا كبيرا من المدلولات لا ينتقي إلا بعضها ويهمل البعض الآخر».
الصورة الحديثة ومفاهيمها اليوم تتداخل فيها الوسائط التقنية مع الوسط الاجتماعي الذي يعيد إنتاجها مستفيدا من سهولة توفر تكنولوجيا صناعة «الصورة» ولكنه بالطبع يقدمها في صيغ متوائمة مع منتجه الفكري والثقافي.
يشير الحريري إلى أن الصور والتسجيلات التي يبثها «داعش» تعتبر «دليلا رمزيا على خراب المعنى وإفلاس منظومة القيم التي تؤطر فكرهم وعملهم على حد سواء. فإذا حاولنا أن نقرأ مشاهد الصور التي يبثونها نلاحظ أنها تعيد استنساخ ذاتها ولا تخرج عن ذروة ممارسة العنف بكل سادية ممكنة: قطع الأعناق، تقطيع الجثث، العمليات الانتحارية، التفجير والترويع، الخطف والتعذيب، التصفية والاستئصال والتهديد، أمام أشخاص عزل مجردين من كل الوسائل الممكنة للدفاع عن أنفسهم أو أمام مقرات رسمية ومدنية. نحن أمام آلة لإنتاج الخرائب تدعى داعش».
الصورة من التحريم إلى «السيلفي»
العام المنصرم، شهد صرعة ما عرف بـ«السيلفي». وهي الصورة التي تلتقط بالكاميرا الأمامية للهواتف الذكية لتخليد لحظة معينة دون الاستعانة بمصور مستقل. تدحرجت الفكرة من «سيلفي» مشاهير الممثلين العالميين في حفل توزيع جوائز الأوسكار، إلى لاعبي كرة القدم، إلى فئات المجتمع المختلفة، حتى وصلت هذه الموضة إلى مرابع داعش، المتصلة بالعالم الحديث بتقنياته لا بقيمه الإنسانية.
وتواترت على مواقع «التواصل الاجتماعي» صور «سيلفي» لمقاتلي «داعش» وهم يستعدون لمعركة، أو وهم يلتقطون صورا مع جثث ضحايا بربريتهم.
ولكن كيف عبر جدل الصورة «الديني» من التحريم إلا في حالة الضرورة، إلى تحليله من قبل جماعات العنف المسلح الأكثر راديكالية وأصولية؟
يجيب فهد الشافي، الباحث السعودي في الإسلاميات في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «المدرسة السلفية كان لها موقفها الصارم من التصوير إلا في حالات الضرورة، لكن الملاحظ أن الحركات الجهادية كان من الأساس لديهم استعانة برؤية فقهية أوسع في الجانب المتعلق بالصورة. فمن المعروف أن حقبة (الجهاد الأفغاني) الأولى كانت معسكرات بن لادن المتقاطعة مع الأدبيات الإخوانية تشترط على المنتسبين لها التقاط الصور لهم، فضلا عن أن كتب عبد الله عزام المنظر الأبرز كانت تحوي صورا. على أي حال، هذه أحد المآخذ التي أخذها بعض أقطاب السلفية على بعض الحركات الجهادية».
ويزيد الشافي «من ناحية التحقيق التاريخي الذي يتناول هذا النوع من جماعات العنف الديني، يلاحظ بسهولة أنها متجاوزة للعقدة (الإسلامية الحركية) للتعاطي مع الإعلام المرئي. بل أخذ هذا الجانب يتطور من جيل لآخر لإيصال رسائلهم على أكثر من مستوى».
يرى الصحافي الأميركي روبرت كابلن، في كتابه الصادر في عام 2002 تحت عنوان «المحارب السياسي» أن ثورة المعلومات ليست بالضرورة ستقود إلى واحات من الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير بمفهومها الوردي، وقال في حينه، إنه من المتوقع أن القدرة على استخدام الإنترنت من خلال أجهزة الكومبيوتر وأجهزة الجوال ستزيد من 2.5 في المائة بين السكان في العالم حاليا إلى 30 في المائة بحلول 2010. ولكن لا يزال الـ70 في المائة الباقون غير متصلين بهذه البيانات ونحو النصف لم يقوموا بمكالمة تليفونية، وسيكون مقدار التفاوت كبيرا. «فيما سيتمتع الإرهاب الناشئ من هذا التفاوت بموارد تقنية غير مسبوقة».
ويزيد كابلن في سرد ملامح تطابق تاريخية بين كل الحقب الزمنية التي شهدت ثورات الوسائط المعلوماتية من اختراع آلة الطباعة المتحركة إلى عصر الإنترنت «لن يشجع انتشار المعلومات الاستقرار بالضرورة. كما لم يؤد اختراع يوهانيس غوتنبيرغ للطباعة المتحركة في منتصف القرن الـ15 إلى الإصلاح فحسب، ولكنه أدى لاندلاع الحروب الدينية التي تلته، لأن الانتشار المفاجئ للنصوص شجع الخلافات المذهبية وأيقظ مظالم كانت هاجعة لفترة طويلة. ولن يؤدي انتشار المعلومات خلال العقود القادمة إلى ظهور تفاهمات ومواثيق اجتماعية جديدة فحسب، ولكنه سوف يؤدي إلى حدوث انقسامات جديدة مع اكتشاف الناس لمسائل جديدة ومعقدة يمكنهم الاختلاف عليها. وأنا أركز على الجانب المظلم لكل تطور ليس لأن المستقبل سوف يكون سيئا بالضرورة، ولكن لأن هذا ما كانت تدور حوله الأزمات السياسية الخارجية دائما».
بالعودة للشافي، يستعرض مستويات تأثير مختلفة عملت عليها الجماعات «الجهادية» الدينية في استخدام «الإعلام» بكل تمظهراته من النص إلى الصورة، ويقول: «جماعات العنف من الأساس ذات حجم صغير، لذلك يركزون على الوصول للقواعد الشعبية الجماهيرية بأكثر من طريقة وأكثر من مستوى».
ويضيف «المستوى الأول من حيث المضمون يرغب في توجيه رسالة واضحة للمختلفين معهم عن حجم الرعب الذي سيحملونه معهم حين وصولهم للخصوم، والثاني يستلزم عودة للماضي القريب، لحظة ظهور الفضائيات، وهي لحظة فاصلة في تعاطي هذا النوع من الحركات مع القواعد الجماهيرية، خصوصا أن بعض هذه الفضائيات غازلت هذه التيارات، وتبنت إظهار بعضهم مثل قناة (الجزيرة) القطرية، التي أظهرت الشخصيات الأكثر راديكالية من مفكري هذه الجماعات مثل أبو قتادة والفزاري. المستوى الثالث كان ظهور الإنترنت والمنتديات، ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعية، الأحدث على الساحة، التي كانت وما زالت أرضا خصبة للتجنيد من كل بقاع العالم، حتى أن أحد الأئمة الفرنسيين أشار إلى أن هذه الجماعات باتت من الاحترافية بأن تركز على استقطاب أبناء المهجر ممن يعانون قلقا في الهوية أو المسلمين حديثا، ويرغبون التعمق في فهم أمور دينهم، فتتلقفهم الأذرع الإلكترونية لهذه التنظيمات».
النظرية الإعلامية في فهم رمزيات «الصورة»
توظيف الصور بقصد صناعة تأثير محدد هو وجه من وجوه (البروباغندا) أو الدعاية، وصنفها الباحثون في مجال الاتصال كأحد الأساليب الاتصالية المتنوعة لتحقيق عملية التحول في التصورات حول العدو أو المعارضة، وبناء تصورات جديدة، وشاع استخدامها بشكل جلي في حالة الصراعات والحروب الكبرى، ومنها أخيرا، حرب المجتمع الدولي على تنظيم «داعش» في صيغة متبادلة.
في هذا السياق، يوضح زيد الشكري، المتخصص في الصحافة ووسائل الاتصال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في حالة الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش، فإن ما يقوم به هو التوسل في الحصول على القوة من خلال الدعاية، وتحديدا توظيف ما يسميه أحد أشهر علماء الاتصال في مجال الدعاية هارولد لازول بـ(الرموز الجماعية)، وهو توظيف للرموز التي تكون عادة ذات ارتباط مع مشاعر قوية، وتمتلك القدرة على تحفيز العمل الجماعي على نطاق واسع على مدى أشهر وأحيانا أعوام من خلال استخدام كل وسائل الاتصال المتاحة. واستخدام هذه الرموز لا يبعث لدينا شعورا يكون وليد اللحظة التي نراها فيها، بل هو نتيجة سياق طويل ابتدأ في الماضي ومورس فيه تكثيف للدلالات والإيحاءات التي تتجدد كلما نراها. وتتعزز دلالات هذه الصور أكثر كلما صاحبها خلفيات أخرى، كالموسيقى المصاحبة، أو التعليق، وأشكال الإنتاج الأخرى».
ولكن على ماذا تتغذى «حروب الدعاية» المعولمة هذه؟ يجيب الشكري «منافذ الظهور والاتصال بالجمهور باتت متنوعة، ومفتوحة في عصر الإنترنت، كما أن أدوات الإنتاج باتت في متناول الجميع، ولم تعد مكلفة كما كان الأمر في الماضي، لذا وجدت الجماعات المتطرفة لنفسها في هذا الفضاء موقعا مثاليا للترويج لدعايتها وشن الحرب على خصومها، ومن هذه المواقع قد تحقق تأثيرا في حرب الكلمات والصور، كما أشار إلى ذلك أحد كبار مستشاري وزارة الخارجية الأميركية وأحد مؤسسي مركز الاتصال الاستراتيجي المناهض للإرهاب ويليام ماكنتس عندما قال بأن (داعش يتقدم على الولايات المتحدة على هذا الصعيد)» ولافتا إلى أن هذه المجموعة «أتقنت بشكل لافت نشر دعايتها منذ وقت طويل على شبكة الإنترنت». وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن تقويض دعاية مثل هذه المجموعات الإرهابية خارج الميدان الذي تنشط وتتحرك فيه، وهو مأخذ سجله كثير من المراقبين على إدارة أوباما في حربها الإعلامية ضد الإرهاب، وهو النقد الذي ينسحب على بقية حكومات المجتمع الدولي بالمناسبة، إذ في الوقت الذي تنشط فيه هذه المجموعات المتطرفة من خلال بث دعايتها عبر وسائط الإعلام الجديد، يكتفي المجتمع الدولي بالمقاومة عبر المنصات التقليدية من خلال الخطب والمؤتمرات الصحافية ووسائل تقليدية الأخرى.
الباحثون والمختصون الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» أجمعوا على أنه يجب التنبه إلى أن البيئة الجغرافية التي ينشط فيها داعش على الأرض، هي بالأساس منطقة تحظى بنسب تعليم عالية (العراق - سوريا)، فضلا عن الشبان الغربيين الذين ينضمون إليهم بخبراتهم السابقة والمتنوعة.
ربما من المهم في هذا السياق، الإشارة إلى ملاحظة مسؤول الإعلام الرقمي السابق بجامعة كولومبيا الأميركية «سري سرينفاجن» عندما قال لشبكة «إن بي سي» الإخبارية في معرض حديثه عن نشاط دعاية داعش بـ«أن توثيق مشاهد حز الرؤوس ليس منتجا خاصا بداعش، بل سبقتها جماعات إرهابية أخرى، لكن الجديد في دعاية داعش هو أنه أتقن نشر هذه المقاطع في شكل غير مسبوق كليا عبر أدوات الإعلام الجديد، الأمر الذي مكنه من التأثير على خارج محيطه لا سيما المجتمعات الغربية، وضم عددا من هذه الدول للقتال في صفوفه»، على حد قوله.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».