«جوائز نوبل» 2020... صناعة العلم قبل تطبيقه

كرمت اكتشاف نظرية «الثقب الأسود» وآلية «المقص الجيني» و«فيروس سي»

روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
TT

«جوائز نوبل» 2020... صناعة العلم قبل تطبيقه

روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته

بينما يريد العالم إنجازات مبهرة وسريعة لكل شيء، وخاصة التهديدات الهائلة مثل فيروس «كورونا» والاحتباس الحراري، تذكرنا جوائز نوبل في الطب والفيزياء والكيمياء التي أعلنت الأسبوع الماضي أنه في العلم، قد يؤتي كل من البطء والثبات، ثماره.
وتتجه الأنظار دوما إلى التطبيق الذي يخرج البحث العلمي من نطاق المختبر ليكون دواء أو لقاحا أو منتجا، غير أن اللجنة العلمية لجائزة نوبل تبحث دوما عن أصحاب الأبحاث التي صنعت العلم، قبل أن يتحول هذا العلم إلى تطبيق، وهذا ما يسمونه بـ«العلوم الأساسية»، والتي تظهر الآثار المترتبة عليها بعد سنوات أو عقود من الاكتشاف.
وفي الوقت الذي يظن فيه أصحاب هذه الاكتشافات أن إنجازهم طواه النسيان بعد أن توارى خلف التطبيقات التي أصبحت أهم فائدة بالنسبة للمجتمع، تأتي لجنة جائزة نوبل لتقول: لهم «نحن لم ننساكم».
وخلال الأسبوع الماضي قررت اللجنة العلمية لجائزة نوبل تكريم هؤلاء العمالقة في الطب والفيزياء والكيمياء، لأنه لولاهم ما توصل العالم إلى علاج لفيروس التهاب الكبد (سي)، وما تمكن العلماء في شهر أبريل (نيسان) 2019 من التقاط أول صورة للثقب الأسود، وما تمكن العالم من تطوير محاصيل تتحمل العفن والآفات والجفاف، وإجراء تجارب سريرية على علاجات جديدة للسرطان.
- قصة الثقب الأسود
كان الاحتفاء العالمي في أبريل العام الماضي بالتقاط أول صورة للثقب الأسود، ولم تمنح الجائزة لهؤلاء، لكنها منحت لمن اكتشفوا أن هناك شيئا اسمه ثقب أسود، وأن بالإمكان مراقبته وتحديد موقعه.
وأظهر الفائز الأول العالم البريطاني من جامعة أكسفورد (روجر بنروز)، والذي قررت اللجنة العلمية للجائزة منحه النصف الأول من الجائزة كاملا، الذي أشار إلى أن الثقوب السوداء نتاج مباشر للنظرية العامة للنسبية، بينما اكتشف الفائزان الآخران، اللذان ذهب لهما النصف الآخر، وهما العالم الألماني من معهد ماكس بلانك (راينهارد جينزل) والعالمة الأميركية من جامعة كاليفورنيا (أندريا غيز) أن جسماً ثقيلاً وغير مرئي يتحكم في مدارات النجوم في مركز مجرتنا، والثقب الأسود الهائل هو التفسير الوحيد المعروف حالياً.
واستخدم روجر بنروز أساليب رياضية بارعة في إثبات أن الثقوب السوداء هي نتيجة مباشرة لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، ولم يكن أينشتاين نفسه يعتقد أن الثقوب السوداء موجودة بالفعل، تلك الوحوش ذات الوزن الثقيل للغاية التي تلتقط كل ما يدخل إليها، ولا شيء يستطيع الهروب، ولا حتى الضوء.
ولإثبات أن تشكل الثقب الأسود عملية مستقرة، احتاج بنروز إلى توسيع الأساليب المستخدمة لدراسة نظرية النسبية ومعالجة مشاكل النظرية بمفاهيم رياضية جديدة.
وفي يناير (كانون الثاني) 1965، بعد عشر سنوات من وفاة أينشتاين، أثبت روجر بنروز أن الثقوب السوداء يمكن حقا تكوينها ووصفها بالتفصيل.
وكانت مسألة وجود الثقوب السوداء التي شغلت العلماء لعقود طويلة عادت إلى الظهور في عام 1963 مع اكتشاف الكوازارات (أشباه النجوم)، وهي ألمع الأجسام في الكون.
وكان السؤال الذي شغل العلماء حينها، هو من أين يأتي هذا الإشعاع المذهل القادم الكوارزار رغم حجمه المحدود؟ وكانت الإجابة أن هناك طريقة واحدة فقط للحصول على هذا القدر من الطاقة ضمن الحجم المحدود للكوارزار، وهي من سقوط المادة في ثقب أسود هائل.
وفي خريف 1964 أثناء نزهة لـ«روجر بنروز» مع زميل له في لندن، توقفا عن الحديث للحظة لعبور شارع جانبي، وظهرت حينها فكرة في ذهنه، سماها الأسطح المحاصرة، هي المفتاح الذي كان يبحث عنه دون وعي، وهي أداة رياضية ضرورية لوصف الثقب الأسود.
وتقوم فكرته على أن السطح المحاصر يجبر جميع الأشعة على الإشارة نحو المركز، بغض النظر عما إذا كان السطح منحنياً للخارج أو للداخل، وباستخدام الأسطح المحاصرة، تمكن من إثبات أن الثقب الأسود يخفي دائماً التفرد، وهو الحد الذي ينتهي فيه الزمان والمكان، وأن كثافته لا حصر لها.
وأضاف الباحثان الآخران «راينهارد جينزيل» و«أندريا غيز» دليلا آخر على وجود الثقب الأسود، حيث ركزا منذ أوائل التسعينات على منطقة تسمى (القوس A*) في مركز مجرة درب التبانة، وتم تعيين مدارات ألمع النجوم الأقرب إلى منتصف المجرة بدقة متزايدة.
وتتفق قياسات هاتين المجموعتين، مع العثور على جسم ثقيل للغاية وغير مرئي يسحب خليط النجوم، مما يجعلهم يندفعون بسرعة مذهلة، وكان الثقب الأسود الهائل هو التفسير الوحيد لهذه الظاهرة.
- تحرير الجينوم
وطبقت نتائج جائزة نوبل في الكيمياء نفس النهج وهو تكريم صناع العلم، فلم تذهب الجائزة للتطبيقات المتعددة التي أحدثتها تقنية تحرير الجينوم، المعروفة باسم (كريسبر- كاس 9)، لكنها ذهبت لمبتكري تلك التقنية، وهما العالمتان الفرنسية (إيمانويل شاربنتييه) والأميركية (جينيفر دودنا).
ويمكن للباحثين باستخدام أداة المقص الجيني (كريسبر- كاس 9) تغيير الحمض النووي للحيوانات والنباتات والكائنات الدقيقة بدقة عالية للغاية، وكان لهذه التكنولوجيا تأثير ثوري على علوم الحياة، وتساهم في علاجات جديدة للسرطان وقد تجعل حلم علاج الأمراض الوراثية يتحقق.
يقول كلاس جوستافسون، رئيس لجنة نوبل: «هناك قوة هائلة في هذه الأداة الجينية، والتي تؤثر علينا جميعاً، فهي لم تُحدث ثورة في العلوم الأساسية فحسب، بل أدت أيضاً إلى محاصيل مبتكرة وستؤدي إلى علاجات طبية جديدة رائدة».
وكان اكتشاف هذه المقصات الجينية غير متوقع، فخلال دراسات إيمانويل شاربينتييه حول بكتيريا تسمى (عقدية مقيحة) Streptococcus pyogenes))، وهي واحدة من البكتيريا التي تسبب أكبر ضرر للبشرية، اكتشفت جزيئا غير معروف سابقاً وهو (tracrRNA).
أظهر عملها أن (tracrRNA) هو جزء من جهاز المناعة القديم للبكتيريا الذي تستخدمه البكتيريا لحماية نفسها عن طريق شطر الحمض النووي الفيروسي.
ونشرت شاربينتييه اكتشافها عام 2011 وفي العام نفسه، بدأت تعاوناً مع جينيفر دودنا، عالمة الكيمياء الحيوية ذات الخبرة والمعرفة الواسعة بالحمض النووي الريبي، ونجحا معاً في إعادة إنشاء المقص الجيني للبكتيريا في أنبوب اختبار وتبسيط المكونات الجزيئية للمقص حتى يسهل استخدامه. وفي تجربة قام الاثنان بعد ذلك بإعادة برمجة المقص الجيني، حيث أثبتا أنه يمكن قطع أي جزيء من الحمض النووي.
ومنذ أن اكتشف الاثنان المقص الجيني عام 2012 انفجر استخدامه، وساهمت هذه الأداة في العديد من الاكتشافات المهمة في البحث الأساسي، وتمكن باحثو النبات من تطوير محاصيل تتحمل العفن والآفات والجفاف.
وفي الطب، تجري تجارب سريرية على علاجات جديدة للسرطان، وحلم القدرة على علاج الأمراض الموروثة على وشك أن يتحقق، فقد نقلت هذه المقصات الوراثية علوم الحياة إلى حقبة جديدة، تحقق أكبر فائدة للبشرية.
- عمالقة الطب وفيروس «سي»
وبينما حققت أكثر من دولة مؤخرا إنجازا في مجال الصحة باستخدام العلاجات الحديثة لفيروس (سي)، فإن اللبنة الأساسية في هذا الإنجاز كانت اكتشاف وجود الفيروس نفسه، ولولا حدوث ذلك، لظل قاتلا صامتا يحصد أرواح الملايين، لذلك ارتأت اللجنة العلمية لجائزة نوبل تكريم العلماء «هارفي جيه ألتر» و«مايكل هوتون» و«تشارلز إم رايس»، وهم أصحاب اكتشافات أساسية أدت إلى التعرف على فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي).
تبدأ قصة هذا الاكتشاف في أربعينات القرن الماضي، حيث أصبح من الواضح أن هناك نوعين رئيسيين من التهاب الكبد المعدي، الأول، المسمى التهاب الكبد (إيه)، وينتقل عن طريق الماء أو الطعام الملوث، وعادة ما يكون له تأثير ضئيل على المدى الطويل على المريض. والثاني ينتقل عن طريق الدم وسوائل الجسم ويمثل تهديداً أكثر خطورة، لأنه يمكن أن يؤدي إلى حالة مزمنة، مع تطور تليف الكبد وسرطان الكبد.
ومفتاح التدخل الناجح ضد الأمراض المعدية هو تحديد العامل المسبب، وفي الستينات، حدد (باروخ بلومبرغ)، أن أحد أشكال التهاب الكبد المنقول بالدم سببه فيروس أصبح يُعرف باسم فيروس التهاب الكبد (بي)، وأدى هذا الاكتشاف إلى تطوير اختبارات تشخيصية ولقاح فعال، وحصل بلومبرغ على جائزة نوبل في الطب عام 1976.
في ذلك الوقت، كان (هارفي ج. ألتر)، في المعاهد الوطنية الأميركية للصحة يدرس حدوث التهاب الكبد في المرضى الذين تم نقل الدم إليهم. ورغم أن اختبارات الدم لفيروس التهاب الكبد (بي) المكتشف حديثاً قللت من عدد حالات التهاب الكبد المرتبط بنقل الدم، أظهر ألتر وزملاؤه بشكل مقلق أنه لا يزال هناك عدد كبير من الحالات ليس لها علاقة بفيروس (بي) أو (إيه).
وأظهر ألتر وزملاؤه أن الدم من مرضى التهاب الكبد يمكن أن ينقل المرض إلى الشمبانزي، المضيف الوحيد المعرض للإصابة إلى جانب البشر، وأظهرت الدراسات اللاحقة أيضاً أن العامل المعدي غير المعروف له خصائص الفيروس.
حددت التحقيقات المنهجية التي أجراها ألتر بهذه الطريقة شكلاً جديداً ومتميزاً من التهاب الكبد الفيروسي المزمن، أصبح المرض الغامض معروفاً باسم التهاب الكبد «غير النوع (إيه)، غير النوع (بي)». وأصبح تحديد الفيروس الجديد أولوية قصوى الآن، لكنه استعصى لأكثر من عقد من الزمان.
وجاء هنا دور (مايكل هوتون)، الفائز الثاني بالجائزة، الذي يعمل في شركة الأدوية (تشيرون)، حيث قام بالعمل الشاق اللازم لعزل التسلسل الجيني للفيروس.
وابتكر هوتون وزملاؤه مجموعة من شظايا الحمض النووي من الأحماض النووية الموجودة في دم الشمبانزي المصاب، وجاءت غالبية هذه الشظايا من جينوم الشمبانزي نفسه، لكن الباحثين توقعوا أن بعضها مشتق من الفيروس المجهول.
وعلى افتراض أن الأجسام المضادة ضد الفيروس ستكون موجودة في الدم المأخوذ من مرضى التهاب الكبد، استخدم الباحثون أمصال المريض لتحديد شظايا الحمض النووي الفيروسي المستنسخة التي تشفر البروتينات الفيروسية. وبعد بحث شامل، تم العثور على نسخة إيجابية واحدة، وأظهر المزيد من العمل أن هذا الاستنساخ مشتق من فيروس (آر إن إيه) جديد، وكان اسمه فيروس التهاب الكبد (سي).
كان اكتشاف الفيروس حاسما، لكن كان هناك جزء مفقود من اللغز، وهو هل يمكن للفيروس وحده أن يسبب التهاب الكبد؟
وهنا جاء دور الفائز الثالث (تشارلز إم رايس)، الباحث في جامعة واشنطن في سانت لويس، حيث عمل جنباً إلى جنب مع مجموعات أخرى تعمل مع فيروسات الحمض النووي الريبي، واكتشف منطقة في نهاية جينوم فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) اشتبه في أنها قد تكون مهمة لتكاثر الفيروس، ومن خلال الهندسة الوراثية، أنتج رايس نوعاً مختلفاً من الحمض النووي الريبي لفيروس التهاب الكبد الوبائي سي شمل المنطقة المحددة من الجينوم الفيروسي، وعندما تم حقن هذا الحمض النووي الريبي في كبد الشمبانزي، تم اكتشاف فيروس في الدم ولوحظت تغيرات مرضية تشبه تلك التي شوهدت في البشر المصابين بالمرض المزمن، كان هذا هو الدليل النهائي على أن فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) وحده يمكن أن يتسبب في حالات التهاب الكبد غير المبررة بواسطة نقل الدم.


مقالات ذات صلة

للمرة الأولى... لجنة «نوبل» تتواصل عبر الفيديو مع الإيرانية نرجس محمدي

شؤون إقليمية للمرة الأولى... لجنة «نوبل» تتواصل عبر الفيديو مع الإيرانية نرجس محمدي

للمرة الأولى... لجنة «نوبل» تتواصل عبر الفيديو مع الإيرانية نرجس محمدي

تحدثت لجنة نوبل للمرة الأولى مع الإيرانية نرجس محمدي، التي حازت جائزتها للسلام لعام 2023 وأُفرِج عنها موقتاً في بلادها لأسباب طبية.

«الشرق الأوسط» (أوسلو)
شؤون إقليمية نرجس محمدي (رويترز)

تدهور صحة السجينة الإيرانية نرجس محمدي ونقلها إلى المستشفى

وافقت السلطات الإيرانية على نقل السجينة الحائزة على جائزة نوبل للسلام نرجس محمدي إلى المستشفى بعد نحو تسعة أسابيع من معاناتها من المرض.

«الشرق الأوسط» (دبي)
الاقتصاد الخبير الاقتصادي سايمون جونسون بعد فوزه المشترك بجائزة نوبل في الاقتصاد بمنزله في واشنطن يوم الاثنين 14 أكتوبر 2024 (أ.ب)

الفائز بـ«نوبل الاقتصاد»: لا تتركوا قادة شركات التكنولوجيا العملاقة يقرّرون المستقبل

يؤكد الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد سايمون جونسون على ضرورة أن يستفيد الأشخاص الأقل كفاءة من الذكاء الاصطناعي، مشدداً على مخاطر تحويل العمل إلى آلي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق خلال إعلان الأكاديمية الملكية السويدية عن فوز ثلاثة أميركيين بجائزة نوبل للاقتصاد (رويترز)

«نوبل الاقتصاد» لـ 3 أميركيين

فاز خبراء الاقتصاد الأميركيون دارون أسيموغلو وسايمون جونسون وجيمس روبنسون، بجائزة «نوبل» في العلوم الاقتصادية، أمس، عن أبحاثهم في مجال اللامساواة في الثروة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
الاقتصاد شاشة داخل «الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم» خلال الإعلان عن جائزة «نوبل الاقتصاد» في استوكهولم (رويترز)

عقد من التميز... نظرة على الفائزين بجائزة «نوبل الاقتصاد» وأبحاثهم المؤثرة

على مدار العقد الماضي، شهدت «الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم» تتويج عدد من الأسماء اللامعة التي أحدثت تحولاً جذرياً في فهم الديناميات الاقتصادية المعقدة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً