«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

{سيلفي} المتطرفين.. صورة من العصور الوسطى بتقنية القرن الواحد والعشرين

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية
TT

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

بخلفية سينمائية، يمتزج فيها لون الأفق الأزرق الباهت بحد أفق آخر من الأرض الجرداء، يبدأ فيديو «داعش» الأحدث على مستوى الإنتاج المصور للتنظيم، والأكثر حداثة على مستوى محتوى الصورة من كثافة الرمزيات التي حواها التسجيل الذي يستمر لمدة 3 دقائق.
يلفت النظر في المقطع المصور، اعتماده تقنيات سينمائية ليس لتحسين الصورة فحسب، بل لتعميق المحتوى «الرسالي» في صورة كثيفة الترميزات المتلاحقة، مع خلفيات صوتية تختلط باحترافية، تميل للمدرسة «الواقعية».

تتداخل في الفيديو أصوات رياح آتية من بعيد مع صوت احتكاك «سكاكين الذبح» مع بعضها حين يخرجها مقاتلو «داعش» من الصندوق استعدادا لنحر الرهائن، مع خلفية خطابية ذات مضامين بربرية تنتهي بجملة «فاعلموا أن لنا جيشا (..) شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء».
على مستوى الصورة، يدير التسجيل حواران بصريان مع المشاهد على درجتين مختلفتين. المستوى الأول، يكون بين مقاتلي التنظيم الوحشي والمشاهد وهم يجرّون الرهائن «الغربيين» وينظرون إلى الكاميرا ويستلون «سكاكينهم» الحربية. فيما يظهر المستوى الثاني بين الرهائن الذين ستكون نظرتهم الغائمة للكاميرا، هي آخر ما سيراه المشاهدون من أسرار في عيونهم.
يستمر المشهد في تراتبية متمهلة حول خطوات «الذبح» التي ستحدث لاحقا، مع إصرار التنظيم على إظهار ملامح الإرهابيين، التي بدا أن أبرز رسائلها، هو اختلاف الأعراق التي ظهرت في الفيديو في تأكيد على عالمية التنظيم الدموي.
«أنساء الأشلاء» ينهون تسجيلهم، بإحالة الرهائن إلى كتلة من الجثث والجماجم المتراصفة، يسيل منها جدول صغير من الدماء.
أي معنى تطلقه الصورة؟
بعيدا عن الأسئلة التقنية، من الصعب أن يدير المراقب ظهره للدلالات الرمزية لمحتوى الصورة القادمة من مجاهيل التاريخ لتحتل نشرات أخبار القرن الواحد والعشرين. فأي معنى تطلقه الصورة؟ وما هي الأطراف التي تتداخل فيها؟ وثم سؤال أخير، أي سلطة للصورة؟ هذه الأبعاد الثلاثة التي أفرد مبحثا كاملا لها ريجيس دوبري، المفكر الفرنسي الشهير في كتابه «حياة الصورة وموتها».
وينبه فيه دوبري، وهو الذي يرأس حاليا «دفاتر الوسائطية، الرائدة في مجال تحليل الوسائط وآلياتها الثقافية» إلى أن «المعارك الكبرى التي دارت حول الصورة تدور حول هذه الأبعاد الثلاثة. لهذا رمت بالرهبان والصناع والجنود معا في حلبة المصارعة القاتلة. فالصورة المصنوعة هي في الآن نفسه منتوج ووسيلة عمل ودلالة».
على ذات النسق، يشرح حسن الحريري، الباحث المغربي المتخصص في المنطق وتاريخ العلوم، تأثير الفروقات بين قراءة النص المكتوب و«قراءة الصورة» على المتلقي.
ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مسار القراءة في النص موجه من طرف الكاتب، رغم أن كل قارئ يحافظ دائما على إمكانية (القفز) على كلمات، أو جمل أو فقرات، في حين أن مسار قراءة صورة ما، يكون بالأساس من إنتاج الذات الملاحظة (المشاهد)».
ويزيد الحريري «فالخطاب البصري لا يخضع لقواعد تركيبية صارمة، إضافة إلى أن عناصره تُدْرك بشكل متزامن، الأمر الذي يعني أن الصورة خطاب تركيبي لا يقبل التقطيع إلى عناصر صغرى مستقلة، بحيث إنها كتلة تختزن في بنياتها دلالات لا تتجزأ. فإذا كانت العلامة اللسانية تقوم على الاعتباط والمواضعة فإن الصورة تقوم على التعليل والمشابهة وتتسم الصورة (بالتعدد الدلالي) أي أنها تقدم للمشاهد عددا كبيرا من المدلولات لا ينتقي إلا بعضها ويهمل البعض الآخر».
الصورة الحديثة ومفاهيمها اليوم تتداخل فيها الوسائط التقنية مع الوسط الاجتماعي الذي يعيد إنتاجها مستفيدا من سهولة توفر تكنولوجيا صناعة «الصورة» ولكنه بالطبع يقدمها في صيغ متوائمة مع منتجه الفكري والثقافي.
يشير الحريري إلى أن الصور والتسجيلات التي يبثها «داعش» تعتبر «دليلا رمزيا على خراب المعنى وإفلاس منظومة القيم التي تؤطر فكرهم وعملهم على حد سواء. فإذا حاولنا أن نقرأ مشاهد الصور التي يبثونها نلاحظ أنها تعيد استنساخ ذاتها ولا تخرج عن ذروة ممارسة العنف بكل سادية ممكنة: قطع الأعناق، تقطيع الجثث، العمليات الانتحارية، التفجير والترويع، الخطف والتعذيب، التصفية والاستئصال والتهديد، أمام أشخاص عزل مجردين من كل الوسائل الممكنة للدفاع عن أنفسهم أو أمام مقرات رسمية ومدنية. نحن أمام آلة لإنتاج الخرائب تدعى داعش».
الصورة من التحريم إلى «السيلفي»
العام المنصرم، شهد صرعة ما عرف بـ«السيلفي». وهي الصورة التي تلتقط بالكاميرا الأمامية للهواتف الذكية لتخليد لحظة معينة دون الاستعانة بمصور مستقل. تدحرجت الفكرة من «سيلفي» مشاهير الممثلين العالميين في حفل توزيع جوائز الأوسكار، إلى لاعبي كرة القدم، إلى فئات المجتمع المختلفة، حتى وصلت هذه الموضة إلى مرابع داعش، المتصلة بالعالم الحديث بتقنياته لا بقيمه الإنسانية.
وتواترت على مواقع «التواصل الاجتماعي» صور «سيلفي» لمقاتلي «داعش» وهم يستعدون لمعركة، أو وهم يلتقطون صورا مع جثث ضحايا بربريتهم.
ولكن كيف عبر جدل الصورة «الديني» من التحريم إلا في حالة الضرورة، إلى تحليله من قبل جماعات العنف المسلح الأكثر راديكالية وأصولية؟
يجيب فهد الشافي، الباحث السعودي في الإسلاميات في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «المدرسة السلفية كان لها موقفها الصارم من التصوير إلا في حالات الضرورة، لكن الملاحظ أن الحركات الجهادية كان من الأساس لديهم استعانة برؤية فقهية أوسع في الجانب المتعلق بالصورة. فمن المعروف أن حقبة (الجهاد الأفغاني) الأولى كانت معسكرات بن لادن المتقاطعة مع الأدبيات الإخوانية تشترط على المنتسبين لها التقاط الصور لهم، فضلا عن أن كتب عبد الله عزام المنظر الأبرز كانت تحوي صورا. على أي حال، هذه أحد المآخذ التي أخذها بعض أقطاب السلفية على بعض الحركات الجهادية».
ويزيد الشافي «من ناحية التحقيق التاريخي الذي يتناول هذا النوع من جماعات العنف الديني، يلاحظ بسهولة أنها متجاوزة للعقدة (الإسلامية الحركية) للتعاطي مع الإعلام المرئي. بل أخذ هذا الجانب يتطور من جيل لآخر لإيصال رسائلهم على أكثر من مستوى».
يرى الصحافي الأميركي روبرت كابلن، في كتابه الصادر في عام 2002 تحت عنوان «المحارب السياسي» أن ثورة المعلومات ليست بالضرورة ستقود إلى واحات من الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير بمفهومها الوردي، وقال في حينه، إنه من المتوقع أن القدرة على استخدام الإنترنت من خلال أجهزة الكومبيوتر وأجهزة الجوال ستزيد من 2.5 في المائة بين السكان في العالم حاليا إلى 30 في المائة بحلول 2010. ولكن لا يزال الـ70 في المائة الباقون غير متصلين بهذه البيانات ونحو النصف لم يقوموا بمكالمة تليفونية، وسيكون مقدار التفاوت كبيرا. «فيما سيتمتع الإرهاب الناشئ من هذا التفاوت بموارد تقنية غير مسبوقة».
ويزيد كابلن في سرد ملامح تطابق تاريخية بين كل الحقب الزمنية التي شهدت ثورات الوسائط المعلوماتية من اختراع آلة الطباعة المتحركة إلى عصر الإنترنت «لن يشجع انتشار المعلومات الاستقرار بالضرورة. كما لم يؤد اختراع يوهانيس غوتنبيرغ للطباعة المتحركة في منتصف القرن الـ15 إلى الإصلاح فحسب، ولكنه أدى لاندلاع الحروب الدينية التي تلته، لأن الانتشار المفاجئ للنصوص شجع الخلافات المذهبية وأيقظ مظالم كانت هاجعة لفترة طويلة. ولن يؤدي انتشار المعلومات خلال العقود القادمة إلى ظهور تفاهمات ومواثيق اجتماعية جديدة فحسب، ولكنه سوف يؤدي إلى حدوث انقسامات جديدة مع اكتشاف الناس لمسائل جديدة ومعقدة يمكنهم الاختلاف عليها. وأنا أركز على الجانب المظلم لكل تطور ليس لأن المستقبل سوف يكون سيئا بالضرورة، ولكن لأن هذا ما كانت تدور حوله الأزمات السياسية الخارجية دائما».
بالعودة للشافي، يستعرض مستويات تأثير مختلفة عملت عليها الجماعات «الجهادية» الدينية في استخدام «الإعلام» بكل تمظهراته من النص إلى الصورة، ويقول: «جماعات العنف من الأساس ذات حجم صغير، لذلك يركزون على الوصول للقواعد الشعبية الجماهيرية بأكثر من طريقة وأكثر من مستوى».
ويضيف «المستوى الأول من حيث المضمون يرغب في توجيه رسالة واضحة للمختلفين معهم عن حجم الرعب الذي سيحملونه معهم حين وصولهم للخصوم، والثاني يستلزم عودة للماضي القريب، لحظة ظهور الفضائيات، وهي لحظة فاصلة في تعاطي هذا النوع من الحركات مع القواعد الجماهيرية، خصوصا أن بعض هذه الفضائيات غازلت هذه التيارات، وتبنت إظهار بعضهم مثل قناة (الجزيرة) القطرية، التي أظهرت الشخصيات الأكثر راديكالية من مفكري هذه الجماعات مثل أبو قتادة والفزاري. المستوى الثالث كان ظهور الإنترنت والمنتديات، ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعية، الأحدث على الساحة، التي كانت وما زالت أرضا خصبة للتجنيد من كل بقاع العالم، حتى أن أحد الأئمة الفرنسيين أشار إلى أن هذه الجماعات باتت من الاحترافية بأن تركز على استقطاب أبناء المهجر ممن يعانون قلقا في الهوية أو المسلمين حديثا، ويرغبون التعمق في فهم أمور دينهم، فتتلقفهم الأذرع الإلكترونية لهذه التنظيمات».
النظرية الإعلامية في فهم رمزيات «الصورة»
توظيف الصور بقصد صناعة تأثير محدد هو وجه من وجوه (البروباغندا) أو الدعاية، وصنفها الباحثون في مجال الاتصال كأحد الأساليب الاتصالية المتنوعة لتحقيق عملية التحول في التصورات حول العدو أو المعارضة، وبناء تصورات جديدة، وشاع استخدامها بشكل جلي في حالة الصراعات والحروب الكبرى، ومنها أخيرا، حرب المجتمع الدولي على تنظيم «داعش» في صيغة متبادلة.
في هذا السياق، يوضح زيد الشكري، المتخصص في الصحافة ووسائل الاتصال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في حالة الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش، فإن ما يقوم به هو التوسل في الحصول على القوة من خلال الدعاية، وتحديدا توظيف ما يسميه أحد أشهر علماء الاتصال في مجال الدعاية هارولد لازول بـ(الرموز الجماعية)، وهو توظيف للرموز التي تكون عادة ذات ارتباط مع مشاعر قوية، وتمتلك القدرة على تحفيز العمل الجماعي على نطاق واسع على مدى أشهر وأحيانا أعوام من خلال استخدام كل وسائل الاتصال المتاحة. واستخدام هذه الرموز لا يبعث لدينا شعورا يكون وليد اللحظة التي نراها فيها، بل هو نتيجة سياق طويل ابتدأ في الماضي ومورس فيه تكثيف للدلالات والإيحاءات التي تتجدد كلما نراها. وتتعزز دلالات هذه الصور أكثر كلما صاحبها خلفيات أخرى، كالموسيقى المصاحبة، أو التعليق، وأشكال الإنتاج الأخرى».
ولكن على ماذا تتغذى «حروب الدعاية» المعولمة هذه؟ يجيب الشكري «منافذ الظهور والاتصال بالجمهور باتت متنوعة، ومفتوحة في عصر الإنترنت، كما أن أدوات الإنتاج باتت في متناول الجميع، ولم تعد مكلفة كما كان الأمر في الماضي، لذا وجدت الجماعات المتطرفة لنفسها في هذا الفضاء موقعا مثاليا للترويج لدعايتها وشن الحرب على خصومها، ومن هذه المواقع قد تحقق تأثيرا في حرب الكلمات والصور، كما أشار إلى ذلك أحد كبار مستشاري وزارة الخارجية الأميركية وأحد مؤسسي مركز الاتصال الاستراتيجي المناهض للإرهاب ويليام ماكنتس عندما قال بأن (داعش يتقدم على الولايات المتحدة على هذا الصعيد)» ولافتا إلى أن هذه المجموعة «أتقنت بشكل لافت نشر دعايتها منذ وقت طويل على شبكة الإنترنت». وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن تقويض دعاية مثل هذه المجموعات الإرهابية خارج الميدان الذي تنشط وتتحرك فيه، وهو مأخذ سجله كثير من المراقبين على إدارة أوباما في حربها الإعلامية ضد الإرهاب، وهو النقد الذي ينسحب على بقية حكومات المجتمع الدولي بالمناسبة، إذ في الوقت الذي تنشط فيه هذه المجموعات المتطرفة من خلال بث دعايتها عبر وسائط الإعلام الجديد، يكتفي المجتمع الدولي بالمقاومة عبر المنصات التقليدية من خلال الخطب والمؤتمرات الصحافية ووسائل تقليدية الأخرى.
الباحثون والمختصون الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» أجمعوا على أنه يجب التنبه إلى أن البيئة الجغرافية التي ينشط فيها داعش على الأرض، هي بالأساس منطقة تحظى بنسب تعليم عالية (العراق - سوريا)، فضلا عن الشبان الغربيين الذين ينضمون إليهم بخبراتهم السابقة والمتنوعة.
ربما من المهم في هذا السياق، الإشارة إلى ملاحظة مسؤول الإعلام الرقمي السابق بجامعة كولومبيا الأميركية «سري سرينفاجن» عندما قال لشبكة «إن بي سي» الإخبارية في معرض حديثه عن نشاط دعاية داعش بـ«أن توثيق مشاهد حز الرؤوس ليس منتجا خاصا بداعش، بل سبقتها جماعات إرهابية أخرى، لكن الجديد في دعاية داعش هو أنه أتقن نشر هذه المقاطع في شكل غير مسبوق كليا عبر أدوات الإعلام الجديد، الأمر الذي مكنه من التأثير على خارج محيطه لا سيما المجتمعات الغربية، وضم عددا من هذه الدول للقتال في صفوفه»، على حد قوله.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.