«جوائز نوبل» 2020... صناعة العلم قبل تطبيقه

كرمت اكتشاف نظرية «الثقب الأسود» وآلية «المقص الجيني» و«فيروس سي»

روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
TT

«جوائز نوبل» 2020... صناعة العلم قبل تطبيقه

روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته

بينما يريد العالم إنجازات مبهرة وسريعة لكل شيء، وخاصة التهديدات الهائلة مثل فيروس «كورونا» والاحتباس الحراري، تذكرنا جوائز نوبل في الطب والفيزياء والكيمياء التي أعلنت الأسبوع الماضي أنه في العلم، قد يؤتي كل من البطء والثبات، ثماره.
وتتجه الأنظار دوما إلى التطبيق الذي يخرج البحث العلمي من نطاق المختبر ليكون دواء أو لقاحا أو منتجا، غير أن اللجنة العلمية لجائزة نوبل تبحث دوما عن أصحاب الأبحاث التي صنعت العلم، قبل أن يتحول هذا العلم إلى تطبيق، وهذا ما يسمونه بـ«العلوم الأساسية»، والتي تظهر الآثار المترتبة عليها بعد سنوات أو عقود من الاكتشاف.
وفي الوقت الذي يظن فيه أصحاب هذه الاكتشافات أن إنجازهم طواه النسيان بعد أن توارى خلف التطبيقات التي أصبحت أهم فائدة بالنسبة للمجتمع، تأتي لجنة جائزة نوبل لتقول: لهم «نحن لم ننساكم».
وخلال الأسبوع الماضي قررت اللجنة العلمية لجائزة نوبل تكريم هؤلاء العمالقة في الطب والفيزياء والكيمياء، لأنه لولاهم ما توصل العالم إلى علاج لفيروس التهاب الكبد (سي)، وما تمكن العلماء في شهر أبريل (نيسان) 2019 من التقاط أول صورة للثقب الأسود، وما تمكن العالم من تطوير محاصيل تتحمل العفن والآفات والجفاف، وإجراء تجارب سريرية على علاجات جديدة للسرطان.
- قصة الثقب الأسود
كان الاحتفاء العالمي في أبريل العام الماضي بالتقاط أول صورة للثقب الأسود، ولم تمنح الجائزة لهؤلاء، لكنها منحت لمن اكتشفوا أن هناك شيئا اسمه ثقب أسود، وأن بالإمكان مراقبته وتحديد موقعه.
وأظهر الفائز الأول العالم البريطاني من جامعة أكسفورد (روجر بنروز)، والذي قررت اللجنة العلمية للجائزة منحه النصف الأول من الجائزة كاملا، الذي أشار إلى أن الثقوب السوداء نتاج مباشر للنظرية العامة للنسبية، بينما اكتشف الفائزان الآخران، اللذان ذهب لهما النصف الآخر، وهما العالم الألماني من معهد ماكس بلانك (راينهارد جينزل) والعالمة الأميركية من جامعة كاليفورنيا (أندريا غيز) أن جسماً ثقيلاً وغير مرئي يتحكم في مدارات النجوم في مركز مجرتنا، والثقب الأسود الهائل هو التفسير الوحيد المعروف حالياً.
واستخدم روجر بنروز أساليب رياضية بارعة في إثبات أن الثقوب السوداء هي نتيجة مباشرة لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، ولم يكن أينشتاين نفسه يعتقد أن الثقوب السوداء موجودة بالفعل، تلك الوحوش ذات الوزن الثقيل للغاية التي تلتقط كل ما يدخل إليها، ولا شيء يستطيع الهروب، ولا حتى الضوء.
ولإثبات أن تشكل الثقب الأسود عملية مستقرة، احتاج بنروز إلى توسيع الأساليب المستخدمة لدراسة نظرية النسبية ومعالجة مشاكل النظرية بمفاهيم رياضية جديدة.
وفي يناير (كانون الثاني) 1965، بعد عشر سنوات من وفاة أينشتاين، أثبت روجر بنروز أن الثقوب السوداء يمكن حقا تكوينها ووصفها بالتفصيل.
وكانت مسألة وجود الثقوب السوداء التي شغلت العلماء لعقود طويلة عادت إلى الظهور في عام 1963 مع اكتشاف الكوازارات (أشباه النجوم)، وهي ألمع الأجسام في الكون.
وكان السؤال الذي شغل العلماء حينها، هو من أين يأتي هذا الإشعاع المذهل القادم الكوارزار رغم حجمه المحدود؟ وكانت الإجابة أن هناك طريقة واحدة فقط للحصول على هذا القدر من الطاقة ضمن الحجم المحدود للكوارزار، وهي من سقوط المادة في ثقب أسود هائل.
وفي خريف 1964 أثناء نزهة لـ«روجر بنروز» مع زميل له في لندن، توقفا عن الحديث للحظة لعبور شارع جانبي، وظهرت حينها فكرة في ذهنه، سماها الأسطح المحاصرة، هي المفتاح الذي كان يبحث عنه دون وعي، وهي أداة رياضية ضرورية لوصف الثقب الأسود.
وتقوم فكرته على أن السطح المحاصر يجبر جميع الأشعة على الإشارة نحو المركز، بغض النظر عما إذا كان السطح منحنياً للخارج أو للداخل، وباستخدام الأسطح المحاصرة، تمكن من إثبات أن الثقب الأسود يخفي دائماً التفرد، وهو الحد الذي ينتهي فيه الزمان والمكان، وأن كثافته لا حصر لها.
وأضاف الباحثان الآخران «راينهارد جينزيل» و«أندريا غيز» دليلا آخر على وجود الثقب الأسود، حيث ركزا منذ أوائل التسعينات على منطقة تسمى (القوس A*) في مركز مجرة درب التبانة، وتم تعيين مدارات ألمع النجوم الأقرب إلى منتصف المجرة بدقة متزايدة.
وتتفق قياسات هاتين المجموعتين، مع العثور على جسم ثقيل للغاية وغير مرئي يسحب خليط النجوم، مما يجعلهم يندفعون بسرعة مذهلة، وكان الثقب الأسود الهائل هو التفسير الوحيد لهذه الظاهرة.
- تحرير الجينوم
وطبقت نتائج جائزة نوبل في الكيمياء نفس النهج وهو تكريم صناع العلم، فلم تذهب الجائزة للتطبيقات المتعددة التي أحدثتها تقنية تحرير الجينوم، المعروفة باسم (كريسبر- كاس 9)، لكنها ذهبت لمبتكري تلك التقنية، وهما العالمتان الفرنسية (إيمانويل شاربنتييه) والأميركية (جينيفر دودنا).
ويمكن للباحثين باستخدام أداة المقص الجيني (كريسبر- كاس 9) تغيير الحمض النووي للحيوانات والنباتات والكائنات الدقيقة بدقة عالية للغاية، وكان لهذه التكنولوجيا تأثير ثوري على علوم الحياة، وتساهم في علاجات جديدة للسرطان وقد تجعل حلم علاج الأمراض الوراثية يتحقق.
يقول كلاس جوستافسون، رئيس لجنة نوبل: «هناك قوة هائلة في هذه الأداة الجينية، والتي تؤثر علينا جميعاً، فهي لم تُحدث ثورة في العلوم الأساسية فحسب، بل أدت أيضاً إلى محاصيل مبتكرة وستؤدي إلى علاجات طبية جديدة رائدة».
وكان اكتشاف هذه المقصات الجينية غير متوقع، فخلال دراسات إيمانويل شاربينتييه حول بكتيريا تسمى (عقدية مقيحة) Streptococcus pyogenes))، وهي واحدة من البكتيريا التي تسبب أكبر ضرر للبشرية، اكتشفت جزيئا غير معروف سابقاً وهو (tracrRNA).
أظهر عملها أن (tracrRNA) هو جزء من جهاز المناعة القديم للبكتيريا الذي تستخدمه البكتيريا لحماية نفسها عن طريق شطر الحمض النووي الفيروسي.
ونشرت شاربينتييه اكتشافها عام 2011 وفي العام نفسه، بدأت تعاوناً مع جينيفر دودنا، عالمة الكيمياء الحيوية ذات الخبرة والمعرفة الواسعة بالحمض النووي الريبي، ونجحا معاً في إعادة إنشاء المقص الجيني للبكتيريا في أنبوب اختبار وتبسيط المكونات الجزيئية للمقص حتى يسهل استخدامه. وفي تجربة قام الاثنان بعد ذلك بإعادة برمجة المقص الجيني، حيث أثبتا أنه يمكن قطع أي جزيء من الحمض النووي.
ومنذ أن اكتشف الاثنان المقص الجيني عام 2012 انفجر استخدامه، وساهمت هذه الأداة في العديد من الاكتشافات المهمة في البحث الأساسي، وتمكن باحثو النبات من تطوير محاصيل تتحمل العفن والآفات والجفاف.
وفي الطب، تجري تجارب سريرية على علاجات جديدة للسرطان، وحلم القدرة على علاج الأمراض الموروثة على وشك أن يتحقق، فقد نقلت هذه المقصات الوراثية علوم الحياة إلى حقبة جديدة، تحقق أكبر فائدة للبشرية.
- عمالقة الطب وفيروس «سي»
وبينما حققت أكثر من دولة مؤخرا إنجازا في مجال الصحة باستخدام العلاجات الحديثة لفيروس (سي)، فإن اللبنة الأساسية في هذا الإنجاز كانت اكتشاف وجود الفيروس نفسه، ولولا حدوث ذلك، لظل قاتلا صامتا يحصد أرواح الملايين، لذلك ارتأت اللجنة العلمية لجائزة نوبل تكريم العلماء «هارفي جيه ألتر» و«مايكل هوتون» و«تشارلز إم رايس»، وهم أصحاب اكتشافات أساسية أدت إلى التعرف على فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي).
تبدأ قصة هذا الاكتشاف في أربعينات القرن الماضي، حيث أصبح من الواضح أن هناك نوعين رئيسيين من التهاب الكبد المعدي، الأول، المسمى التهاب الكبد (إيه)، وينتقل عن طريق الماء أو الطعام الملوث، وعادة ما يكون له تأثير ضئيل على المدى الطويل على المريض. والثاني ينتقل عن طريق الدم وسوائل الجسم ويمثل تهديداً أكثر خطورة، لأنه يمكن أن يؤدي إلى حالة مزمنة، مع تطور تليف الكبد وسرطان الكبد.
ومفتاح التدخل الناجح ضد الأمراض المعدية هو تحديد العامل المسبب، وفي الستينات، حدد (باروخ بلومبرغ)، أن أحد أشكال التهاب الكبد المنقول بالدم سببه فيروس أصبح يُعرف باسم فيروس التهاب الكبد (بي)، وأدى هذا الاكتشاف إلى تطوير اختبارات تشخيصية ولقاح فعال، وحصل بلومبرغ على جائزة نوبل في الطب عام 1976.
في ذلك الوقت، كان (هارفي ج. ألتر)، في المعاهد الوطنية الأميركية للصحة يدرس حدوث التهاب الكبد في المرضى الذين تم نقل الدم إليهم. ورغم أن اختبارات الدم لفيروس التهاب الكبد (بي) المكتشف حديثاً قللت من عدد حالات التهاب الكبد المرتبط بنقل الدم، أظهر ألتر وزملاؤه بشكل مقلق أنه لا يزال هناك عدد كبير من الحالات ليس لها علاقة بفيروس (بي) أو (إيه).
وأظهر ألتر وزملاؤه أن الدم من مرضى التهاب الكبد يمكن أن ينقل المرض إلى الشمبانزي، المضيف الوحيد المعرض للإصابة إلى جانب البشر، وأظهرت الدراسات اللاحقة أيضاً أن العامل المعدي غير المعروف له خصائص الفيروس.
حددت التحقيقات المنهجية التي أجراها ألتر بهذه الطريقة شكلاً جديداً ومتميزاً من التهاب الكبد الفيروسي المزمن، أصبح المرض الغامض معروفاً باسم التهاب الكبد «غير النوع (إيه)، غير النوع (بي)». وأصبح تحديد الفيروس الجديد أولوية قصوى الآن، لكنه استعصى لأكثر من عقد من الزمان.
وجاء هنا دور (مايكل هوتون)، الفائز الثاني بالجائزة، الذي يعمل في شركة الأدوية (تشيرون)، حيث قام بالعمل الشاق اللازم لعزل التسلسل الجيني للفيروس.
وابتكر هوتون وزملاؤه مجموعة من شظايا الحمض النووي من الأحماض النووية الموجودة في دم الشمبانزي المصاب، وجاءت غالبية هذه الشظايا من جينوم الشمبانزي نفسه، لكن الباحثين توقعوا أن بعضها مشتق من الفيروس المجهول.
وعلى افتراض أن الأجسام المضادة ضد الفيروس ستكون موجودة في الدم المأخوذ من مرضى التهاب الكبد، استخدم الباحثون أمصال المريض لتحديد شظايا الحمض النووي الفيروسي المستنسخة التي تشفر البروتينات الفيروسية. وبعد بحث شامل، تم العثور على نسخة إيجابية واحدة، وأظهر المزيد من العمل أن هذا الاستنساخ مشتق من فيروس (آر إن إيه) جديد، وكان اسمه فيروس التهاب الكبد (سي).
كان اكتشاف الفيروس حاسما، لكن كان هناك جزء مفقود من اللغز، وهو هل يمكن للفيروس وحده أن يسبب التهاب الكبد؟
وهنا جاء دور الفائز الثالث (تشارلز إم رايس)، الباحث في جامعة واشنطن في سانت لويس، حيث عمل جنباً إلى جنب مع مجموعات أخرى تعمل مع فيروسات الحمض النووي الريبي، واكتشف منطقة في نهاية جينوم فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) اشتبه في أنها قد تكون مهمة لتكاثر الفيروس، ومن خلال الهندسة الوراثية، أنتج رايس نوعاً مختلفاً من الحمض النووي الريبي لفيروس التهاب الكبد الوبائي سي شمل المنطقة المحددة من الجينوم الفيروسي، وعندما تم حقن هذا الحمض النووي الريبي في كبد الشمبانزي، تم اكتشاف فيروس في الدم ولوحظت تغيرات مرضية تشبه تلك التي شوهدت في البشر المصابين بالمرض المزمن، كان هذا هو الدليل النهائي على أن فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) وحده يمكن أن يتسبب في حالات التهاب الكبد غير المبررة بواسطة نقل الدم.


مقالات ذات صلة

تدهور صحة السجينة الإيرانية نرجس محمدي ونقلها إلى المستشفى

شؤون إقليمية نرجس محمدي (رويترز)

تدهور صحة السجينة الإيرانية نرجس محمدي ونقلها إلى المستشفى

وافقت السلطات الإيرانية على نقل السجينة الحائزة على جائزة نوبل للسلام نرجس محمدي إلى المستشفى بعد نحو تسعة أسابيع من معاناتها من المرض.

«الشرق الأوسط» (دبي)
الاقتصاد الخبير الاقتصادي سايمون جونسون بعد فوزه المشترك بجائزة نوبل في الاقتصاد بمنزله في واشنطن يوم الاثنين 14 أكتوبر 2024 (أ.ب)

الفائز بـ«نوبل الاقتصاد»: لا تتركوا قادة شركات التكنولوجيا العملاقة يقرّرون المستقبل

يؤكد الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد سايمون جونسون على ضرورة أن يستفيد الأشخاص الأقل كفاءة من الذكاء الاصطناعي، مشدداً على مخاطر تحويل العمل إلى آلي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق خلال إعلان الأكاديمية الملكية السويدية عن فوز ثلاثة أميركيين بجائزة نوبل للاقتصاد (رويترز)

«نوبل الاقتصاد» لـ 3 أميركيين

فاز خبراء الاقتصاد الأميركيون دارون أسيموغلو وسايمون جونسون وجيمس روبنسون، بجائزة «نوبل» في العلوم الاقتصادية، أمس، عن أبحاثهم في مجال اللامساواة في الثروة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
الاقتصاد شاشة داخل «الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم» خلال الإعلان عن جائزة «نوبل الاقتصاد» في استوكهولم (رويترز)

عقد من التميز... نظرة على الفائزين بجائزة «نوبل الاقتصاد» وأبحاثهم المؤثرة

على مدار العقد الماضي، شهدت «الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم» تتويج عدد من الأسماء اللامعة التي أحدثت تحولاً جذرياً في فهم الديناميات الاقتصادية المعقدة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
الاقتصاد خلال إعلان الأكاديمية الملكية السويدية عن فوز ثلاثة أميركيين بجائزة نوبل للاقتصاد (رويترز)

الفائزون الثلاثة بجائزة نوبل للاقتصاد... سيرة ذاتية

تنشر «الشرق الأوسط» سيرة ذاتية للفائزين الثلاثة بجائزة نوبل للاقتصاد والذين فازوا نتيجة أبحاثهم بشأن عدم المساواة بتوزيع الثروات.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)

أطلس الذكاء الاصطناعي لمرض السكري

أطلس الذكاء الاصطناعي لمرض السكري
TT

أطلس الذكاء الاصطناعي لمرض السكري

أطلس الذكاء الاصطناعي لمرض السكري

أطلقت مبادرة بحثية رائدة أول مجموعة بيانات رئيسة تربط بين العوامل البيئية والعلامات الحيوية ومرض السكري من النوع الثاني. وكشفت دراسة «أطلس الذكاء الاصطناعي الجاهز والعادل لمرض السكري» -التي تهدف إلى جمع البيانات من 4 آلاف مشارك متنوع بالفعل- عن روابط مثيرة للاهتمام بين تلوث الهواء وحالة مرض السكري، مع وضع معايير جديدة للبحث الصحي الشامل.

نظرة جديدة على مرض السكري

غالباً ما ركّزت أبحاث مرض السكري التقليدية على القياسات الطبية القياسية، لكن دراسة جديدة نُشرت في مجلة «Nature Metabolism» في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، تتبنى نهجاً مختلفاً تماماً، تجمع مبادرة «أطلس الذكاء الاصطناعي الجاهز والعادل لمرض السكري» (Artificial Intelligence Ready and Equitable Atlas for Diabetes Insights) (AI-READI) بين أجهزة الاستشعار البيئية ومسح العين ومقاييس الاكتئاب والعلامات البيولوجية، لرسم صورة أكثر اكتمالاً عن كيفية تطور مرض السكري من النوع الثاني وتقدمه.

ويتضمن الإصدار الأولي بيانات من 1067 مشاركاً، تُمثل الربع الأول من أهداف التسجيل الطموحة للدراسة. وكشفت النتائج الأولية بالفعل عن أنماط غير متوقعة، بما في ذلك وجود رابط واضح بين حالة المرض والتعرض لجزيئات صغيرة من تلوث الهواء.

آفاق جديدة في تنوع الأبحاث

تعمل مبادرة «أطلس الذكاء الاصطناعي» على إنشاء مجموعة بيانات كبيرة مصممة لأبحاث الذكاء الاصطناعي حول مرض السكري من النوع الثاني. وحتى الآن تم جمع بيانات من 25 في المائة فقط من هدف الدراسة، التي تعطي الأولوية للتنوع، وتضمن التمثيل المتساوي عبر الأعراق (الأبيض والأسود والإسباني والآسيوي) والجنسين (تقسيم متساوٍ بين الذكور والإناث) ومراحل مرض السكري (غير المصابين بالسكري ومرحلة ما قبل السكري أو مراحل مختلفة من المرض، أي من يعتمدون على الأدوية أو على الأنسولين).

ويوضح الدكتور آرون لي، الباحث الرئيس في قسم طب العيون، وأستاذ مشارك وجراح شبكية بجامعة واشنطن بالولايات المتحدة، أن المشروع يُركز على فهم عوامل الخطر للإصابة بمرض السكري، وعوامل تعزيز الصحة التي تُساعد على تحسين الحالة، ومن خلال دراسة هذه العوامل يمكن أن تؤدي مجموعة البيانات إلى اكتشافات رائدة في الوقاية من مرض السكري من النوع الثاني وإدارته.

وتؤكد الدكتورة سيسيليا لي، من كلية الطب بجامعة واشنطن في الولايات المتحدة، وهي مديرة «أطلس الذكاء الاصطناعي» أن مرض السكري من النوع الثاني ليس نفسه لدى الجميع؛ حيث يُظهِر المرضى اختلافات كبيرة في حالاتهم، ومع توفر مجموعات بيانات كبيرة ومفصلة ​​يُمكن للباحثين دراسة هذا التباين بشكل أفضل، ما يؤدي إلى اتباع نهج أكثر تخصيصاً لفهم المرض وعلاجه.

من المرض إلى الصحة والعكس

تتخذ هذه الدراسة نهجاً جديداً، ليس من خلال دراسة كيفية إصابة الناس بالمرض فحسب بل استكشاف ما يساعدهم على التعافي أيضاً. ويريد الباحثون فهم الرحلة من الصحة إلى المرض، ومن المرض إلى الصحة مرة أخرى.

وقد يؤدي هذا التركيز المزدوج إلى طرق أفضل للوقاية من الأمراض وعلاجها، ويهتم مجتمع البحث العالمي بشكل كبير بهذه الدراسة؛ حيث تمت مشاركة البيانات من مجموعة صغيرة من 204 مشاركين بالفعل مع أكثر من 110 منظمات بحثية حول العالم.

وأوضح الدكتور آرون لي أن الأبحاث التقليدية تُركز على علم الأمراض، أي دراسة كيفية تطور الأمراض وتحديد عوامل الخطر، مثل انخفاض حساسية الأنسولين وتأثيرات نمط الحياة أو الإصابة بفيروس «كورونا» أثناء الطفولة، ما قد يزيد من خطر الإصابة بمرض السكري في وقت لاحق من الحياة.

ومع ذلك يريد فريقه أيضاً دراسة علم التسبب في المرض، والذي يبحث فيما يساعد الناس على تحسين صحتهم. وعلى سبيل المثال قد يكشف فهم سبب تحسن مرض السكري لدى بعض الأشخاص عن إسهامات رئيسة.

ذكاء اصطناعي لفحص صوت مريض السكري

ويتم ذلك بتوظيف الذكاء الاصطناعي في 10 ثوانٍ من الصوت لفحص مرض السكري.

وقد أظهرت دراسة بعنوان «التحليل الصوتي والتنبؤ بمرض السكري من النوع الثاني»، باستخدام مقاطع صوتية مسجلة بالهواتف الذكية، في ديسمبر (كانون الأول) 2023، برئاسة جايسي كوفمان، في مختبرات كليك للعلوم التطبيقية، بتورنتو كندا، ونُشرت في «مايو كلينك» (Mayo Clinic Proceedings: Digital Health) كيف يمكن للتسجيلات الصوتية جنباً إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي اكتشاف مرض السكري من النوع الثاني بدقة ملحوظة. إذ من خلال تحليل 6 إلى 10 ثوانٍ فقط من كلام الشخص، إلى جانب تفاصيل صحية أساسية، مثل العمر والجنس والطول والوزن، حقق نموذج الذكاء الاصطناعي دقة بنسبة 89 في المائة لدى النساء و86 في المائة لدى الرجال.

وجمع الباحثون عينات صوتية من 267 مشاركاً (سواء كانوا مصابين بالسكري أو غير مصابين به)، وسجلوا عبارات في هواتفهم الذكية 6 مرات يومياً على مدار أسبوعين من أكثر من 18 ألف تسجيل.

14 سمة صوتية

وحدد العلماء 14 سمة صوتية، مثل تغيرات درجة الصوت والشدة، والتي تباينت بشكل كبير بين الأفراد المصابين بالسكري وغير المصابين به. ومن المُثير للاهتمام أن هذه التغيرات الصوتية تختلف بين الرجال والنساء. ولهذه الأداة القدرة على اكتشاف الحالة في وقت مبكر، وبشكل أكثر ملاءمة، وذلك باستخدام الهاتف الذكي فقط.

ويمكن أن يؤدي هذا النهج المبتكر القائم على الصوت إلى إحداث ثورة في فحص مرض السكري ومعالجة حواجز التكلفة والوقت، وإمكانية الوصول المرتبطة بأساليب التشخيص الحالية.

وتشمل الاختبارات التشخيصية الأكثر استخداماً لمرحلة ما قبل السكري والسكري من النوع الثاني الهيموغلوبين السكري (السكر التراكمي) (HbA1C) إلى جانب اختبار غلوكوز الدم الصائم (FBG) واختبار تحمل الغلوكوز في الدم (OGTT) (هو طريقة يمكن أن تساعد في تشخيص حالات مرض السكري أو مقاومة الأنسولين).

ووفقاً للاتحاد الدولي للسكري، فإن ما يقرب من واحد من كل اثنين أو 240 مليون بالغ، يعيشون مع مرض السكري في جميع أنحاء العالم ولا يدركون أنهم مصابون بهذه الحالة، ونحو 90 في المائة من حالات السكري هي من النوع الثاني.