بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

بسبب {كوفيد ـ 19} قد يخسر المواجهة مع كومو وموقعه في الحزب الديمقراطي

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها
TT

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

لا يمكن تقديم تفسير دقيق عن أسباب صعود شخصية سياسية أميركية عامة إلى مرتبة النجوم، لتهوي بعدها في سقوط دراماتيكي يطيح صورتها، ما لم تتمكن من استدراك هذا السقوط عبر إعادة خلط أوراق تحالفاتها وانحيازاتها مع الطبقة السياسية، سواء أكانت من الحزب الديمقراطي أم الجمهوري.
هذا هو حال بيل دي بلازيو «عُمدة»... أو رئيس بلدية مدينة نيويورك «عاصمة العالم» وأشهر مدن الولايات المتحدة. دي بلازيو القادم من تجربة «يسارية» كان إحدى الشخصيات «الواعدة» في الحزب الديمقراطي، بعدما أعاد تموضعه جزئياً داخل تياراته الآيديولوجية. إلا أن محاولته الابتعاد عن التيار اليساري لم تتكلل بالنجاح كثيراً، ليخسر كلاً من هويته الأصلية والجديدة المختلطة معاً، مصطدماً بشكل مبكر بحاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، الديمقراطي الوسطي، رفيقه وصديقه اللدود.
جائحة «كوفيد - 19» التي ضربت الولايات المتحدة، والعالم، منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، وتسببت بأزمة صحية غير مسبوقة، ضربت مدينة نيويورك بالذات بشكل حاد. إلا أن التنافس بين حاكم الولاية آندرو كومو و«عمدة» حاضرتها الكبرى بيل دي بلازيو يعود إلى تسعينات القرن الماضي. بل إن خلاف كومو ودي بلازيو يُعد اليوم بمثابة الحلقة الأخيرة في مسلسل علاقتهما المتوترة، التي أظهرت ذلك بشكل جلي بعد تولي الأخير رئاسة بلدية نيويورك عام 2014. ولكن، مع هذا، ثمة مَن يشير إلى أن علاقة الرجلين ما كانت كذلك دائماً.
لقد بدأت العلاقة بين الشخصيتين السياسيتين الأبرز في نيويورك عام 1997، عندما شغل كومو منصب وزير الإسكان والتنمية الحضرية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، وأقدم على تعيين دي بلازيو مديراً إقليمياً للوزارة في نيويورك؛ حيث كان يقدم تقاريره مباشرة له، وفي ذلك العام قاد دي بلازيو حملة كومو الفاشلة لمنصب الحاكم.
ثم بعد 7 سنوات، دعم حاكم نيويورك السابق الشهير ماريو كومو، والد الحاكم الحالي آندرو، دي بلازيو. ويتندّر سكان نيويورك بأنه لم يسبق لهم أن شهدوا هذا النوع من التوتر بين رجلين، كانا صديقين وزميلين في حزب واحد قبل أن يصبحا خصمين. وللعلم، يعتبر البعض أن «التنافر» بينهما اليوم يعود جزئياً إلى أسباب آيديولوجية، كون دي بلازيو أكثر يسارية أو تقدمية... في حين يُصنّف كومو بأنه ديمقراطي ليبرالي على طريقة بيل كلينتون. أضف إلى ذلك، أنه نتاج طبيعي للطيف السياسي في المدينة الكبرى؛ حيث فضّل دي بلازيو مهاجمة «النظام»... واتهامه بالتلاعب لمصلحة الأغنياء.

الصراع داخل الديمقراطيين
من نافلة القول إن الصراع بين الرجلين يعكس الصراع داخل الحزب الديمقراطي، الذي يعتبر، وهنا المفارقة، من حزب الأغنياء الليبراليين ورجال المال والأعمال غير المتدينين وشركات التكنولوجيا وكبار الصناعيين والمتموّلين وسكان المدن الكبرى؛ حيث قيَم الليبرالية والانفتاح أساسية لأعمالهم. وفي المقابل، نجده أيضاً حزب التقدميين الساعين لإعلاء الطبقة الوسطى بعمالها وموظفيها.
هذان التياران يتوحّدان في مواجهة الحزب الجمهوري، حزب المزارعين وعمال الصناعات القديمة وسكان الضواحي والمتشدّدين دينياً وعرقياً، ولا سيما من البيض المسيحيين الأوروبيين. هكذا ينقسم الأميركيون اليوم في انتخابات يعتبر كثيرون أنها مصيرية. غير أن مآل المواجهة بين الحزبين، لا يمكن أن تنتهي على نقيض من تطوّر التاريخ. ثم إن الانحياز إلى «اليسار» لم يعد جواباً آيديولوجياً شافياً، في ظل أزمة هذا اليسار منذ انهيار تجاربه، القديمة منها والجديدة مع انهيار نموذج دول أميركا اللاتينية، وأزمة الديمقراطية نفسها.
كومو «الوسَطي» الذي حذّر من أن الراديكالية التقدمية يمكن أن تقوّض «الأجندة» الليبرالية للحزب الديمقراطي، ربما اعتبر في البداية أن دي بلازيو يشكّل تهديداً يجب تحييده. لكن من غير الواضح أسباب إحجامه عن العمل داخل الحزب حتى الآن من أجل إزاحته على الرغم من خفوت نجمه السياسي. وما يذكر أنه يُنظَر إلى كومو، الذي يعتبر من الساسة الأذكياء، على أنه السياسي الديمقراطي الأقوى في نيويورك، وحقق بالفعل انتصارات انتخابية وشعبية كبيرة، في حين تعثّرت جهود دي بلازيو للظهور حاملاً لواء التيار التقدمي.

تربية يسارية... وتعليم راقٍ
بيل دي بلازيو هو الابن الثالث لماريا أنجيلا دي بلازيو ووارين فيلهلم. ويكبره شقيقان هما ستيفن ودونالد. ولقد وُلد بيل عام 1961 في أحد مستشفيات مانهاتن بقلب مدينة نيويورك، بعدما غادر والداه منزلهما في نوروك بولاية كونكتيكت. أما نشأته الأولى فكانت في مدينة كامبريدج، أشهر ضواحي مدينة بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس المجاورة.
كان اسمه أصلاً وارين فيلهلم الابن، وغيّره إلى وارين دي بلاسيو فيلهلم عام 1983، ثم إلى بيل دي بلازيو عام 2001. تكريماً لعائلة والدته التي تولّت تربيته بعدما انفصل والداه حين كان طفلاً. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن والدته من أصل إيطالي ووالده من أصول ألمانية وإنجليزية وفرنسية وأسكوتلندية - آيرلندية. وكان جده لأبيه دونالد فيلهلم من ولاية أوهايو وجدته من ولاية أيوا. في حين جاء جده لأمه، جيوفاني من سانت أغاتا دي غوتي بينيفينتو، وجدته آنا من غراسانو ماتيرا في إيطاليا. ولقد عمل عمه دونالد جورج فيلهلم الابن في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) الأميركية في إيران، وكتب سراً مذكرات شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي.
التحقت والدته بكلية سميث (الجامعة العريقة الخاصة للنساء) وخدمت في مكتب معلومات الحرب خلال الحرب العالمية الثانية. وألَفت كتاب «إيطاليا الأخرى... المقاومة الإيطالية في الحرب العالمية الثانية» عام 1988. أما أبوه فخريج جامعة ييل العريقة، محرّراً مساهماً في مجلة «تايم»، وخدم أيضاً في الحرب العالمية الثانية. وعام 1942 التحق بالجيش الأميركي وخدم في حرب المحيط الهادي. خلال معركة أوكيناوا التي استمرت 82 يوماً، انفجرت قنبلة يدوية أسفل قدمه اليسرى، وبُترت ساقه من أسفل الركبة. وبعد حصوله على ميدالية القلب الأرجواني، تزوج ماريا عام 1945، وأصبح محلل ميزانية للحكومة الفيدرالية. خلال الخمسينات، وفي ذروة الذعر من «المد الأحمر»، اتُهم كل من ماريا ووارين بتعاطفهما مع الشيوعية.
انتحر والده بعد إصابته بسرطان الرئة غير القابل للشفاء عندما كان بيل في سن الـ18. وفي عام 1979 تخرّج دي بلازيو من مدرسته الثانوية في ضواحي بوسطن. وبعدها حصل على بكالوريوس الآداب من جامعة نيويورك في الدراسات الحضرية، ثم نال درجة الماجستير في الشؤون الدولية من كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولمبيا. وشغل دي بلازيو منصب العمدة 109 لمدينة نيويورك منذ عام 2014. وكان ولا يزال عضواً في الحزب الديمقراطي، مع الإشارة إلى أنه سبق له أن شغل أيضاً منصب المحامي العام لمدينة نيويورك من 2010 إلى 2013.

تأييده للساندينيين في نيكاراغوا
عام 1988 سافر دي بلازيو مع مجموعة من الناشطين في مركز «كويكسوت» إلى نيكاراغوا لمدة 10 أيام للمساعدة في توزيع الغذاء والدواء أثناء ثورة نيكاراغوا. وكان في تلك الفترة مؤيداً قوياً للحكومة الاشتراكية الحاكمة التي أسستها «جبهة التحرير الوطنية الساندينية» التي عارضتها إدارة الرئيس رونالد ريغان في ذلك الوقت.
وبعد عودته من نيكاراغوا، انتقل دي بلازيو إلى مدينة نيويورك؛ حيث عمل في منظمة غير ربحية تركز على تحسين الرعاية الصحية في أميركا الوسطى. واصل دعم الساندينيين في أوقات فراغه، وانضم إلى مجموعة تسمى «شبكة نيكاراغوا للتضامن في نيويورك الكبرى»، التي أطلقت نشاطات وجمعت التبرّعات للساندينيين. وعام 1989 عمل منسّقاً متطوّعاً لحملة ديفيد دينكينز لرئاسة البلدية. وبعد الحملة، عمل دي بلاسيو مساعداً في مجلس المدينة. وعام 1990 وصف نفسه بأنه مدافع عن الاشتراكية الديمقراطية عندما سئل عن أهدافه للمجتمع.
على صعيد متصل، التقى دي بلازيو زوجته الأميركية السوداء الناشطة والشاعرة تشيرلين ماكراي أثناء عملهما في إدارة العمدة دينكينز، الذي كان أول رئيس بلدية أسود لمدينة نيويورك، وتزوّجا في عام 1994. بل أمضى الزوجان الشابان «شهر العسل» في كوبا في انتهاك صريح لحظر السفر الأميركي. واليوم بيل وتشيرلين والدان لولدين، هما دانتي خريج جامعة ييل عام 2019. وكيارا الطالبة في جامعة سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا. وروت ابنته كيارا عن تعاطيها المخدرات ومعاناتها من الاكتئاب في أواخر 2013 في فيديو مدته 4 دقائق نشرته حملة دي بلازيو قبل توليه منصب رئاسة البلدية.
من ناحية أخرى، فإن دي بلازيو يوصف بأنه أطول الرجال قامة بين رؤساء بلدية نيويورك (1.96 م)، وبفضل أصوله الإيطالية اعتاد بين حين وآخر أن يجري مقابلات ومؤتمرات صحافية، ويلقي خطباً باللغة الإيطالية. وهو يصف نفسه بأنه «روحاني لكن غير متديّن»، علماً بأن والدته رفضت جذورها الرومانية الكاثوليكية ولم تدخل الكنيسة في حياتها المبكرة. أما على صعيد ثروته الشخصية، فقدّرت مجلة فوربس ثروته وثروة زوجته بنحو 2.5 مليون دولار عام 2019.

سياساته في نيويورك
بعد تخرّج بيل دي بلازيو من الجامعة عيّنه النائب الديمقراطي الأسود تشارلز رانجيل مديراً لحملة إعادة انتخابه الناجحة عام 1994. وعام 2000 شغل منصب مدير حملة هيلاري كلينتون الناجحة لمجلس الشيوخ. إلا أن حياته المهنية بدأت كمسؤول منتخب في مجلس مدينة نيويورك، ممثلاً للمنطقة 39 التي تشمل أحياء بورو بارك وغاردن كارول وكوبل هيل وجوانوس وكينزينغتون وبارك سلوب وويندسور تيراس في منطقة بروكلين (إحدى المناطق أو «الأقضية» الخمس التي تتكوّن منها مدينة نيويورك مع مانهاتن وكوينز وبرونكس وستاتن آيلاند) من عام 2002 إلى عام 2009. وبعدما خدم دي بلازيو لفترة واحدة كمحامٍ عام، وانتخب رئيساً لبلدية مدينة نيويورك عام 2013 وأعيد انتخابه عام 2017.
تضمّنت مبادرات دي بلازيو السياسية تدريباً جديداً على خفض العنف لدى رجال الشرطة، وإلزامهم بوضع الكاميرات الشخصية، وتقليل الملاحقات القضائية لحيازة القنب (الحشيشة). غير أن علاقته بشرطة المدينة شهدت صعوداً وهبوطاً، وتعرّض لمواقف رافضة لحضوره جنازات عدد من الشرطيين الذين قتلوا في إطلاق نار عام 2014 و2017؛ حيث أدار له الشرطيون ظهورهم عند إلقائه كلمته. كذلك، تراوحت مواقفه بين دعم المتظاهرين وانتقاد العنف الذي شهدته نيويورك خلال أحداث العنف الأخيرة بعد مقتل الرجل الأسود جورج فلويد، منتقداً حركة «الأناركيين» (الفوضويين) الرافضة للنظام، وتأييد عمل الشرطة، في مؤشر على تخبط تحولاته السياسية. وأنهى برنامج المراقبة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 للمسلمين المقيمين في المدينة.
أيضاً، يسجل لدي بلازيو أنه طبّق في ولايته الأولى مجانية التعليم لما قبل الروضة، ولفت الانتباه إلى ما يسميه الإجحاف الاقتصادي الصارخ في مدينة نيويورك؛ حيث أثار ما وصفه بـ«قصة مدينتين» (واحدة للأغنياء وأخرى للفقراء) خلال حملته الأولى، ودعم السياسات الليبرالية والتقدمية اجتماعياً فيما يتعلق باقتصاد المدينة والتخطيط الحضري والتعليم العام والعلاقات مع الشرطة والخصخصة.

فشل ترشحه لانتخابات الرئاسة
يوم 16 مايو (أيار) 2019 أصبح بيل دي بلازيو ثاني رئيس بلدية لمدينة نيويورك يعلن ترشحه لرئاسة إبان فترة توليه منصب العمدة، بعد جون ليندسي الذي ترشح عام 1972. وفي حين أعرب دي بلازيو عن دعمه لزيادة الحد الأدنى الفيدرالي للأجور إلى 15 دولاراً في الساعة. ودعم أيضاً إيجاد تسوية سلمية للحرب في أفغانستان تشمل «حركة طالبان»، شرط التأكد منها قبل سحب القوات الأميركية.
ولكن، رغم هوامش فوزه الكبيرة خلال الانتخابات البلدية، لم يحظ دي بلازيو بشعبية كبيرة في الانتخابات الرئاسية. بل حتى سكان مدينة نيويورك عارضوا ترشحه بنسبة 76 في المائة، ليسجل مستوى قبوله على المستوى الوطني 0 في المائة، ما أدى إلى فشله في التأهل للجولة الثالثة من المناظرات التمهيدية بين المرشحين الديمقراطيين. وبينما حاول تصوير نفسه متقدماً في البداية على جو بايدن، على أمل أن يتحدّى كلاً من بيرني ساندرز وإليزابيت وارين اللذين ينظر إليهما كزعيمين للتيار التقدمي، علق دي بلازيو حملته في سبتمبر 2019. ثم أعلن في 14 فبراير (شباط) الماضي تأييده لساندرز.
على صعيد آخر، تعرّضت لانتقادات واسعة إدارة دي بلازيو للأزمة الصحية التي نجمت عن انتشار فيروس «كوفيد - 19» في نيويورك، التي أدت إلى احتلال المدينة المرتبة الأولى في عدد الإصابات والوفيات على المستوى الوطني. وكانت هذه من بين الأسباب التي أدت إلى التدهور الكبير في علاقته بحاكم الولاية آندرو كومو. ثم إنه رغم انتقاده الصين وتحميل حكومتها مسؤولية التقاعس عن إبلاغ العالم بشكل مبكر عن خطورة الفيروس، أصرّ على أنه بالإمكان التعامل مع الجائحة من دون التخلي عن الحياة الطبيعية، رافضاً إقفال المطاعم ودور السينما والأماكن العامة والشركات. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن كبار مساعدي «العمدة» حاولوا في مارس (آذار) الماضي بشدة تغيير نهجه في التعامل مع تفشي «كوفيد - 19» ونشبت خلافات حادة بينهم بعضهم مع بعض. حتى إن كبار مسؤولي الصحة هددوا بالاستقالة إذا رفض قبول إغلاق المدارس والشركات.

* روبرت واغنر (الثاني)؛ روبرت واغنر هو العمدة الـ102 من 1954 إلى 1965. ألماني الأصل، والده روبرت واغنر (الأول) عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، هاجر مع عائلته من بروسيا عام 1885. تسبب ترشيحه وانتخابه عمدة للمدينة في حدوث انشقاق في الحزب الديمقراطي، وأثار نزاعاً طويل الأمد بين السيدة الأولى إليانور روزفلت التي دعمته، وكارمن ديسابيو رئيسة الكتلة النخبوية «تاماني هول» التي هيمنت على اختيار رؤساء بلدية نيويورك، ما أدى إلى إنهاء سيطرتها في نهاية المطاف. قاد عملية بناء مساكن ومدارس عامة وأنشأ نظام جامعة مدينة نيويورك، وأجاز حق المساومة الجماعية لموظفي المدينة، وحظر التمييز في السكن على أساس العرق أو العقيدة أو اللون. كان أول عمدة يوظف أعداداً كبيرة من الملوّنين في حكومة المدينة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.