«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

{سيلفي} المتطرفين.. صورة من العصور الوسطى بتقنية القرن الواحد والعشرين

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية
TT

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

«جئتكم بالذبح».. جرعات غير مرحب بها من العدمية

بخلفية سينمائية، يمتزج فيها لون الأفق الأزرق الباهت بحد أفق آخر من الأرض الجرداء، يبدأ فيديو «داعش» الأحدث على مستوى الإنتاج المصور للتنظيم، والأكثر حداثة على مستوى محتوى الصورة من كثافة الرمزيات التي حواها التسجيل الذي يستمر لمدة 3 دقائق.
يلفت النظر في المقطع المصور، اعتماده تقنيات سينمائية ليس لتحسين الصورة فحسب، بل لتعميق المحتوى «الرسالي» في صورة كثيفة الترميزات المتلاحقة، مع خلفيات صوتية تختلط باحترافية، تميل للمدرسة «الواقعية».

تتداخل في الفيديو أصوات رياح آتية من بعيد مع صوت احتكاك «سكاكين الذبح» مع بعضها حين يخرجها مقاتلو «داعش» من الصندوق استعدادا لنحر الرهائن، مع خلفية خطابية ذات مضامين بربرية تنتهي بجملة «فاعلموا أن لنا جيشا (..) شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء».
على مستوى الصورة، يدير التسجيل حواران بصريان مع المشاهد على درجتين مختلفتين. المستوى الأول، يكون بين مقاتلي التنظيم الوحشي والمشاهد وهم يجرّون الرهائن «الغربيين» وينظرون إلى الكاميرا ويستلون «سكاكينهم» الحربية. فيما يظهر المستوى الثاني بين الرهائن الذين ستكون نظرتهم الغائمة للكاميرا، هي آخر ما سيراه المشاهدون من أسرار في عيونهم.
يستمر المشهد في تراتبية متمهلة حول خطوات «الذبح» التي ستحدث لاحقا، مع إصرار التنظيم على إظهار ملامح الإرهابيين، التي بدا أن أبرز رسائلها، هو اختلاف الأعراق التي ظهرت في الفيديو في تأكيد على عالمية التنظيم الدموي.
«أنساء الأشلاء» ينهون تسجيلهم، بإحالة الرهائن إلى كتلة من الجثث والجماجم المتراصفة، يسيل منها جدول صغير من الدماء.
أي معنى تطلقه الصورة؟
بعيدا عن الأسئلة التقنية، من الصعب أن يدير المراقب ظهره للدلالات الرمزية لمحتوى الصورة القادمة من مجاهيل التاريخ لتحتل نشرات أخبار القرن الواحد والعشرين. فأي معنى تطلقه الصورة؟ وما هي الأطراف التي تتداخل فيها؟ وثم سؤال أخير، أي سلطة للصورة؟ هذه الأبعاد الثلاثة التي أفرد مبحثا كاملا لها ريجيس دوبري، المفكر الفرنسي الشهير في كتابه «حياة الصورة وموتها».
وينبه فيه دوبري، وهو الذي يرأس حاليا «دفاتر الوسائطية، الرائدة في مجال تحليل الوسائط وآلياتها الثقافية» إلى أن «المعارك الكبرى التي دارت حول الصورة تدور حول هذه الأبعاد الثلاثة. لهذا رمت بالرهبان والصناع والجنود معا في حلبة المصارعة القاتلة. فالصورة المصنوعة هي في الآن نفسه منتوج ووسيلة عمل ودلالة».
على ذات النسق، يشرح حسن الحريري، الباحث المغربي المتخصص في المنطق وتاريخ العلوم، تأثير الفروقات بين قراءة النص المكتوب و«قراءة الصورة» على المتلقي.
ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مسار القراءة في النص موجه من طرف الكاتب، رغم أن كل قارئ يحافظ دائما على إمكانية (القفز) على كلمات، أو جمل أو فقرات، في حين أن مسار قراءة صورة ما، يكون بالأساس من إنتاج الذات الملاحظة (المشاهد)».
ويزيد الحريري «فالخطاب البصري لا يخضع لقواعد تركيبية صارمة، إضافة إلى أن عناصره تُدْرك بشكل متزامن، الأمر الذي يعني أن الصورة خطاب تركيبي لا يقبل التقطيع إلى عناصر صغرى مستقلة، بحيث إنها كتلة تختزن في بنياتها دلالات لا تتجزأ. فإذا كانت العلامة اللسانية تقوم على الاعتباط والمواضعة فإن الصورة تقوم على التعليل والمشابهة وتتسم الصورة (بالتعدد الدلالي) أي أنها تقدم للمشاهد عددا كبيرا من المدلولات لا ينتقي إلا بعضها ويهمل البعض الآخر».
الصورة الحديثة ومفاهيمها اليوم تتداخل فيها الوسائط التقنية مع الوسط الاجتماعي الذي يعيد إنتاجها مستفيدا من سهولة توفر تكنولوجيا صناعة «الصورة» ولكنه بالطبع يقدمها في صيغ متوائمة مع منتجه الفكري والثقافي.
يشير الحريري إلى أن الصور والتسجيلات التي يبثها «داعش» تعتبر «دليلا رمزيا على خراب المعنى وإفلاس منظومة القيم التي تؤطر فكرهم وعملهم على حد سواء. فإذا حاولنا أن نقرأ مشاهد الصور التي يبثونها نلاحظ أنها تعيد استنساخ ذاتها ولا تخرج عن ذروة ممارسة العنف بكل سادية ممكنة: قطع الأعناق، تقطيع الجثث، العمليات الانتحارية، التفجير والترويع، الخطف والتعذيب، التصفية والاستئصال والتهديد، أمام أشخاص عزل مجردين من كل الوسائل الممكنة للدفاع عن أنفسهم أو أمام مقرات رسمية ومدنية. نحن أمام آلة لإنتاج الخرائب تدعى داعش».
الصورة من التحريم إلى «السيلفي»
العام المنصرم، شهد صرعة ما عرف بـ«السيلفي». وهي الصورة التي تلتقط بالكاميرا الأمامية للهواتف الذكية لتخليد لحظة معينة دون الاستعانة بمصور مستقل. تدحرجت الفكرة من «سيلفي» مشاهير الممثلين العالميين في حفل توزيع جوائز الأوسكار، إلى لاعبي كرة القدم، إلى فئات المجتمع المختلفة، حتى وصلت هذه الموضة إلى مرابع داعش، المتصلة بالعالم الحديث بتقنياته لا بقيمه الإنسانية.
وتواترت على مواقع «التواصل الاجتماعي» صور «سيلفي» لمقاتلي «داعش» وهم يستعدون لمعركة، أو وهم يلتقطون صورا مع جثث ضحايا بربريتهم.
ولكن كيف عبر جدل الصورة «الديني» من التحريم إلا في حالة الضرورة، إلى تحليله من قبل جماعات العنف المسلح الأكثر راديكالية وأصولية؟
يجيب فهد الشافي، الباحث السعودي في الإسلاميات في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «المدرسة السلفية كان لها موقفها الصارم من التصوير إلا في حالات الضرورة، لكن الملاحظ أن الحركات الجهادية كان من الأساس لديهم استعانة برؤية فقهية أوسع في الجانب المتعلق بالصورة. فمن المعروف أن حقبة (الجهاد الأفغاني) الأولى كانت معسكرات بن لادن المتقاطعة مع الأدبيات الإخوانية تشترط على المنتسبين لها التقاط الصور لهم، فضلا عن أن كتب عبد الله عزام المنظر الأبرز كانت تحوي صورا. على أي حال، هذه أحد المآخذ التي أخذها بعض أقطاب السلفية على بعض الحركات الجهادية».
ويزيد الشافي «من ناحية التحقيق التاريخي الذي يتناول هذا النوع من جماعات العنف الديني، يلاحظ بسهولة أنها متجاوزة للعقدة (الإسلامية الحركية) للتعاطي مع الإعلام المرئي. بل أخذ هذا الجانب يتطور من جيل لآخر لإيصال رسائلهم على أكثر من مستوى».
يرى الصحافي الأميركي روبرت كابلن، في كتابه الصادر في عام 2002 تحت عنوان «المحارب السياسي» أن ثورة المعلومات ليست بالضرورة ستقود إلى واحات من الديمقراطية والشفافية وحرية التعبير بمفهومها الوردي، وقال في حينه، إنه من المتوقع أن القدرة على استخدام الإنترنت من خلال أجهزة الكومبيوتر وأجهزة الجوال ستزيد من 2.5 في المائة بين السكان في العالم حاليا إلى 30 في المائة بحلول 2010. ولكن لا يزال الـ70 في المائة الباقون غير متصلين بهذه البيانات ونحو النصف لم يقوموا بمكالمة تليفونية، وسيكون مقدار التفاوت كبيرا. «فيما سيتمتع الإرهاب الناشئ من هذا التفاوت بموارد تقنية غير مسبوقة».
ويزيد كابلن في سرد ملامح تطابق تاريخية بين كل الحقب الزمنية التي شهدت ثورات الوسائط المعلوماتية من اختراع آلة الطباعة المتحركة إلى عصر الإنترنت «لن يشجع انتشار المعلومات الاستقرار بالضرورة. كما لم يؤد اختراع يوهانيس غوتنبيرغ للطباعة المتحركة في منتصف القرن الـ15 إلى الإصلاح فحسب، ولكنه أدى لاندلاع الحروب الدينية التي تلته، لأن الانتشار المفاجئ للنصوص شجع الخلافات المذهبية وأيقظ مظالم كانت هاجعة لفترة طويلة. ولن يؤدي انتشار المعلومات خلال العقود القادمة إلى ظهور تفاهمات ومواثيق اجتماعية جديدة فحسب، ولكنه سوف يؤدي إلى حدوث انقسامات جديدة مع اكتشاف الناس لمسائل جديدة ومعقدة يمكنهم الاختلاف عليها. وأنا أركز على الجانب المظلم لكل تطور ليس لأن المستقبل سوف يكون سيئا بالضرورة، ولكن لأن هذا ما كانت تدور حوله الأزمات السياسية الخارجية دائما».
بالعودة للشافي، يستعرض مستويات تأثير مختلفة عملت عليها الجماعات «الجهادية» الدينية في استخدام «الإعلام» بكل تمظهراته من النص إلى الصورة، ويقول: «جماعات العنف من الأساس ذات حجم صغير، لذلك يركزون على الوصول للقواعد الشعبية الجماهيرية بأكثر من طريقة وأكثر من مستوى».
ويضيف «المستوى الأول من حيث المضمون يرغب في توجيه رسالة واضحة للمختلفين معهم عن حجم الرعب الذي سيحملونه معهم حين وصولهم للخصوم، والثاني يستلزم عودة للماضي القريب، لحظة ظهور الفضائيات، وهي لحظة فاصلة في تعاطي هذا النوع من الحركات مع القواعد الجماهيرية، خصوصا أن بعض هذه الفضائيات غازلت هذه التيارات، وتبنت إظهار بعضهم مثل قناة (الجزيرة) القطرية، التي أظهرت الشخصيات الأكثر راديكالية من مفكري هذه الجماعات مثل أبو قتادة والفزاري. المستوى الثالث كان ظهور الإنترنت والمنتديات، ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعية، الأحدث على الساحة، التي كانت وما زالت أرضا خصبة للتجنيد من كل بقاع العالم، حتى أن أحد الأئمة الفرنسيين أشار إلى أن هذه الجماعات باتت من الاحترافية بأن تركز على استقطاب أبناء المهجر ممن يعانون قلقا في الهوية أو المسلمين حديثا، ويرغبون التعمق في فهم أمور دينهم، فتتلقفهم الأذرع الإلكترونية لهذه التنظيمات».
النظرية الإعلامية في فهم رمزيات «الصورة»
توظيف الصور بقصد صناعة تأثير محدد هو وجه من وجوه (البروباغندا) أو الدعاية، وصنفها الباحثون في مجال الاتصال كأحد الأساليب الاتصالية المتنوعة لتحقيق عملية التحول في التصورات حول العدو أو المعارضة، وبناء تصورات جديدة، وشاع استخدامها بشكل جلي في حالة الصراعات والحروب الكبرى، ومنها أخيرا، حرب المجتمع الدولي على تنظيم «داعش» في صيغة متبادلة.
في هذا السياق، يوضح زيد الشكري، المتخصص في الصحافة ووسائل الاتصال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «في حالة الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش، فإن ما يقوم به هو التوسل في الحصول على القوة من خلال الدعاية، وتحديدا توظيف ما يسميه أحد أشهر علماء الاتصال في مجال الدعاية هارولد لازول بـ(الرموز الجماعية)، وهو توظيف للرموز التي تكون عادة ذات ارتباط مع مشاعر قوية، وتمتلك القدرة على تحفيز العمل الجماعي على نطاق واسع على مدى أشهر وأحيانا أعوام من خلال استخدام كل وسائل الاتصال المتاحة. واستخدام هذه الرموز لا يبعث لدينا شعورا يكون وليد اللحظة التي نراها فيها، بل هو نتيجة سياق طويل ابتدأ في الماضي ومورس فيه تكثيف للدلالات والإيحاءات التي تتجدد كلما نراها. وتتعزز دلالات هذه الصور أكثر كلما صاحبها خلفيات أخرى، كالموسيقى المصاحبة، أو التعليق، وأشكال الإنتاج الأخرى».
ولكن على ماذا تتغذى «حروب الدعاية» المعولمة هذه؟ يجيب الشكري «منافذ الظهور والاتصال بالجمهور باتت متنوعة، ومفتوحة في عصر الإنترنت، كما أن أدوات الإنتاج باتت في متناول الجميع، ولم تعد مكلفة كما كان الأمر في الماضي، لذا وجدت الجماعات المتطرفة لنفسها في هذا الفضاء موقعا مثاليا للترويج لدعايتها وشن الحرب على خصومها، ومن هذه المواقع قد تحقق تأثيرا في حرب الكلمات والصور، كما أشار إلى ذلك أحد كبار مستشاري وزارة الخارجية الأميركية وأحد مؤسسي مركز الاتصال الاستراتيجي المناهض للإرهاب ويليام ماكنتس عندما قال بأن (داعش يتقدم على الولايات المتحدة على هذا الصعيد)» ولافتا إلى أن هذه المجموعة «أتقنت بشكل لافت نشر دعايتها منذ وقت طويل على شبكة الإنترنت». وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن تقويض دعاية مثل هذه المجموعات الإرهابية خارج الميدان الذي تنشط وتتحرك فيه، وهو مأخذ سجله كثير من المراقبين على إدارة أوباما في حربها الإعلامية ضد الإرهاب، وهو النقد الذي ينسحب على بقية حكومات المجتمع الدولي بالمناسبة، إذ في الوقت الذي تنشط فيه هذه المجموعات المتطرفة من خلال بث دعايتها عبر وسائط الإعلام الجديد، يكتفي المجتمع الدولي بالمقاومة عبر المنصات التقليدية من خلال الخطب والمؤتمرات الصحافية ووسائل تقليدية الأخرى.
الباحثون والمختصون الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» أجمعوا على أنه يجب التنبه إلى أن البيئة الجغرافية التي ينشط فيها داعش على الأرض، هي بالأساس منطقة تحظى بنسب تعليم عالية (العراق - سوريا)، فضلا عن الشبان الغربيين الذين ينضمون إليهم بخبراتهم السابقة والمتنوعة.
ربما من المهم في هذا السياق، الإشارة إلى ملاحظة مسؤول الإعلام الرقمي السابق بجامعة كولومبيا الأميركية «سري سرينفاجن» عندما قال لشبكة «إن بي سي» الإخبارية في معرض حديثه عن نشاط دعاية داعش بـ«أن توثيق مشاهد حز الرؤوس ليس منتجا خاصا بداعش، بل سبقتها جماعات إرهابية أخرى، لكن الجديد في دعاية داعش هو أنه أتقن نشر هذه المقاطع في شكل غير مسبوق كليا عبر أدوات الإعلام الجديد، الأمر الذي مكنه من التأثير على خارج محيطه لا سيما المجتمعات الغربية، وضم عددا من هذه الدول للقتال في صفوفه»، على حد قوله.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.