«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

{سيلفي} المتطرفين.. صورة من العصور الوسطى بتقنية القرن الواحد والعشرين

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية
TT

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

بخلفية سينمائية، يمتزج فيها لون الأفق الأزرق الباهت بحد أفق آخر من الأرض الجرداء، يبدأ فيديو «داعش» الأحدث على مستوى الإنتاج المصور للتنظيم، والأكثر حداثة على مستوى محتوى الصورة من كثافة الرمزيات التي حواها التسجيل الذي يستمر لمدة 3 دقائق.
يلفت النظر في المقطع المصور، اعتماده تقنيات سينمائية ليس لتحسين الصورة فحسب، بل لتعميق المحتوى «الرسالي» في صورة كثيفة الترميزات المتلاحقة، مع خلفيات صوتية تختلط باحترافية، تميل للمدرسة «الواقعية».

تتداخل في الفيديو أصوات رياح آتية من بعيد مع صوت احتكاك «سكاكين الذبح» مع بعضها حين يخرجها مقاتلو «داعش» من الصندوق استعدادا لنحر الرهائن، مع خلفية خطابية ذات مضامين بربرية تنتهي بجملة «فاعلموا أن لنا جيشا (..) شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء».
على مستوى الصورة، يدير التسجيل حواران بصريان مع المشاهد على درجتين مختلفتين. المستوى الأول، يكون بين مقاتلي التنظيم الوحشي والمشاهد وهم يجرّون الرهائن «الغربيين» وينظرون إلى الكاميرا ويستلون «سكاكينهم» الحربية. فيما يظهر المستوى الثاني بين الرهائن الذين ستكون نظرتهم الغائمة للكاميرا، هي آخر ما سيراه المشاهدون من أسرار في عيونهم.
يستمر المشهد في تراتبية متمهلة حول خطوات «الذبح» التي ستحدث لاحقا، مع إصرار التنظيم على إظهار ملامح الإرهابيين، التي بدا أن أبرز رسائلها، هو اختلاف الأعراق التي ظهرت في الفيديو في تأكيد على عالمية التنظيم الدموي.
«أنساء الأشلاء» ينهون تسجيلهم، بإحالة الرهائن إلى كتلة من الجثث والجماجم المتراصفة، يسيل منها جدول صغير من الدماء.
أي معنى تطلقه الصورة؟
بعيدا عن الأسئلة التقنية، من الصعب أن يدير المراقب ظهره للدلالات الرمزية لمحتوى الصورة القادمة من مجاهيل التاريخ لتحتل نشرات أخبار القرن الواحد والعشرين. فأي معنى تطلقه الصورة؟ وما هي الأطراف التي تتداخل فيها؟ وثم سؤال أخير، أي سلطة للصورة؟ هذه الأبعاد الثلاثة التي أفرد مبحثا كاملا لها ريجيس دوبري، المفكر الفرنسي الشهير في كتابه «حياة الصورة وموتها».
وينبه فيه دوبري، وهو الذي يرأس حاليا «دفاتر الوسائطية، الرائدة في مجال تحليل الوسائط وآلياتها الثقافية» إلى أن «المعارك الكبرى التي دارت حول الصورة تدور حول هذه الأبعاد الثلاثة. لهذا رمت بالرهبان والصناع والجنود معا في حلبة المصارعة القاتلة. فالصورة المصنوعة هي في الآن نفسه منتوج ووسيلة عمل ودلالة».
على ذات النسق، يشرح حسن الحريري، الباحث المغربي المتخصص في المنطق وتاريخ العلوم، تأثير الفروقات بين قراءة النص المكتوب و«قراءة الصورة» على المتلقي.
ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مسار القراءة في النص موجه من طرف الكاتب، رغم أن كل قارئ يحافظ دائما على إمكانية (القفز) على كلمات، أو جمل أو فقرات، في حين أن مسار قراءة صورة ما، يكون بالأساس من إنتاج الذات الملاحظة (المشاهد)».
ويزيد الحريري «فالخطاب البصري لا يخضع لقواعد تركيبية صارمة، إضافة إلى أن عناصره تُدْرك بشكل متزامن، الأمر الذي يعني أن الصورة خطاب تركيبي لا يقبل التقطيع إلى عناصر صغرى مستقلة، بحيث إنها كتلة تختزن في بنياتها دلالات لا تتجزأ. فإذا كانت العلامة اللسانية تقوم على الاعتباط والمواضعة فإن الصورة تقوم على التعليل والمشابهة وتتسم الصورة (بالتعدد الدلالي) أي أنها تقدم للمشاهد عددا كبيرا من المدلولات لا ينتقي إلا بعضها ويهمل البعض الآخر».
الصورة الحديثة ومفاهيمها اليوم تتداخل فيها الوسائط التقنية مع الوسط الاجتماعي الذي يعيد إنتاجها مستفيدا من سهولة توفر تكنولوجيا صناعة «الصورة» ولكنه بالطبع يقدمها في صيغ متوائمة مع منتجه الفكري والثقافي.
يشير الحريري إلى أن الصور والتسجيلات التي يبثها «داعش» تعتبر «دليلا رمزيا على خراب المعنى وإفلاس منظومة القيم التي تؤطر فكرهم وعملهم على حد سواء. فإذا حاولنا أن نقرأ مشاهد الصور التي يبثونها نلاحظ أنها تعيد استنساخ ذاتها ولا تخرج عن ذروة ممارسة العنف بكل سادية ممكنة: قطع الأعناق، تقطيع الجثث، العمليات الانتحارية، التفجير والترويع، الخطف والتعذيب، التصفية والاستئصال والتهديد، أمام أشخاص عزل مجردين من كل الوسائل الممكنة للدفاع عن أنفسهم أو أمام مقرات رسمية ومدنية. نحن أمام آلة لإنتاج الخرائب تدعى داعش».
الصورة من التحريم إلى «السيلفي»
العام المنصرم، شهد صرعة ما عرف بـ«السيلفي». وهي الصورة التي تلتقط بالكاميرا الأمامية للهواتف الذكية لتخليد لحظة معينة دون الاستعانة بمصور مستقل. تدحرجت الفكرة من «سيلفي» مشاهير الممثلين العالميين في حفل توزيع جوائز الأوسكار، إلى لاعبي كرة القدم، إلى فئات المجتمع المختلفة، حتى وصلت هذه الموضة إلى مرابع داعش، المتصلة بالعالم الحديث بتقنياته لا بقيمه الإنسانية.
وتواترت على مواقع «التواصل الاجتماعي» صور «سيلفي» لمقاتلي «داعش» وهم يستعدون لمعركة، أو وهم يلتقطون صورا مع جثث ضحايا بربريتهم.
ولكن كيف عبر جدل الصورة «الديني» من التحريم إلا في حالة الضرورة، إلى تحليله من قبل جماعات العنف المسلح الأكثر راديكالية وأصولية؟
يجيب فهد الشافي، الباحث السعودي في الإسلاميات في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «المدرسة السلفية كان لها موقفها الصارم من التصوير إلا في حالات الضرورة، لكن الملاحظ أن الحركات الجهادية كان من الأساس لديهم استعانة برؤية فقهية أوسع في الجانب المتعلق بالصورة. فمن المعروف أن حقبة (الجهاد الأفغاني) الأولى كانت معسكرات بن لادن المتقاطعة مع الأدبيات الإخوانية تشترط على المنتسبين لها التقاط الصور لهم، فضلا عن أن كتب عبد الله عزام المنظر الأبرز كانت تحوي صورا. على أي حال، هذه أحد المآخذ التي أخذها بعض أقطاب السلفية على بعض الحركات الجهادية».
ويزيد الشافي «من ناحية التحقيق التاريخي الذي يتناول هذا النوع من جماعات العنف الديني، يلاحظ بسهولة أنها متجاوزة للعقدة (الإسلامية الحركية) للتعاطي مع الإعلام المرئي. بل أخذ هذا الجانب يتطور من جيل لآخر لإيصال رسائلهم على أكثر من مستوى».
يرى الصحافي الأميركي روبرت كابلن، في كتابه الصادر في عام 2002 تحت عنوان «المحارب السياسي» أن ثورة المعلومات ليست بالضرورة ستقود إلى واحات من الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير بمفهومها الوردي، وقال في حينه، إنه من المتوقع أن القدرة على استخدام الإنترنت من خلال أجهزة الكومبيوتر وأجهزة الجوال ستزيد من 2.5 في المائة بين السكان في العالم حاليا إلى 30 في المائة بحلول 2010. ولكن لا يزال الـ70 في المائة الباقون غير متصلين بهذه البيانات ونحو النصف لم يقوموا بمكالمة تليفونية، وسيكون مقدار التفاوت كبيرا. «فيما سيتمتع الإرهاب الناشئ من هذا التفاوت بموارد تقنية غير مسبوقة».
ويزيد كابلن في سرد ملامح تطابق تاريخية بين كل الحقب الزمنية التي شهدت ثورات الوسائط المعلوماتية من اختراع آلة الطباعة المتحركة إلى عصر الإنترنت «لن يشجع انتشار المعلومات الاستقرار بالضرورة. كما لم يؤد اختراع يوهانيس غوتنبيرغ للطباعة المتحركة في منتصف القرن الـ15 إلى الإصلاح فحسب، ولكنه أدى لاندلاع الحروب الدينية التي تلته، لأن الانتشار المفاجئ للنصوص شجع الخلافات المذهبية وأيقظ مظالم كانت هاجعة لفترة طويلة. ولن يؤدي انتشار المعلومات خلال العقود القادمة إلى ظهور تفاهمات ومواثيق اجتماعية جديدة فحسب، ولكنه سوف يؤدي إلى حدوث انقسامات جديدة مع اكتشاف الناس لمسائل جديدة ومعقدة يمكنهم الاختلاف عليها. وأنا أركز على الجانب المظلم لكل تطور ليس لأن المستقبل سوف يكون سيئا بالضرورة، ولكن لأن هذا ما كانت تدور حوله الأزمات السياسية الخارجية دائما».
بالعودة للشافي، يستعرض مستويات تأثير مختلفة عملت عليها الجماعات «الجهادية» الدينية في استخدام «الإعلام» بكل تمظهراته من النص إلى الصورة، ويقول: «جماعات العنف من الأساس ذات حجم صغير، لذلك يركزون على الوصول للقواعد الشعبية الجماهيرية بأكثر من طريقة وأكثر من مستوى».
ويضيف «المستوى الأول من حيث المضمون يرغب في توجيه رسالة واضحة للمختلفين معهم عن حجم الرعب الذي سيحملونه معهم حين وصولهم للخصوم، والثاني يستلزم عودة للماضي القريب، لحظة ظهور الفضائيات، وهي لحظة فاصلة في تعاطي هذا النوع من الحركات مع القواعد الجماهيرية، خصوصا أن بعض هذه الفضائيات غازلت هذه التيارات، وتبنت إظهار بعضهم مثل قناة (الجزيرة) القطرية، التي أظهرت الشخصيات الأكثر راديكالية من مفكري هذه الجماعات مثل أبو قتادة والفزاري. المستوى الثالث كان ظهور الإنترنت والمنتديات، ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعية، الأحدث على الساحة، التي كانت وما زالت أرضا خصبة للتجنيد من كل بقاع العالم، حتى أن أحد الأئمة الفرنسيين أشار إلى أن هذه الجماعات باتت من الاحترافية بأن تركز على استقطاب أبناء المهجر ممن يعانون قلقا في الهوية أو المسلمين حديثا، ويرغبون التعمق في فهم أمور دينهم، فتتلقفهم الأذرع الإلكترونية لهذه التنظيمات».
النظرية الإعلامية في فهم رمزيات «الصورة»
توظيف الصور بقصد صناعة تأثير محدد هو وجه من وجوه (البروباغندا) أو الدعاية، وصنفها الباحثون في مجال الاتصال كأحد الأساليب الاتصالية المتنوعة لتحقيق عملية التحول في التصورات حول العدو أو المعارضة، وبناء تصورات جديدة، وشاع استخدامها بشكل جلي في حالة الصراعات والحروب الكبرى، ومنها أخيرا، حرب المجتمع الدولي على تنظيم «داعش» في صيغة متبادلة.
في هذا السياق، يوضح زيد الشكري، المتخصص في الصحافة ووسائل الاتصال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في حالة الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش، فإن ما يقوم به هو التوسل في الحصول على القوة من خلال الدعاية، وتحديدا توظيف ما يسميه أحد أشهر علماء الاتصال في مجال الدعاية هارولد لازول بـ(الرموز الجماعية)، وهو توظيف للرموز التي تكون عادة ذات ارتباط مع مشاعر قوية، وتمتلك القدرة على تحفيز العمل الجماعي على نطاق واسع على مدى أشهر وأحيانا أعوام من خلال استخدام كل وسائل الاتصال المتاحة. واستخدام هذه الرموز لا يبعث لدينا شعورا يكون وليد اللحظة التي نراها فيها، بل هو نتيجة سياق طويل ابتدأ في الماضي ومورس فيه تكثيف للدلالات والإيحاءات التي تتجدد كلما نراها. وتتعزز دلالات هذه الصور أكثر كلما صاحبها خلفيات أخرى، كالموسيقى المصاحبة، أو التعليق، وأشكال الإنتاج الأخرى».
ولكن على ماذا تتغذى «حروب الدعاية» المعولمة هذه؟ يجيب الشكري «منافذ الظهور والاتصال بالجمهور باتت متنوعة، ومفتوحة في عصر الإنترنت، كما أن أدوات الإنتاج باتت في متناول الجميع، ولم تعد مكلفة كما كان الأمر في الماضي، لذا وجدت الجماعات المتطرفة لنفسها في هذا الفضاء موقعا مثاليا للترويج لدعايتها وشن الحرب على خصومها، ومن هذه المواقع قد تحقق تأثيرا في حرب الكلمات والصور، كما أشار إلى ذلك أحد كبار مستشاري وزارة الخارجية الأميركية وأحد مؤسسي مركز الاتصال الاستراتيجي المناهض للإرهاب ويليام ماكنتس عندما قال بأن (داعش يتقدم على الولايات المتحدة على هذا الصعيد)» ولافتا إلى أن هذه المجموعة «أتقنت بشكل لافت نشر دعايتها منذ وقت طويل على شبكة الإنترنت». وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن تقويض دعاية مثل هذه المجموعات الإرهابية خارج الميدان الذي تنشط وتتحرك فيه، وهو مأخذ سجله كثير من المراقبين على إدارة أوباما في حربها الإعلامية ضد الإرهاب، وهو النقد الذي ينسحب على بقية حكومات المجتمع الدولي بالمناسبة، إذ في الوقت الذي تنشط فيه هذه المجموعات المتطرفة من خلال بث دعايتها عبر وسائط الإعلام الجديد، يكتفي المجتمع الدولي بالمقاومة عبر المنصات التقليدية من خلال الخطب والمؤتمرات الصحافية ووسائل تقليدية الأخرى.
الباحثون والمختصون الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» أجمعوا على أنه يجب التنبه إلى أن البيئة الجغرافية التي ينشط فيها داعش على الأرض، هي بالأساس منطقة تحظى بنسب تعليم عالية (العراق - سوريا)، فضلا عن الشبان الغربيين الذين ينضمون إليهم بخبراتهم السابقة والمتنوعة.
ربما من المهم في هذا السياق، الإشارة إلى ملاحظة مسؤول الإعلام الرقمي السابق بجامعة كولومبيا الأميركية «سري سرينفاجن» عندما قال لشبكة «إن بي سي» الإخبارية في معرض حديثه عن نشاط دعاية داعش بـ«أن توثيق مشاهد حز الرؤوس ليس منتجا خاصا بداعش، بل سبقتها جماعات إرهابية أخرى، لكن الجديد في دعاية داعش هو أنه أتقن نشر هذه المقاطع في شكل غير مسبوق كليا عبر أدوات الإعلام الجديد، الأمر الذي مكنه من التأثير على خارج محيطه لا سيما المجتمعات الغربية، وضم عددا من هذه الدول للقتال في صفوفه»، على حد قوله.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟