ملف التدخل الروسي يحضر بقوة في الانتخابات الأميركية

محامي ترمب الشخصي جولياني كان هدفاً للاستخبارات الروسية

أجهزة الاستخبارات حذرت ترمب من أن محاميه الشخصي رودي جولياني كان هدفاً لعملية تأثير نفذتها الاستخبارات الروسية في أوكرانيا (أ.ب)
أجهزة الاستخبارات حذرت ترمب من أن محاميه الشخصي رودي جولياني كان هدفاً لعملية تأثير نفذتها الاستخبارات الروسية في أوكرانيا (أ.ب)
TT

ملف التدخل الروسي يحضر بقوة في الانتخابات الأميركية

أجهزة الاستخبارات حذرت ترمب من أن محاميه الشخصي رودي جولياني كان هدفاً لعملية تأثير نفذتها الاستخبارات الروسية في أوكرانيا (أ.ب)
أجهزة الاستخبارات حذرت ترمب من أن محاميه الشخصي رودي جولياني كان هدفاً لعملية تأثير نفذتها الاستخبارات الروسية في أوكرانيا (أ.ب)

من غير المرجح أن تنتهي فصول ما بات يعرف بـ«ملف التدخل الروسي» ودوره في الانتخابات الأميركية، التي ارتفعت وتيرة حماوتها مع اقتراب موعد الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني). لا بل هناك من يعتقد أنه سواء نجح الرئيس دونالد ترمب أو منافسه الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة، فمن غير المرجح أن يتم إقفال هذا الملف، بل ستزداد أهميته. وأمس، كشفت وسائل إعلام أميركية عدة عن قيام أجهزة الاستخبارات الوطنية الأميركية بتحذير الرئيس ترمب من أن محاميه الشخصي رودي جولياني كان هدفاً لعملية تأثير نفذتها الاستخبارات الروسية، بحسب مسؤولين سابقين.
غير أن توقيت الكشف عن هذه الحادثة سلط الضوء أيضاً على «الحرب الخفية والمعلنة»، بين معسكري ترمب وبايدن في سياق حرب المعلومات والفضائح المتبادلة بينهما لتشويه سمعة الآخر في انتخابات، بات الجميع ينظر إلى أهميتها في التاريخ الأميركي الحديث.
وبحسب المعلومات التي تم كشفها، فقد استندت التحذيرات إلى مصادر متعددة، بما في ذلك الاتصالات التي تم اعتراضها، والتي أظهرت أن جولياني كان يتفاعل مع أشخاص مرتبطين بالمخابرات الروسية خلال زيارته أوكرانيا في ديسمبر (كانون الأول) 2019، خلال سعيه لجمع معلومات يعتقد أنها ستكشف عن أعمال فاسدة لمنافسه جو بايدن وابنه هنتر. لكن كشف المعلومات هذه جاء بعد يوم واحد على حملة الانتقادات التي تعرض لها موقعا «فيسبوك» و«تويتر»، بسبب حجبهما مقالاً عن القضية نشرته صحيفة «نيويورك بوست»، كشفت فيه عن رسائل إلكترونية قالت إنها حصلت عليها من أوساط مقربة من ترمب، تتطابق إلى حد بعيد مع المعلومات عن التحذيرات التي تلقاها ترمب عن جولياني وعن الملف الأوكراني.
وبحسب المسؤولين السابقين، الذين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة معلومات ومحادثات حساسة، فقد أثارت المعلومات الاستخباراتية مخاوف من استخدام جولياني لتزويد الرئيس بمعلومات «روسية مضللة». وقال أحد المسؤولين السابقين إن التحذيرات إلى البيت الأبيض، التي جرت العام الماضي، ولم يتم الإبلاغ عنها من قبل، دفعت مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين إلى تحذير ترمب في محادثة خاصة من أن أي معلومات يحضرها جولياني من أوكرانيا، يجب اعتبارها ملوثة من قبل روسيا. وكانت رسالته للرئيس هي: «افعل ما تريد القيام به، لكن صديقك رودي جرى التلاعب به من عملاء روس في أوكرانيا». ويوضح أحد المسؤولين أن الهدف كان «حماية الرئيس من الخروج وقول شيء غبي»، لا سيما أنه يواجه مساءلة بشأن جهوده الخاصة في حض الرئيس الأوكراني على التحقيق مع بايدن. يذكر أن اللجنة القضائية في مجلس النواب كانت قد صوتت في تلك الفترة على المضي قدماً في إجراءات عزل الرئيس، حين قام جولياني بزيارة البيت الأبيض في 13 ديسمبر (كانون الأول). لكن أوبراين خرج من الاجتماع غير متأكد مما إذا كان التحذير قد وصل إلى الرئيس. وقال المسؤول السابق إن ترمب «هز كتفيه» بعد تحذير أوبراين، ورفض القلق بشأن أنشطة محاميه بقوله: «هذا رودي».
وتؤكد تحذيرات المسؤولين بشأن جولياني قلق مجتمع الاستخبارات الأميركية من أن روسيا لا تسعى فقط إلى تكرار حملة التضليل التي شنتها في عام 2016، ولكن قد تتلقى الآن المساعدة، عن قصد أو بغير قصد، من قبل أفراد مقربين من الرئيس. وفيما أكد المسؤولون السابقون أن جولياني لم يكن تحت مراقبة الاستخبارات الأميركية أثناء وجوده في أوكرانيا، لكنهم أشاروا إلى أنه كان يتعامل مع «أصول روسية» يشتبه فيها كانت تحت المراقبة، ما أدى إلى الاستماع إلى بعض اتصالاته معها.
وبحسب تلك الاتصالات، فقد بدا جولياني مهتماً بالحصول على معلومات عن شركة «باريسما هولدنغ» الأوكرانية للطاقة، حيث شغل هانتر بايدن مقعداً في مجلس إدارتها، بالإضافة إلى أنشطة بايدن في أوكرانيا والصين ورومانيا. ويضيف هؤلاء أن شغف جولياني كان واضحاً جداً «لدرجة أن الجميع في مجتمع الاستخبارات ممن يعرفون ذلك، كانوا يتحدثون عن مدى صعوبة محاولة إقناعه بالتوقف، وإبلاغه بأنه كان يستخدم كقناة لإيصال المعلومات». وقال أحد المسؤولين السابقين الذي روى تدخل أوبراين، إن العديد من كبار مسؤولي الإدارة «لديهم فهم مشترك» بأن جولياني كان مستهدفاً من قبل الروس، من بينهم وزير العدل وليام بار، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر وراي ومستشار البيت الأبيض بات سيبولوني. ونقل العديد من وسائل الاعلام الأميركية يوم الخميس، ردود فعل مختلفة عن مسؤولين في البيت الأبيض وردود فعلهم على تلك المعلومات، في حين نشر بعضها نص رسالة نصية للمحامي جولياني، قال فيها إنه لم يتم إبلاغه أبداً بأن أندريه ديركاش، النائب المؤيد لروسيا في أوكرانيا الذي التقاه في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) الماضي في كييف، هو أحد أصول الاستخبارات الروسية.
وأضاف جولياني أن هذا الرجل «كانت لديه معلومات ثانوية فقط ولم أكن أعتبره شاهداً». لكن جولياني التقى بديركاش مرة أخرى في نيويورك بعد شهرين، واستضافه في البودكاست الخاص به، وروج لمزاعمه التي لا أساس لها بشأن بايدن، واصفاً ديركاش بأنه كان «مفيداً جداً»، بحسب واشنطن بوست. وعاقبت وزارة الخزانة الأميركية ديركاش في سبتمبر (أيلول) بزعم إدارته «حملة نفوذ ضد بايدن»، واصفة إياه «بالعميل الروسي النشط لأكثر من عقد، وحافظ على علاقات وثيقة مع أجهزة المخابرات الروسية». وفي أغسطس (آب)، وصف مكتب مدير المخابرات الوطنية ديركاش بأنه جزء من جهد روسي للتدخل في انتخابات 2020 لتشويه سمعة بايدن. واتهمه «بنشر ادعاءات حول الفساد، بما في ذلك الإعلان عن مكالمات هاتفية مسربة لتقويض سمعة بايدن والديمقراطيين».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟