بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

بسبب {كوفيد ـ 19} قد يخسر المواجهة مع كومو وموقعه في الحزب الديمقراطي

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها
TT

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

لا يمكن تقديم تفسير دقيق عن أسباب صعود شخصية سياسية أميركية عامة إلى مرتبة النجوم، لتهوي بعدها في سقوط دراماتيكي يطيح صورتها، ما لم تتمكن من استدراك هذا السقوط عبر إعادة خلط أوراق تحالفاتها وانحيازاتها مع الطبقة السياسية، سواء أكانت من الحزب الديمقراطي أم الجمهوري.
هذا هو حال بيل دي بلازيو «عُمدة»... أو رئيس بلدية مدينة نيويورك «عاصمة العالم» وأشهر مدن الولايات المتحدة. دي بلازيو القادم من تجربة «يسارية» كان إحدى الشخصيات «الواعدة» في الحزب الديمقراطي، بعدما أعاد تموضعه جزئياً داخل تياراته الآيديولوجية. إلا أن محاولته الابتعاد عن التيار اليساري لم تتكلل بالنجاح كثيراً، ليخسر كلاً من هويته الأصلية والجديدة المختلطة معاً، مصطدماً بشكل مبكر بحاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، الديمقراطي الوسطي، رفيقه وصديقه اللدود.
جائحة «كوفيد - 19» التي ضربت الولايات المتحدة، والعالم، منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، وتسببت بأزمة صحية غير مسبوقة، ضربت مدينة نيويورك بالذات بشكل حاد. إلا أن التنافس بين حاكم الولاية آندرو كومو و«عمدة» حاضرتها الكبرى بيل دي بلازيو يعود إلى تسعينات القرن الماضي. بل إن خلاف كومو ودي بلازيو يُعد اليوم بمثابة الحلقة الأخيرة في مسلسل علاقتهما المتوترة، التي أظهرت ذلك بشكل جلي بعد تولي الأخير رئاسة بلدية نيويورك عام 2014. ولكن، مع هذا، ثمة مَن يشير إلى أن علاقة الرجلين ما كانت كذلك دائماً.
لقد بدأت العلاقة بين الشخصيتين السياسيتين الأبرز في نيويورك عام 1997، عندما شغل كومو منصب وزير الإسكان والتنمية الحضرية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، وأقدم على تعيين دي بلازيو مديراً إقليمياً للوزارة في نيويورك؛ حيث كان يقدم تقاريره مباشرة له، وفي ذلك العام قاد دي بلازيو حملة كومو الفاشلة لمنصب الحاكم.
ثم بعد 7 سنوات، دعم حاكم نيويورك السابق الشهير ماريو كومو، والد الحاكم الحالي آندرو، دي بلازيو. ويتندّر سكان نيويورك بأنه لم يسبق لهم أن شهدوا هذا النوع من التوتر بين رجلين، كانا صديقين وزميلين في حزب واحد قبل أن يصبحا خصمين. وللعلم، يعتبر البعض أن «التنافر» بينهما اليوم يعود جزئياً إلى أسباب آيديولوجية، كون دي بلازيو أكثر يسارية أو تقدمية... في حين يُصنّف كومو بأنه ديمقراطي ليبرالي على طريقة بيل كلينتون. أضف إلى ذلك، أنه نتاج طبيعي للطيف السياسي في المدينة الكبرى؛ حيث فضّل دي بلازيو مهاجمة «النظام»... واتهامه بالتلاعب لمصلحة الأغنياء.

الصراع داخل الديمقراطيين
من نافلة القول إن الصراع بين الرجلين يعكس الصراع داخل الحزب الديمقراطي، الذي يعتبر، وهنا المفارقة، من حزب الأغنياء الليبراليين ورجال المال والأعمال غير المتدينين وشركات التكنولوجيا وكبار الصناعيين والمتموّلين وسكان المدن الكبرى؛ حيث قيَم الليبرالية والانفتاح أساسية لأعمالهم. وفي المقابل، نجده أيضاً حزب التقدميين الساعين لإعلاء الطبقة الوسطى بعمالها وموظفيها.
هذان التياران يتوحّدان في مواجهة الحزب الجمهوري، حزب المزارعين وعمال الصناعات القديمة وسكان الضواحي والمتشدّدين دينياً وعرقياً، ولا سيما من البيض المسيحيين الأوروبيين. هكذا ينقسم الأميركيون اليوم في انتخابات يعتبر كثيرون أنها مصيرية. غير أن مآل المواجهة بين الحزبين، لا يمكن أن تنتهي على نقيض من تطوّر التاريخ. ثم إن الانحياز إلى «اليسار» لم يعد جواباً آيديولوجياً شافياً، في ظل أزمة هذا اليسار منذ انهيار تجاربه، القديمة منها والجديدة مع انهيار نموذج دول أميركا اللاتينية، وأزمة الديمقراطية نفسها.
كومو «الوسَطي» الذي حذّر من أن الراديكالية التقدمية يمكن أن تقوّض «الأجندة» الليبرالية للحزب الديمقراطي، ربما اعتبر في البداية أن دي بلازيو يشكّل تهديداً يجب تحييده. لكن من غير الواضح أسباب إحجامه عن العمل داخل الحزب حتى الآن من أجل إزاحته على الرغم من خفوت نجمه السياسي. وما يذكر أنه يُنظَر إلى كومو، الذي يعتبر من الساسة الأذكياء، على أنه السياسي الديمقراطي الأقوى في نيويورك، وحقق بالفعل انتصارات انتخابية وشعبية كبيرة، في حين تعثّرت جهود دي بلازيو للظهور حاملاً لواء التيار التقدمي.

تربية يسارية... وتعليم راقٍ
بيل دي بلازيو هو الابن الثالث لماريا أنجيلا دي بلازيو ووارين فيلهلم. ويكبره شقيقان هما ستيفن ودونالد. ولقد وُلد بيل عام 1961 في أحد مستشفيات مانهاتن بقلب مدينة نيويورك، بعدما غادر والداه منزلهما في نوروك بولاية كونكتيكت. أما نشأته الأولى فكانت في مدينة كامبريدج، أشهر ضواحي مدينة بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس المجاورة.
كان اسمه أصلاً وارين فيلهلم الابن، وغيّره إلى وارين دي بلاسيو فيلهلم عام 1983، ثم إلى بيل دي بلازيو عام 2001. تكريماً لعائلة والدته التي تولّت تربيته بعدما انفصل والداه حين كان طفلاً. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن والدته من أصل إيطالي ووالده من أصول ألمانية وإنجليزية وفرنسية وأسكوتلندية - آيرلندية. وكان جده لأبيه دونالد فيلهلم من ولاية أوهايو وجدته من ولاية أيوا. في حين جاء جده لأمه، جيوفاني من سانت أغاتا دي غوتي بينيفينتو، وجدته آنا من غراسانو ماتيرا في إيطاليا. ولقد عمل عمه دونالد جورج فيلهلم الابن في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) الأميركية في إيران، وكتب سراً مذكرات شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي.
التحقت والدته بكلية سميث (الجامعة العريقة الخاصة للنساء) وخدمت في مكتب معلومات الحرب خلال الحرب العالمية الثانية. وألَفت كتاب «إيطاليا الأخرى... المقاومة الإيطالية في الحرب العالمية الثانية» عام 1988. أما أبوه فخريج جامعة ييل العريقة، محرّراً مساهماً في مجلة «تايم»، وخدم أيضاً في الحرب العالمية الثانية. وعام 1942 التحق بالجيش الأميركي وخدم في حرب المحيط الهادي. خلال معركة أوكيناوا التي استمرت 82 يوماً، انفجرت قنبلة يدوية أسفل قدمه اليسرى، وبُترت ساقه من أسفل الركبة. وبعد حصوله على ميدالية القلب الأرجواني، تزوج ماريا عام 1945، وأصبح محلل ميزانية للحكومة الفيدرالية. خلال الخمسينات، وفي ذروة الذعر من «المد الأحمر»، اتُهم كل من ماريا ووارين بتعاطفهما مع الشيوعية.
انتحر والده بعد إصابته بسرطان الرئة غير القابل للشفاء عندما كان بيل في سن الـ18. وفي عام 1979 تخرّج دي بلازيو من مدرسته الثانوية في ضواحي بوسطن. وبعدها حصل على بكالوريوس الآداب من جامعة نيويورك في الدراسات الحضرية، ثم نال درجة الماجستير في الشؤون الدولية من كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولمبيا. وشغل دي بلازيو منصب العمدة 109 لمدينة نيويورك منذ عام 2014. وكان ولا يزال عضواً في الحزب الديمقراطي، مع الإشارة إلى أنه سبق له أن شغل أيضاً منصب المحامي العام لمدينة نيويورك من 2010 إلى 2013.

تأييده للساندينيين في نيكاراغوا
عام 1988 سافر دي بلازيو مع مجموعة من الناشطين في مركز «كويكسوت» إلى نيكاراغوا لمدة 10 أيام للمساعدة في توزيع الغذاء والدواء أثناء ثورة نيكاراغوا. وكان في تلك الفترة مؤيداً قوياً للحكومة الاشتراكية الحاكمة التي أسستها «جبهة التحرير الوطنية الساندينية» التي عارضتها إدارة الرئيس رونالد ريغان في ذلك الوقت.
وبعد عودته من نيكاراغوا، انتقل دي بلازيو إلى مدينة نيويورك؛ حيث عمل في منظمة غير ربحية تركز على تحسين الرعاية الصحية في أميركا الوسطى. واصل دعم الساندينيين في أوقات فراغه، وانضم إلى مجموعة تسمى «شبكة نيكاراغوا للتضامن في نيويورك الكبرى»، التي أطلقت نشاطات وجمعت التبرّعات للساندينيين. وعام 1989 عمل منسّقاً متطوّعاً لحملة ديفيد دينكينز لرئاسة البلدية. وبعد الحملة، عمل دي بلاسيو مساعداً في مجلس المدينة. وعام 1990 وصف نفسه بأنه مدافع عن الاشتراكية الديمقراطية عندما سئل عن أهدافه للمجتمع.
على صعيد متصل، التقى دي بلازيو زوجته الأميركية السوداء الناشطة والشاعرة تشيرلين ماكراي أثناء عملهما في إدارة العمدة دينكينز، الذي كان أول رئيس بلدية أسود لمدينة نيويورك، وتزوّجا في عام 1994. بل أمضى الزوجان الشابان «شهر العسل» في كوبا في انتهاك صريح لحظر السفر الأميركي. واليوم بيل وتشيرلين والدان لولدين، هما دانتي خريج جامعة ييل عام 2019. وكيارا الطالبة في جامعة سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا. وروت ابنته كيارا عن تعاطيها المخدرات ومعاناتها من الاكتئاب في أواخر 2013 في فيديو مدته 4 دقائق نشرته حملة دي بلازيو قبل توليه منصب رئاسة البلدية.
من ناحية أخرى، فإن دي بلازيو يوصف بأنه أطول الرجال قامة بين رؤساء بلدية نيويورك (1.96 م)، وبفضل أصوله الإيطالية اعتاد بين حين وآخر أن يجري مقابلات ومؤتمرات صحافية، ويلقي خطباً باللغة الإيطالية. وهو يصف نفسه بأنه «روحاني لكن غير متديّن»، علماً بأن والدته رفضت جذورها الرومانية الكاثوليكية ولم تدخل الكنيسة في حياتها المبكرة. أما على صعيد ثروته الشخصية، فقدّرت مجلة فوربس ثروته وثروة زوجته بنحو 2.5 مليون دولار عام 2019.

سياساته في نيويورك
بعد تخرّج بيل دي بلازيو من الجامعة عيّنه النائب الديمقراطي الأسود تشارلز رانجيل مديراً لحملة إعادة انتخابه الناجحة عام 1994. وعام 2000 شغل منصب مدير حملة هيلاري كلينتون الناجحة لمجلس الشيوخ. إلا أن حياته المهنية بدأت كمسؤول منتخب في مجلس مدينة نيويورك، ممثلاً للمنطقة 39 التي تشمل أحياء بورو بارك وغاردن كارول وكوبل هيل وجوانوس وكينزينغتون وبارك سلوب وويندسور تيراس في منطقة بروكلين (إحدى المناطق أو «الأقضية» الخمس التي تتكوّن منها مدينة نيويورك مع مانهاتن وكوينز وبرونكس وستاتن آيلاند) من عام 2002 إلى عام 2009. وبعدما خدم دي بلازيو لفترة واحدة كمحامٍ عام، وانتخب رئيساً لبلدية مدينة نيويورك عام 2013 وأعيد انتخابه عام 2017.
تضمّنت مبادرات دي بلازيو السياسية تدريباً جديداً على خفض العنف لدى رجال الشرطة، وإلزامهم بوضع الكاميرات الشخصية، وتقليل الملاحقات القضائية لحيازة القنب (الحشيشة). غير أن علاقته بشرطة المدينة شهدت صعوداً وهبوطاً، وتعرّض لمواقف رافضة لحضوره جنازات عدد من الشرطيين الذين قتلوا في إطلاق نار عام 2014 و2017؛ حيث أدار له الشرطيون ظهورهم عند إلقائه كلمته. كذلك، تراوحت مواقفه بين دعم المتظاهرين وانتقاد العنف الذي شهدته نيويورك خلال أحداث العنف الأخيرة بعد مقتل الرجل الأسود جورج فلويد، منتقداً حركة «الأناركيين» (الفوضويين) الرافضة للنظام، وتأييد عمل الشرطة، في مؤشر على تخبط تحولاته السياسية. وأنهى برنامج المراقبة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 للمسلمين المقيمين في المدينة.
أيضاً، يسجل لدي بلازيو أنه طبّق في ولايته الأولى مجانية التعليم لما قبل الروضة، ولفت الانتباه إلى ما يسميه الإجحاف الاقتصادي الصارخ في مدينة نيويورك؛ حيث أثار ما وصفه بـ«قصة مدينتين» (واحدة للأغنياء وأخرى للفقراء) خلال حملته الأولى، ودعم السياسات الليبرالية والتقدمية اجتماعياً فيما يتعلق باقتصاد المدينة والتخطيط الحضري والتعليم العام والعلاقات مع الشرطة والخصخصة.

فشل ترشحه لانتخابات الرئاسة
يوم 16 مايو (أيار) 2019 أصبح بيل دي بلازيو ثاني رئيس بلدية لمدينة نيويورك يعلن ترشحه لرئاسة إبان فترة توليه منصب العمدة، بعد جون ليندسي الذي ترشح عام 1972. وفي حين أعرب دي بلازيو عن دعمه لزيادة الحد الأدنى الفيدرالي للأجور إلى 15 دولاراً في الساعة. ودعم أيضاً إيجاد تسوية سلمية للحرب في أفغانستان تشمل «حركة طالبان»، شرط التأكد منها قبل سحب القوات الأميركية.
ولكن، رغم هوامش فوزه الكبيرة خلال الانتخابات البلدية، لم يحظ دي بلازيو بشعبية كبيرة في الانتخابات الرئاسية. بل حتى سكان مدينة نيويورك عارضوا ترشحه بنسبة 76 في المائة، ليسجل مستوى قبوله على المستوى الوطني 0 في المائة، ما أدى إلى فشله في التأهل للجولة الثالثة من المناظرات التمهيدية بين المرشحين الديمقراطيين. وبينما حاول تصوير نفسه متقدماً في البداية على جو بايدن، على أمل أن يتحدّى كلاً من بيرني ساندرز وإليزابيت وارين اللذين ينظر إليهما كزعيمين للتيار التقدمي، علق دي بلازيو حملته في سبتمبر 2019. ثم أعلن في 14 فبراير (شباط) الماضي تأييده لساندرز.
على صعيد آخر، تعرّضت لانتقادات واسعة إدارة دي بلازيو للأزمة الصحية التي نجمت عن انتشار فيروس «كوفيد - 19» في نيويورك، التي أدت إلى احتلال المدينة المرتبة الأولى في عدد الإصابات والوفيات على المستوى الوطني. وكانت هذه من بين الأسباب التي أدت إلى التدهور الكبير في علاقته بحاكم الولاية آندرو كومو. ثم إنه رغم انتقاده الصين وتحميل حكومتها مسؤولية التقاعس عن إبلاغ العالم بشكل مبكر عن خطورة الفيروس، أصرّ على أنه بالإمكان التعامل مع الجائحة من دون التخلي عن الحياة الطبيعية، رافضاً إقفال المطاعم ودور السينما والأماكن العامة والشركات. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن كبار مساعدي «العمدة» حاولوا في مارس (آذار) الماضي بشدة تغيير نهجه في التعامل مع تفشي «كوفيد - 19» ونشبت خلافات حادة بينهم بعضهم مع بعض. حتى إن كبار مسؤولي الصحة هددوا بالاستقالة إذا رفض قبول إغلاق المدارس والشركات.

* روبرت واغنر (الثاني)؛ روبرت واغنر هو العمدة الـ102 من 1954 إلى 1965. ألماني الأصل، والده روبرت واغنر (الأول) عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، هاجر مع عائلته من بروسيا عام 1885. تسبب ترشيحه وانتخابه عمدة للمدينة في حدوث انشقاق في الحزب الديمقراطي، وأثار نزاعاً طويل الأمد بين السيدة الأولى إليانور روزفلت التي دعمته، وكارمن ديسابيو رئيسة الكتلة النخبوية «تاماني هول» التي هيمنت على اختيار رؤساء بلدية نيويورك، ما أدى إلى إنهاء سيطرتها في نهاية المطاف. قاد عملية بناء مساكن ومدارس عامة وأنشأ نظام جامعة مدينة نيويورك، وأجاز حق المساومة الجماعية لموظفي المدينة، وحظر التمييز في السكن على أساس العرق أو العقيدة أو اللون. كان أول عمدة يوظف أعداداً كبيرة من الملوّنين في حكومة المدينة.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.