لبنان يختنق بمؤشراته وفقره... ولا يستطيع استعمال احتياط الذهب

الخبز والدواء والنقل تنضم قريباً إلى سلّة سلع الرفاهية في البلد المنكوب

لبنان يختنق بمؤشراته وفقره... ولا يستطيع استعمال احتياط الذهب
TT

لبنان يختنق بمؤشراته وفقره... ولا يستطيع استعمال احتياط الذهب

لبنان يختنق بمؤشراته وفقره... ولا يستطيع استعمال احتياط الذهب

يمتلك لبنان احتياطات وازنة من الذهب تناهز قيمتها السوقية 18 مليار دولار أميركي، يُفترض جدلاً أن تقيه شر العِوَز وتفشي الفقر في الزمن الصعب، إلا أن تبديد «القرش الأبيض» من العملات الصعبة الذي راكمه «البنك المركزي» (مصرف لبنان) بتكلفة مرتفعة واستثنائية غالب الأحيان، يشرّع التمسك بقانون «منع التصرف» بهذا المخزون الاستراتيجي الصادر عام 1986، إلى حين يأمن أهل البلد لإدارته وللشروع بالإصلاح وحوكمة مؤسسات الدولة.
هذا الإيجاز الذي استخلصته «الشرق الأوسط» عبر استطلاع ميداني للمسارات الاقتصادية والمالية والنقدية والحلول الممكنة، أثرته بطرح الخيارات الممكنة للجوء إلى الذهب، كملاذ إنقاذي بعدما بلغ الانهيار مستويات حرجة للغاية تهدد الرغيف والدواء والاستشفاء والتدفئة والنقل. ولقد حاورت لهذه الغاية خبيرين كبيرين في شؤون القطاع المالي الذي يشكل النواة الصلبة لكرة ثلج الانهيارات التي دارت على القطاعات كافة، هما: سمير حمود الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، والدكتور جو سرّوع المصرفي الجامع لخبرات طويلة في مؤسسات أجنبية ومحلية.

واقع الحال في لبنان، عشية ختام السنة الأولى لرحلة الآلام التي تدحرجت ككرة الثلج وتسببت باندلاع أوسع موجات الاحتجاجات الشعبية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2019 أن البلد والمقيمين فيه من مواطنين ونازحين يناهزون الستة ملايين نسمة، عالقون في عنق الزجاجة «السياسي» الداخلي، مع انسداد منافذ الإنقاذ عقب ترنُّح المبادرة الفرنسية رغم تمديد مهلتها. ولا غرابة في تفشي الإحباط واليأس في أوساط العامة، بعدما فقد الجميع الثقة برجال الدولة ومؤسساتها وإمكانية حصول تحوّل حقيقي يفضي إلى إعلاء المصالح الوطنية والإصلاح على مناهج الفساد والمحاصصة والامتيازات الفئوية والطائفية.
عامل الوقت سيكون ضاغطاً بشدة، وربما يغدو قاتلاً في الأسابيع القليلة المقبلة، كما يجمع المراقبون؛ إذ إن هناك التزامن الحكمي مع ترقب موجة تضخم عاتية ستنتج تلقائياً مع قرب الاستحقاق الزمني لاستنفاذ احتياطات البنك المركزي القابلة للاستخدام من العملات الصعبة. هذا بينما يستعيد الضغط النقدي ثقله النوعي النافذ إلى الاستهلاك اليومي، ويتكفل باقتطاع أجزاء جديدة من المداخيل المترهلة، وتبقى المدخرات في البنوك حبيسة القيود المشددة.
- عوز شديد مرتقب
ولم يعد سراً في إشهار الوقائع المتفشية، التحذير من حدة المخاطر المقبلة وتفاقمها على البلاد واقتصادها وناسها. فالنذر الأولى لمرحلة ما بعد تعذر دعم تمويل السلع الاستراتيجية والغذائية الأساسية بدأت تسود الأسواق من خلال ندرة السلع المدعومة وتهريبها خارج الحدود عن أعين الدولة وأجهزتها. وهي تشي، بحسب إجماع المراقبين والمحللين، بتحوّلات أشد مرارة تصيب القطاعات الاقتصادية بالشلل التام، وتصدم الصامدين من العاملين فيها بانضمامهم الوشيك إلى رفاقهم السابقين المكتوين، الذين تربو أعدادهم على 300 ألف، بنار البطالة التامة والجزئية. أما الأكثر إيلاماً، فستعكسه التداعيات الاجتماعية والمعيشية التي يرجح أن تطلق موجات جديدة وعالية تجرف السواد الأعظم من الناس إلى العوز الشديد.
ومن المرتقب أن تشكل الذكرى السنوية الأولى لاندلاع موجات الاحتجاجات الشعبية، وقوداً إضافياً للتحولات الصعبة المنتظرة ضمن محطات التوقيت الشائك الذي يظلل الأوضاع اللبنانية كافة. فإذا كان فتيل فرض رسم مقطوع على «واتساب» أشعل «ثورة» شعبية غير مسبوقة بشموليتها خارج القيود الطائفية ومداها الزمني المتواصل؛ فكيف يُمكِن تصوُّر مكوّنات المشهد المرتقب عند بلوغ محطة انقطاع الرمق الأخير لاحتياطات العملات الصعبة قريباً، وفقاً لتحذيرات حاكم البنك المركزي، رياض سلامة، وارتقاء الخبز والغذاء والأدوية والمحروقات إلى مصاف سلع الرفاهية الصعبة المنال والمتاحة بيُسر لنسبة ضئيلة فقط قد لا تتخطى 20 في المائة من المقيمين؟!
- حمود: القيمة النفسية للذهب توجب ربط استعماله بالإصلاح الهيكلي
دونما أي تردد أو تهيب، يقول سمير حمود: «لعله من المبكر طرح موضوع الذهب في المرحلة الحاضرة. فلهذا الاحتياط قيمة نفسية عالية ربما تفوق ما يوازيه من قيمة نقدية، والبلد حالياً في وضعية انعدام الوزن، لجهة فقدان الثقة وغياب الرؤى والبرامج والخطط الكفيلة بتفكيك المشكلات وإعادة ترتيب البيت اللبناني الداخلي».
ثم يضيف: «سيأتي حكماً الوقت الذي يمكننا فيه مقاربة موضوع مخزون الذهب وخيارات استخداماته. ومنها على سبيل التعداد لا الحصر: الاستناد إلى قيمته كضمانة مهمة لإعادة جدولة الديون الحكومية الخارجية، وتعظيم الاستفادة المقابلة في استعادة سمعة البلد ومؤسساته في الأسواق الدولية، التي بناها على مدى العقود الأخيرة، حيث لم يخلّ يوماً، ما عدا العام الحالي، بتسديد موجباته واستحقاقات ديونه». كذلك فإنه يمكن استعمال قوة هذا الاحتياط في ضمان استمرارية استيراد المواد الأولية للصناعة الوطنية ضمن خطة سليمة تضمن نهوض الاقتصاد من كبوته الحالية.
«أما أن تقرر الدولة استعمال الذهب كمخزون نقدي متوفر، فهذا ينذر - كما يرى حمود - بأن يتم استهلاك هذه الأصول المتينة على منوال استهلاك الاحتياطات النقدية من العملات الصعبة. وهكذا خيار سيبدد معه بقايا مخزون الثقة بالبلاد وقطاعاتها، ويضيف أوزاناً ثقيلة إلى المشكلات البنيوية التي تكشفت عقب انفجار الأزمات. بل إن مجرد التوجه بذاته، سيضعنا لاحقاً في موقع الفاقد لأي احتمال إنقاذي ممكن وأي إمكانية لإعادة ترتيب أوضاعنا كافة».
ويستطرد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، فيقول: «أكرر التأكيد بأنه سيأتي اليوم المناسب للتداول الوطني بموضوع احتياط الذهب وتحديد أوجه استعماله، إنما يجب أن يسبق كل ذلك تأسيس توافق داخلي عريض قوامه استقرار داخلي ورؤى سياسية واقتصادية واضحة وشفافة واتفاقات على معالجات مالية ونقدية ومصرفية صريحة ولا لبس فيها. وبالأخص، راهناً لجهة علاقتنا مع (صندوق النقد الدولي) ومحفّزات المبادرة الفرنسية في إنعاش التزامات مؤتمر (سيدر). كذلك ما يعود إلى علاقاتنا بمحيطنا العربي، وتحديداً دول الخليج، كجزء حيوي ومتقدم من مجمل منظومة علاقاتنا الخارجية».
وبتابع حمود شارحاً: «أما في غياب كل هذه المقتضيات أو الشروط الموضوعية، فإن المس بالذهب سيكون حقيقة رمياً لأصول ثمينة في البحر، وستأكله أسماك نعرفها، وقد لا نستطيع إعادة اصطيادها في أي زمن لاحق. ولذا فلنتمسك بهذا الملاذ ضناً بما تبقى من آمال الناس في استعادة مقوّمات العيش الكريم في وطن مستقر. وليكن سلاحاً حاسماً في معركة الإصلاح حين ينضج وقتها».
- الأزمة ما عادت سعر الصرف أو إعادة هيكلة الدَّين
في الخلفيات التي عايشها سمير حمود عن كثب من خلال مسؤولياته ومواقعه المصرفية والإدارية السابقة، فإنه يعتقد أن الأزمات المستفحلة السائدة لم تعد مسائل سعر صرف أو إعادة هيكلة دين. بل هي حقيقة أزمة وجود دولة تحترم تعهداتها في الداخل والخارج، ولا تقبل أن تمارس مؤسساتها أعمالاً تخالف القانون والدستور. وهذا ما يقتضي أن ترتكز منطلقات الحلول على مبادئ احترام الحقوق والوفاء بالالتزامات، ولا يعتقدن أحد أن البلاد يمكن أن تقف مجدداً إذا سرقت أو بددت أموال الناس.
ثم يوضح: «لبنان هو بلد تحويل أكثر مما هو بلد تصدير. ولو أننا نعشق الاقتصاد المنتج فإن البناء وإعادة البناء لا يتحققان بالتمني بل بالاستناد إلى أعمدة ثابتة صلبة قوامها العدل والنظام. إن الأحاديث عن المال المنهوب لا علاقة له بالأزمات لأن التصدي للفساد والنهب والسرقات واجبات الدولة الصحيحة سواءً كانت في بحبوحة أم في ضيق. وصحيح أن الأزمة انفجرت نقداً، لكن مسبباتها مالية وسياسية. وهذا يعني أن الحل وجب أن يأتي سياسياً. بينما، في غياب التصحيح السياسي ستبقى المعالجات ناقصة، ولن تضمن العودة إلى الوضع الذي اعتاد لبنان واللبنانيون العيش في ظلاله».
لقد أظهر لبنان على مدى عقود مستوى عالياً في العيش وحرية الانتقال في الداخل والخارج. إنما اعتبر كثيرون - وفق سرد حمود - أن «اللبنانيين ينفقون أكثر مما ينتجون، وأن نمط العيش محكوم بالتغيير لتقلص الموارد في الفترة المقبلة. وهذا الكلام يتصف ببعض الصحة. لكن يجب ألا يغرب عن البال أن مظاهر الغنى والرقي مطلوبة لاستمرار اقتصاد لبنان، إذ إن قطاع الخدمات في لبنان لا يقل، ولا يجوز أن يقل، عن أي من القطاعات الاقتصادية الأخرى، وإن كنا نؤيد الدعوة المحقة لإعطاء القطاعات الإنتاجية الأهمية والدعم لأجل التحول إلى بلد إنتاج».
وعن تصوراته لاقتراحات الحلول المطلوبة يرى حمود أنه «من الناحية التقنية تأخذ المعالجات عادة أحد مسارين: إما مسار التصفية أو مسار الاستمرارية. الأزمة الحالية تتناول مالية الدولة ورساميل مصرف لبنان والمصارف وأموال المودعين. والمعالجات توجب الحفاظ على هذه الأموال وعلى المؤسسات وسمعة البلاد، ولا تفيد (الهندسات) الرقمية أو الورقية ما لم تضمن ضخ أموال جديدة تضمن إعادة النهوض» ولذا، فهو يعتبر أن «مسار الاستمرارية حتمي. ويتطلب ذلك معالجة الأسباب وإعطاء الأهمية لمصادر تغطية أي خسائر أو فجوات، بدلاً من الضياع بتقديرات مبالغ الخسائر المحققة، لأنه لا فائدة تُرجى من أن نضع أنفسنا في دائرة العجز والتنصل من الالتزامات بدلاً من البحث عن إمكانات التغطية أو الاستمرارية، وألا نحوّل المعالجة إلى مسار التصفية».
- الكهرباء... الكهرباء... الكهرباء
وفقاً لهذا الخيار، يجد حمود أن الحلول الناجعة لا بد أن تبدأ «بتوازن المالية العامة، ذلك أن العجز ناتج أساساً عن الفوائد وتراكمها وعجز الكهرباء. وبما أن الفوائد بمعظمها تعود للمصارف ومصرف لبنان، فإن المطلوب معالجة مشكلة الكهرباء التي غدت عنواناً عريضاً لتخلف لبنان واللبنانيين، ثم اللجوء إلى إيقاف الفوائد، والعمل على تعزيز الحساب الأولي، وربط الإنفاق الاستثماري بالفائض الحاصل، والإبقاء على رصيد يشكل نواة المعالجة لإعادة هيكلة الدَّين. إن مقاربة الدَّين في تخفيضه أو تسديده قبل توازن المالية العامة لن تؤدي إلى نتيجة، لأن مصادر التسديد الجزئي أو الكلي غير متوافرة، كما أن توازن المالية العامة لا يتحقق من دون إصلاحات حقيقية تعالج بنود الإنفاق وتوزّعها على ثلاث فئات أساسية تشمل الرواتب والتعويضات والكهرباء والفوائد».
في المحطة الموازية، يشير حمود إلى وجوب مصارحة المودعين في البنوك قانونياً بأن الوديعة بالدولار هي «دولار لبناني» غير قابل للتحويل نقداً أو خارج البلاد. وحتى إشعار آخر، سيُصرف في السوق المحلية وفق السعر المعتمد على منصة البنك المركزي. وهو يقدّر، في المقابل أن «الكلام عن تحرير سعر الصرف في غير محله أيضاً. فالسعر الحر هو الذي يساوي العرض مع الطلب، ولا يمكن في الحال هذه التوازن في ظل احتباس ودائع بنحو 125 مليار دولار، واكتناز الدولار عند توفره. فعندها وفي حال التحرير، يمكن أن يصل الدولار إلى ستة أرقام. ولذا لا بد من التعايش مع سعرين والقبول ضمناً بالسوق السوداء ومحاربتها علناً وبجدية للحؤول دون الفوضى».
أما بشأن الدين العام البالغ نحو 94 مليار دولار، فيعتبر حمود أن معالجته كي يتناسب مع الناتج المحلي «أمر أساسي، غير أن تخفيضه عن طريق الاقتطاع من الأموال الخاصة للمصارف وأموال المودعين يشكل خطيئة كبرى، لأن ذلك ينهي النظام المصرفي، ولا يضخ أي رساميل في السوق المحلية». ويوضح: «هدف التخفيض هو الأساس. إنما الأسلوب والمدة يختلفان عن الطرح الحكومي الذي تم التداول به مع خبراء (صندوق النقد). والخلل بالسداد لم يكن صائباً، ويجب تصحيحه بتكليف مصرف لبنان والمصارف شراء السندات بحسومات كبيرة لحصر المديونية داخلياً. هذا الأمر يسهل معالجة الدَّين أولاً بتخفيض التكلفة، وثانياً بإعادة الجدولة لمدة كافية لتمكين الدولة من احترام التزاماتها. وهذا الاقتراح يتناسب طرداً مع معالجة الودائع لأن تمديد فترة السداد يقابله حبس الودائع قصراً، وأيضاً تخفيض كلفتها على المصارف».
- سرّوع: الثقة أولاً... ولدى الدولة عوائد قابلة للتسنيد وجذب التمويل الإسلامي
يعتبر الدكتور جو سرّوع، من جهته، أن «الذهب كان ولا يزال الملاذ الآمن للعملات الوطنية، ودعم قيمتها واستقرارها إزاء الدولار كعملة تداول عالمية. وبالتالي، التفكير المنطقي أن تعمد الدول والبنوك المركزية إلى استثمار مخزوناتها من «العملة الصفراء المتينة». فهو قابل للاستخدام كضمانة للاستدانة في الأسواق الدولية بفوائد متدنية للغاية. وهو أيضاً قابل لدر مردود عبر التأجير أو الإعارة لدول تحتاج إليه، إنما مع تحسّب سليم للمخاطر. وربما الأهم حالياً جاذبيته النوعية للتمويل الإسلامي الفائض في الأسواق، مع تعظيم المردود المتوخّى كون التمويل الإسلامي في هذه الحالة يفوق التمويل التقليدي في التكلفة والجدوى وسرعة التعاقد».
ويستدرك سروع ليقول: «لكن هذه القواعد المجزية لا تتفق مطلقاً مع حالة لبنان المُزرية. فالوضع السياسي الشائك، والتدهور الاقتصادي، وانعدام التنافسية، وانهيار الليرة، وأزمة المالية العامة المستعصية، وتدني التصنيف الائتماني السيادي، وشلل قطاعات الإنتاج، كلها عوامل تتضافر للاستنتاج البديهي بأن الظروف غير مهيأة لمقاربة موضوع احتياطات الذهب. ثم إن حقيقة توزّع الكميات المخزّنة بين لبنان وسويسرا والولايات المتحدة، يضيف عقدة مهمة تجبه (حرية) أي قرار بالاستعمال. إذ أنها تتطلب مسبقاً مفاوضات شاقة لإقناع (المؤتمَنين) على الذهب بسلامة وشفافية استثماره في خدمة نهوض الاقتصاد والتنمية، وليس لغايات نقدية تؤدي إلى تبديده».
«هل توجد خيارات ذات أسبقية وأفضلية؟» يسأل الخبير في الصيرفة الاستثمارية ويجيب: «نعم... لبنان يملك أصولاً تتناسب مع مواصفات التمويل في الأسواق الدولية، وبالأخص التمويل الإسلامي، ما يؤمّن له تدفقات يحتاج إليها بالعملات الأجنبية؛ فإذا انتظمت الدول ومؤسساتها في مسار سياسي سليم، والتزمت خطة إصلاح هيكلية شاملة، يمكن اللجوء إلى تسنيد و/ أو توريق العوائد التي تجبيها مؤسسات مربحة تملكها الدولة، على غرار قطاعات الاتصالات والمنافذ البحرية والجوية والأملاك البحرية وشركتي (إنترا) و(طيران الشرق الأوسط). ويمكنها أن تؤسس بذلك لاحقاً لتسنيد العوائد المرتقبة من ثروة الغاز والنفط الموعودة في المياه الإقليمية».
- أولوية الحلول السياسية والاستقرار الداخلي
ويتابع سروع: «استباقاً، هناك أولوية الحلول السياسية وإرساء دعائم الاستقرار الداخلي. هذا هو المدخل الإلزامي للشروع بتنفيذ خطة متكاملة لإعادة هيكلة اقتصادية ومالية، وإعادة بناء شبكة أمان اجتماعي شاملة ومستدامة. هذه محطات حيوية دونها صعوبات كثيرة ينبغي مقاربتها بعقلانية، وفي مقدمها فتح خطوط الإمداد المالي الخارجي عبر صندوق النقد الدولي والتجاوب مع المبادرة الفرنسية التي تتضمّن وعوداً على أعلى مستوى بإنعاش التزامات مؤتمر (سيدر). فضلاً عن أهمية تطوير الموارد البشرية واعتماد الفكر المصرفي الحديث المرتكز على إدارة المخاطر وبناء التنافسية المتقدمة، وإعادة هيكلة جذرية على كل الصعد البشرية والإدارية والتنظيمية».
ويجزم سروع بأن «المطلوب في المقام الأول هو إعادة الثقة في الدولة، وباستعادتها سيادتها واعترافها وليس تنصلها من مسؤولياتها، بما يشمل الإيفاء بديونها وتعهدها المطلق بإيفاء دينها السيادي. وهي محطة الانطلاق لتفعيل الدولة وإنتاجيتها وتعزيز شفافيتها، وتحقيق الإصلاحات المطلوبة من الخارج كما من الداخل. إن إعادة التموضع السياسي السليم مهمة واجبة لمصلحة البلد. وتستجيب طرداً لمطلب الإصلاح الذي ينشده المواطنون وغالبية الدول المانحة للبنان. ويعبّد الطريق لانطلاقة جدية لأية خطة تعافٍ للبلد بشقيها الآني والاستراتيجي، فتصبح حقاً دولة في خدمة الوطن واقتصاده ومواطنيه».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.