الهويات الاجتماعية... «تعرية الجذور» أو مواجهة الفوضى الشاملة

تكوين معقّد يقوم على تداخل عناصر عدة

هيغل  -  جان بول سارتر  -  فرانز فانون
هيغل - جان بول سارتر - فرانز فانون
TT

الهويات الاجتماعية... «تعرية الجذور» أو مواجهة الفوضى الشاملة

هيغل  -  جان بول سارتر  -  فرانز فانون
هيغل - جان بول سارتر - فرانز فانون

تحتمل فكرة الفيلسوف الألماني هيغل الشهيرة (في «فينومينولوجيا الرّوح - 1807») حول اكتساب البشر وعيهم الذاتي من خلال نظرة الآخر معنى يتجاوز المعنوي والحاجة السيكولوجية المحضة إلى المعرفي؛ إذ يستحيل بالفعل تأكيد تصوراتنا عن ذواتنا وقدراتنا وترقيتها إلى مستوى هوية عملية دون التأكيد عليها من قبل الأفراد الآخرين الذين نختلط بهم (والمجتمع ككل). فـ«الطريق إلى معرفة دواخلنا تمرّ بالضرورة عبر الآخر» كما يقول الفيلسوف الفرنسي سارتر (في «الوجود والعدم – 1943»).
لكن تلك الصيغة ليست تبادلية تعاونية بالمطلق؛ إذ ليس هناك ما يضمن أن تكون التغذية الراجعة التي نحصل عليها من الآخرين منزّهة عن عيوب الحكم والإدراك أو حتى الانحياز والهوى الشخصي. بل وتحدّث هيغل عن نوع من استحالة لتحقق اعتراف متبادل بين الأفراد عند اختلاف مواقعهم الاجتماعية: بين السيّد والخادم مثلاً؛ إذ إن السيّد سيرى نفسه دائماً بحكم ثقافته وآيديولوجيته أرفع مكانة من خادمه، وخبراته الذاتية ذات قيمة أكبر وأعمق، وأفكاره تستحق الانتباه والتقدير مقارنة بضآلة ما قد يقدّمه الخادم. وهي دون شك تصورات استباقية قد تجانب الصواب تماماً، وتتسبب بصعوبات عميقة للأشخاص الذين يحصلون على تقييم سلبي أو غير عادل في بناء احترام ذواتهم ونظرتهم لوجودهم ومشاريعهم على أنها ذات قيمة، ويعيق تطورهم النفسي والاجتماعي، لا سيما إذا كانت تصورات السادة الاستباقية تلك مرتبطة بآيديولوجية المجتمع ككل، ومنبثقة منها. وليس الخطر هنا - طبقيّاً كان وفق هيغل أو متعلقاً بالعنصرية العرقية وضحايا الاستعمار كما عند فانون (في «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء - 1952») - مقتصراً على نفسيات الأفراد، بل إن ثمة ضرراً اجتماعياً كبيراً على مستوى المجتمع الأهلي عامة يقع عند الحط من قدر مجموعة منه، سواء لناحية حرمانه إمكانات وطاقات تلك المجموعة، أو لانعدام سعة هؤلاء على الاشتراك في الحياة العامة بصفة متزنة، أو حتى تكوينهم شعوراً حقيقياً بالانتماء له.
ومن جهة أخرى، فإن سوء التقييم للآخر قد يكون بإضافة كسولة لهالة مبالغٍ بها حول معرفتهم أو خبرتهم أو قدراتهم على نحو يتسبب في منحهم ثقة لا يستحقونها، فيعرّضون بذلك المجتمع ككل إلى أخطار جمّة.
بالطبع يدرك السياسيون - ربما أكثر من غيرهم – خطورة تلك الهويات الاجتماعية المفروضة على الأشخاص بحكم وظائفهم أو عرقهم أو قوميتهم، وكثيراً ما يوظفونه للإيحاء بمواقف قد لا تكون صحيحة بالكلية. ففي المملكة المتحدة سارع بوريس جونسون فور تكليفه تشكيل حكومة جديدة في البلاد إثر الانتخابات العامة ديسمبر (كانون الأول) الماضي (2019) إلى تطعيم فريقه بكثير من الوجوه المنحدرة من أصول مهاجرة باكستانية وهندية، محاولاً الإيحاء ببريطانيا عصرية لمواطنيها كافة إثر خروجها من الاتحاد الأوروبي، وأن السلّم الاجتماعي مفتوح على مصراعيه للأقليات. لكن الحقيقة، أن تلك الكوادر كانت أكثر تطرفاً في السياسات التي تبنتها ضد المهاجرين ومجتمعاتهم، وبذلت الجهد الكبير للظهور بموقف الاصطفاف على يمين رئيس الوزراء اليميني، وأضرّت بالأقليات بأكثر مما قد يتجاسر عليه وزراء بريطانيون من ذوي البشرة البيضاء. وفي الولايات المتحدة كذلك عيّن الرئيس دونالد ترمب أميركياً من ذوي الأصول الأفريقية – بين كارسون – في منصب الوزير المعني بالتطوير الحضري والإسكان (العام المخصص لذوي الدخول المتدنية – وغالبيتهم من السود - ). لكن كارسون لم تكن لديه أي خبرة بالإسكان، ولم يسبق له أن أقام في إسكانات عامة من قبل، فهو جراح أعصاب مشهور وابن عائلة ثرية، وقد تسببت سياساته الإسكانية لاحقاً في توسيع الفجوة الطبقية والاقتصادية بين السكان على نحو يضرّ أساساً بالأقليات – ومنهم السود –، في حين تمنح امتيازات إضافية للمقتدرين اقتصادياً. وهو تماماً ما كررته قيادة الجيش الأميركي عندما أعلنت عشية الاضطرابات الواسعة التي تسبب فيها مقتل أميركي من أصول أفريقيّة اختناقاً بينما كان يتم اعتقاله من قبل الشرطة عن تعيين تشارلز براون – الأسود البشرة - قائداً لسلاح الجو في محاولة لإظهار أن مناصب السلطة العليا ليست محصورة بذوي البشرة البيضاء، في حين يعلم المطلعون على دواخل الجيش الأميركي، أن الأغلبية الساحقة لقياداته تظل مع ذلك من الأكثرية البيضاء.
ولعل مما يفاقم خطورة الهويات الاجتماعية المفروضة على الأفراد حقيقة أنها تكوين معقّد يقوم على تداخل عناصر عدة تختلف أهميتها بحسب اللحظة. فهناك الجنسية (وبعضنا قد يحمل أكثر من واحدة منها) والجندر والعرق والإثنية (أو تدرجات منها بالطبع) والدين (والطائفة أحياناً) والمجموعة العمرية والطبقة الاجتماعية والحالة الصحية، وغيرها، وهذه جميعها قد تخضع بشكل أو بآخر لمحاولة الفرد إظهارها أو إخفاءها (بطريقة اختيار الثياب مثلاً).
هذه التركيبة المتشابكة قد تفقد في النهاية أي قيمة عملية لها لناحية إغناء التبادل الاجتماعي بين الأفراد، وقد تقود إلى وقوعهم في أخطاء معرفية أو تحوّلهم ضحايا لتوظيفات سياسية فاسدة.
الضوء الوحيد هنا يقتصر ربما على حقيقة أن الهويات الاجتماعية ليست قدراً محتماً، وهي بالمعاني التي تكتنفها في عين مجموعة بشرية معينة معمار مجتمعي محض نتج من خبرات لها في مراحل تاريخية معينة كالحروب والثورات والاستعمار وتجارة العبيد واستيطان أراضي الغير، وغالباً تحت تأثير عمل مؤدلج متعمّد اقترفته نخبة ما خدمة لمصالحها، وأن تعرية تلك الجذور قد تمنح المجتمعات فرصة لإعادة النظر في كثير منها. لكن هذه مهمة لا يرتجى منها الكثير إذا اقتصرت على أفراد قليلين؛ إذ هم في النهاية مهما غيّروا أفكارهم الذاتية بشأن هويات اجتماعية محددة، فهم مضطرون إلى التعامل مع الصورة الجمعية الغالبة، التي وإن كانت متخيلة إلا أنها واقعية، وتنعكس عملياً على سلوك معظم الأفراد تماماً كما لو حقيقية (وهذا ما يبرر سعي البعض إلى الهجرة أحياناً كطريقة للهرب من الاستجابات الاجتماعية السلبية التي ترتبط بهوية اجتماعية ما ضمن مجموعة معينة. فالمكسيكيون في أوروبا على سبيل المثال، لا يعانون من النظرة الدونية التي يتعاطى بها معهم المجتمع الأميركي، وهكذا). ولذلك؛ فإن مهمة «تعرية الجذور» ينبغي أن تكون خياراً مجتمعياً تبذل لأجله جهود وميزانيات وموارد بشرية، ويوجّه في إطار سياسات استراتيجية عبر مختلف أدوات إنتاج الآيديولوجيا من المدارس إلى الجامعات، ومن وسائل الإعلام إلى القوانين، مع الاستعانة بسياسات لتفكيك العوامل الاقتصادية أو المعيشية التي تكرّس المعاني السلبية الملصقة بهويات معينة، وتطعيم المناصب العامة والمؤثرة في المجتمع بممثلين عن أصحاب تلك الهويات.
وهذه بالطبع تتطلّب إرادة عامة قادرة على كسر احتكار علاقات القوة التي قد يكون في مصلحة بعضها على الأقل إبقاء الأوضاع التمييزية ضد هويات معينة كما هي دون تغيير.
ليس أمر «تعرية الجذور» – كما أثبتت الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة – مجرد ترف نظري يوتوبي النزعة يقتصر التأمل بشأنه على المثقفين والمتخصصين، بل هو اليوم وأكثر من أي وقت مضى حاجة عملية ماسّة إن أرادت المجتمعات المعاصرة إصلاح حالة تفاقم انعدام العدالة فيها والتأزم، الاقتصادي – السياسي – الاجتماعي الناتج منها والذي لا بدّ سينتهي مهما تأجل إلى انفجار ينذر بالتحوّل إلى فوضى شاملة تطيح بأصحاب الامتيازات قبل غيرهم.



وسط انتشار حوادث الطيران... هل هناك مقاعد أكثر أماناً على متن الطائرة؟

يعتقد كثيرون أن الجلوس بمؤخرة الطائرة أكثر أماناً من الجلوس في المقدمة (رويترز)
يعتقد كثيرون أن الجلوس بمؤخرة الطائرة أكثر أماناً من الجلوس في المقدمة (رويترز)
TT

وسط انتشار حوادث الطيران... هل هناك مقاعد أكثر أماناً على متن الطائرة؟

يعتقد كثيرون أن الجلوس بمؤخرة الطائرة أكثر أماناً من الجلوس في المقدمة (رويترز)
يعتقد كثيرون أن الجلوس بمؤخرة الطائرة أكثر أماناً من الجلوس في المقدمة (رويترز)

شهد العالم، خلال الأسبوعين الماضيين، تحطم طائرتين؛ إحداهما تابعة للخطوط الجوية الأذربيجانية في كازاخستان، والأخرى تابعة لشركة «جيجو إير»، وهي أكبر شركة طيران منخفض التكلفة في كوريا الجنوبية.

وقُتل في الحادث الأول 38 شخصاً، ونجا 29 راكباً، في حين قُتل جميع ركاب طائرة «جيجو إير»، باستثناء اثنين.

وبعد هذين الحادثين، انتشرت التقارير المتعلقة بوجود أماكن معينة على متن الطائرة أكثر أماناً من غيرها.

فقد أكد كثيرون صحة المعتقد القديم بأن الجلوس في مؤخرة الطائرة أكثر أماناً من الجلوس في المقدمة، مشيرين إلى أن حطام طائرة الخطوط الجوية الأذربيجانية وطائرة «جيجو إير» يؤكد هذا.

فقد كان الناجون التسعة والعشرون من حادث تحطم الطائرة الأذربيجانية يجلسون جميعاً في مؤخرة الطائرة، التي انقسمت إلى نصفين، تاركة النصف الخلفي سليماً إلى حد كبير. وفي الوقت نفسه، كانت المضيفتان اللتان جلستا في مقعديهما القابلين للطي في ذيل الطائرة، هما الناجيتين الوحيدتين من حادث تحطم الطائرة الكورية الجنوبية.

فهل هذا المعتقد صحيح بالفعل؟

في عام 2015، كتب مراسلو مجلة «تايم» أنهم قاموا بفحص سجلات جميع حوادث تحطم الطائرات في الولايات المتحدة، سواء من حيث الوفيات أم الناجين من عام 1985 إلى عام 2000، ووجدوا، في تحليل تلوي، أن المقاعد في الثلث الخلفي من الطائرة كان معدل الوفيات فيها 32 في المائة بشكل عام، مقارنة بـ38 في المائة في الثلث الأمامي، و39 في المائة في الثلث الأوسط.

كما أشاروا إلى أن المقاعد الوسطى في الثلث الخلفي من المقصورة كانت هي الأفضل، بمعدل وفيات 28 في المائة. وكانت المقاعد «الأسوأ» هي تلك الواقعة على الممرات في الثلث الأوسط من الطائرة، بمعدل وفيات 44 ف المائة.

إلا أنه، وفقاً لخبراء سلامة الطيران فهذا الأمر ليس مضموناً في العموم.

ويقول حسن شهيدي، رئيس مؤسسة سلامة الطيران، لشبكة «سي إن إن» الأميركية: «لا توجد أي بيانات تُظهر ارتباطاً بين مكان الجلوس على متن الطائرة والقدرة على البقاء على قيد الحياة. كل حادث يختلف عن الآخر».

من جهته، يقول تشنغ لونغ وو، الأستاذ المساعد في كلية الطيران بجامعة نيو ساوث ويلز في سيدني: «إذا كنا نتحدث عن حادث تحطم مميت، فلن يكون هناك أي فرق تقريباً في مكان الجلوس».

أما إد غاليا، أستاذ هندسة السلامة من الحرائق في جامعة غرينتش بلندن، والذي أجرى دراسات بارزة حول عمليات إخلاء حوادث تحطم الطائرات، فقد حذر من أنه «لا يوجد مقعد سحري أكثر أماناً من غيره».

ويضيف: «يعتمد الأمر على طبيعة الحادث الذي تتعرض له. في بعض الأحيان يكون المقعد الأمامي أفضل، وأحياناً أخرى يكون الخلفي آمن كثيراً».

ويرى مختصون أن للمسافر دوراً في تعزيز فرص نجاته من الحوادث عبر عدة طرق، من بينها الإنصات جيداً إلى تعليمات السلامة، وقراءة كتيب تعليمات الأمان المتوفر بجيب المقعد أمامك، ودراسة مخارج الطوارئ جيداً، وتحديد الأقرب إليك، وتجنب شركات طيران ذات سجل السلامة غير الجيد.