موسكو تنشّط اتصالاتها الدبلوماسية والعسكرية لمحاصرة التدهور في قره باغ

آثار الدمار لمنازل متضررة من قصف مدفعي على منطقة ناغورنو قره باغ (أ.ب)
آثار الدمار لمنازل متضررة من قصف مدفعي على منطقة ناغورنو قره باغ (أ.ب)
TT

موسكو تنشّط اتصالاتها الدبلوماسية والعسكرية لمحاصرة التدهور في قره باغ

آثار الدمار لمنازل متضررة من قصف مدفعي على منطقة ناغورنو قره باغ (أ.ب)
آثار الدمار لمنازل متضررة من قصف مدفعي على منطقة ناغورنو قره باغ (أ.ب)

نشّطت موسكو اتصالاتها مع طرفي النزاع في قره باغ، ومع الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة، بهدف إنقاذ الهدنة الهشة التي أُعلنت السبت، على خلفية اتساع نطاق الخروقات من الجانبين الأذري والأرميني في اليوم الثالث بعد توقيع اتفاق وقف النار.
وفيما تبادل الطرفان الأرميني والأذري الاتهامات بالمسؤولية عن تدهور الوضع على عدد من محاور القتال، بدت الهدنة «صامدة» أمام الخروقات المتعددة، وفقاً لوصف دبلوماسي روسي قال إن «التدهور الحاصل لم يؤدِّ إلى انهيار اتفاق وقف النار»، لكنه لفت إلى ضرورة تسريع التحركات الجارية حالياً، بهدف منع الوضع من الانزلاق مجدداً نحو مواجهة واسعة.
ورغم الدعوات الروسية والغربية، لفتت وزارة الدفاع الأذرية إلى تسجيل عدد من الخروقات من الجانب الأرميني، وقالت إن قصفاً أرمينياً استهدف عدداً من المناطق. ولفت بيان عسكري إلى قيام القوات الأذرية بمواجهة «محاولات شن هجوم معاكس أرميني في عدد من القطاعات». وأضافت الوزارة أن قواتها «دمرت عدداً كبيراً من المعدات المعادية بما في ذلك راجمات صواريخ (بي إم 21) و(غراد) ومنظومة صواريخ مضادة للطائرات ومدفع مضاد للطائرات، إضافة إلى ثلاث طائرات مسيّرة».
في المقابل نفت يرفان صحة هذه المعطيات، وقالت وزارة الدفاع الأرمينية إن القوات الأذرية شنّت فجر أمس (الثلاثاء)، هجوماً واسعاً على أكثر من محور على خطوط التماس.
وكتبت الناطقة الصحافية باسم وزارة الدفاع الأرمينية شوشان ستيبانيان أن «الوضع على خطوط التماس كان متوتراً لكنه مستقر إلى حد ما طوال الليل»، وأضافت أن «قوات العدو استأنفت فجراً عمليات مصحوبة بقصف صاروخي ومدفعي كثيف» على مختلف المحاور، ولا سيما في القطاع الشمالي الشرقي.
في حين أفاد المسؤول في الوزارة أرتسرون هوفانيسيان، بأن «القوات الأذرية تحولت إلى الهجوم على كل محاور خطوط التماس تقريباً».
وأعلنت يريفان أن قواتها نجحت في تدمير «خمس طائرات من دون طيار و7 آليات مدرعة، فضلاً عن مقتل 220 عسكرياً أذرياً خلال الساعات الـ24 الماضية، لتبلغ حصيلة خسائر أذربيجان 173 طائرة مسيّرة و16 مروحية و18 طائرة و521 قطعة من المدرعات إضافة إلى 5139 قتيلاً».
وانعكس تصاعد الأعمال القتالية وتزايد الخروقات على تنفيذ بنود اتفاق وقف النار، وأشار مستشار رئيس الوزراء الأرميني فاغارشاك أروتينيان، إلى «تعذر تبادل الأسرى مع أذربيجان في إقليم قره باغ، بسبب عدم تحقيق وقف إطلاق النار التام المتفق عليه».
وقال أروتينيان إن الصليب الأحمر الذي من المفترض أن تجري تحت رعايته عملية تبادل الأسرى، سيبدأ بتنفيذ هذه المهمة فور وقف إطلاق النار.
وأشار إلى أن الجانبين الأرميني والأذري لا يستطيعان الشروع في تبادل الأسرى حالياً، لكنه لفت إلى «ثبات الهدنة الإنسانية المعلنة على معظم محاور التماس».
ويرى الخبير في المركز الجورجي للتحليل الاستراتيجي غيلا فاسادزي، لوكالة الصحافة الفرنسية، أن «أذربيجان سجّلت بعض الإنجازات العسكرية، لكن باكو بعيدة كل البُعد عن السيطرة على قره باغ»، مشيراً إلى «مأزق دبلوماسي وعسكرية».
في غضون ذلك، نشطت موسكو اتصالاتها لمحاصرة تفاقم الموقف، واللافت أن هذه الاتصالات شملت المستويين الدبلوماسي والعسكري، وأعلنت وزارة الدفاع أن الوزير سيرغي شويغو، أجرى اتصالات هاتفية مع نظرائه في باكو ويريفان وأنقرة، ركزت على ضرورة وقف التصعيد من الجانبين والالتزام الكامل ببنود الهدنة الإنسانية.
وانفصل إقليم ناغورني قره باغ ذو الغالبية الأرمينية، عن أذربيجان بعد حرب أوقعت 30 ألف قتيل في تسعينات القرن الماضي. والمعارك الجارية حالياً هي الأخطر منذ وقف إطلاق النار المعلن عام 1994، وبعد ثلاثين عاماً من مأزق دبلوماسي، تعهد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف استعادة السيطرة على المنطقة.
في الأثناء، أجرى نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودينكو محادثات في موسكو، مع دبلوماسيين أميركيين وأوروبيين في إطار «مجموعة مينسك» التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
وأفاد بيان أصدرته الخارجية الروسية بأن المحادثات تناولت «الخطوات المحتملة الهادفة إلى تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها خلال الاجتماع بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ووزير الخارجية الأذري جيحون بيراموف، ووزير الخارجية الأرميني زوغراب مناتساكانيان في 10 أكتوبر (تشرين الأول) في موسكو». وأكدت أطراف المحادثات «الاهتمام بمواصلة الجهود الجماعية الرامية إلى نزع التوتر في إطار الاستناد إلى المبادئ التي حددها البيان الروسي الأميركي الفرنسي المشترك الصادر في مطلع الشهر». وكان بيان الرؤساء المشاركين في «مجموعة مينسك» قد دعا طرفي النزاع إلى وقف القتال فوراً واستئناف الحوار السياسي للتوصل إلى تسوية للأزمة في قره باغ.
كما أجرى وزير الخارجية سيرغي لافروف محادثات هاتفية أمس، مع مفوض الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، تناولت تطورات الوضع في قره باغ والاتصالات الجارية مع الأطراف المختلفة لتسوية هذا الملف.
على صعيد متصل، أعربت وزارة الدفاع الروسية عن «قلق بالغ» حيال المعطيات عن استمرار «زج مسلحي جماعات إرهابية من الشرق الأوسط إلى منطقة النزاع في إقليم قره باغ».
ويؤكد المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 119 مسلحاً سورياً موالياً لأنقرة على الأقل منذ بداية المواجهات من أصل 1450 منتشرين في قره باغ.
وأفاد مصدر مسؤول في الوزارة في حديث مع الصحافيين أمس، بأن الوزير شويغو «أبلغ نظيره التركي خلوصي أكار بالموقف الروسي وأعرب عن قلق جدي بسبب هذا الوضع». وكان شويغو وأكار قد أجريا مكالمة هاتفية، الاثنين، تناولت الوضع في قره باغ.
وزاد المسؤول أن «وزارة الدفاع الروسية تشارك بنشاط ضمن اختصاصاتها في تنفيذ مبادرات روسيا الرامية إلى استقرار الوضع بشكل سريع في قره باغ».
وقال إن «الهدف الأساسي للاتصالات التي أجراها شويغو خلال اليومين الماضيين يتمثل في ضرورة التوصل إلى الوقف الفوري للقتال في قره باغ والانتقال إلى مفاوضات بين الأطراف المتنازعة من أجل تسوية الوضع في المنطقة».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟