إيمي كوني باريت... معركة تكريس هيمنة المحافظين على المحكمة العليا

مرشحة ترمب مسيحية {أصولية} مفضّلة لدى المتدينين

إيمي كوني باريت... معركة تكريس هيمنة المحافظين على المحكمة العليا
TT

إيمي كوني باريت... معركة تكريس هيمنة المحافظين على المحكمة العليا

إيمي كوني باريت... معركة تكريس هيمنة المحافظين على المحكمة العليا

أطلق ترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترمب القاضية المحافظة إيمي كوني باريت لشغل مقعد المحكمة العليا، الذي شغر بوفاة القاضية الليبرالية روث بادر غينزبرغ، معركة سياسية وجدلاً آيديولوجياً غير مسبوقَيْن في لحظة فائقة الحساسية تمر بها الولايات المتحدة في عام انتخابي يراه البعض مصيرياً.
قد يؤدي ترشيح باريت، الكاثوليكية المتحدرة من أصول آيرلندية، وتثبيتها من قبل مجلس الشيوخ (الذي يهيمن عليه الجمهوريون) في 12 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إلى تغيير جذري في التوازن التاريخي للمحكمة العليا التي تضم 9 قضاة، بين الليبراليين والمحافظين. وفي سن الـ48، ستكون باريت أصغر قضاة المحكمة سناً، وقد تستمر فترة ولايتها لعقود.
خلال السنوات القليلة الماضية، كان رئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة وسطياً، وصوته هو الذي يرجح كفة التصويت. لكن مع استقالة رئيسها السابق المعتدل القاضي أنتوني كينيدي عام 2018، وإقدام الرئيس دونالد ترمب على تعيين القاضي المحافظ اليميني بريت كافاناه بدلاً منه، وقبله تعيينه محافظاً آخر هو القاضي نيل غورستش لخلفاً للمحافظ أنتوني سكاليا - الذي توفي عام 2016 - مالت المحكمة نحو المحافظين، لتضم 6 منهم مقابل 3 ليبراليين.
في مايو (أيار) عام 2017، رشح ترمب القاضية آيمي كوني باريت قاضيةً في الدائرة السابعة لمحكمة الاستئناف الأميركية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) ثبّتها مجلس الشيوخ. والحقيقة، أن ترمب كان يفكر في ترشيحها لتحل محل القاضي الراحل أنتوني سكاليا، إلّا أنه خشي تعرضها لانتقادات شديدة حتى من الجمهوريين أنفسهم بسبب صغر سنها وقلة تجربتها. وعليه، فضل تأجيل ذلك بانتظار شغور منصب القاضية غينزبرغ، التي توقع كثيرون وفاتها أو على الأقل استقالتها بعد إصابتها بالسرطان للمرة الثالثة. وللعلم، قبل تعيينها قاضية، وإبان عملها القانوني، كانت باريت أستاذة للقانون في كلية الحقوق بجامعة نوتردايم العريقة، أغنى الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة، حيث درّست الإجراءات المدنية والقانون الدستوري والتفسير التشريعي.

«أصولية» مسيحية يفضلها المتدينون
باريت التي تُعرف بأنها مسيحية «أصولية» وصفتها وكالة «رويترز» بأنها «المفضلة لدى المحافظين المتدينين». بل إنها إبان حفل تخرج لطلابها، أخبرتهم أنه «إذا كان بإمكانكم أن تضعوا في اعتباركم أن الهدف الأساسي في الحياة ليس أن تكون محامياً، بل أن تعرف الحب وتخدم الله، فستكونون حقاً نوعاً مختلفاً من المحامين».
وككاثوليكية متدينة ولديها تراث آيرلندي، يتابع العديد من المراقبين كيف يمكن أن يؤثر ترشيح باريت على الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. إذ أشاد المحافظون المتدينون بهذا الاختيار، الذي يلقى استحساناً أيضاً لدى الكاثوليك الآيرلنديين والإيطاليين في الولايات الغربية الوسطى الذين صوّتوا لصالح ترمب عام 2016. وبناء عليه، بات يحسب الحساب للشخصيات الكاثوليكية المحافظة من ذوي الأصول الآيرلندية، باعتبارها جسراً جديداً ينضم إلى تحالف المحافظين من الإنجيليين البروتستانت وغيرهم من الجماعات المسيحية المتشددة الأخرى.
يقول الليبراليون إن آراء باريت القانونية متأثرة جداً بمعتقداتها الدينية، ويخشى أن يؤدي وصولها إلى أعلى محكمة في البلاد، إلى تقليص إصلاحات الإجهاض وقضايا الهجرة وحمل السلاح والرعاية الصحية.
أيضاً، يتخوف الديمقراطيين من أن تصوّت باريت حال تعيينها في المحكمة العليا، على قرار لإلغاء قانون الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، الذي حُدّدت جلسته بوم 10 نوفمبر، أي بعد أسبوع واحد من الانتخابات. غير أن البعض يؤكد أن تصريحاتها لا توحي بأنها قد تقدم على ذلك. ويقول خبراء قانونيون إن الحكم بإلغاء قانون الرعاية الصحية قد لا يصدر على أسس آيديولوجية. لا، بل يرجحون عدم إبطاله أصلاً، إذ إن بعض المحامين الذين أيدوا إبطال «أوباما كير»، قالوا إن الدعوى التي رفعتها ولاية تكساس تفتقر إلى الجدارة.
مع هذا، يخشى العديد من الاستراتيجيين الجمهوريين من أنه إذا مضى الجمهوريون في مجلس الشيوخ قدماً في تثبيت باريت رغم اعتراضات الديمقراطيين، قد تتحول معركة تثبيتها إلى سلاح انتخابي في يد الديمقراطيين، الذين يُعِدون بالفعل لاستخدامه عبر إطالة أمد المناقشات والمماحكات لتهشيم صورتها والنيل من ترمب.
في المقابل، يحذر الاستراتيجيون الديمقراطيون من أن التصدّي لتعيينها، فيما هم يفتقدون القدرة على تعطيله، قد يكلفهم خسارة بعض المقاعد في انتخابات مجلس الشيوخ، كما حصل خلال تثبيت القاضي كافاناه، حيث خسر عضوان ديمقراطيان في مجلس الشيوخ مقعديهما في ولايتين تميلان للجمهوريين عام 2018.

النشأة والمسيرة
ولدت آيمي كوني (وهو اسمها الأصلي قبل الزواج)، عام 1972 في مدينة نيو أورلينز بولاية لويزيانا. وتعود جذورها الآيرلندية لأجدادها من ناحية والدتها مع دماء آيرلندية مختلطة من ناحية والدها، وهي الأكبر بين سبعة أطفال، مع خمس أخوات وأخ.
والدها، مايكل كوني، عمل محامياً لشركة «شل للبترول» ورُسّم شماساً في الكنيسة الكاثوليكية خلال الثمانينات. أما والدتها ليندا، فكانت مدرّسة لغة فرنسية في المدرسة الثانوية.
آيمي نشأت في ضاحية ميتايري بنيو أورلينز، وتخرّجت في مدرسة سانت ماري التابعة للرهبنة الدومينيكانية الكاثوليكية بالمدينة عام 1990. وبعدها التحقت بكلية رودز (وهي إحدى أرقي الجامعات الخاصة في ولايات الجنوب الأميركي) بعد حصولها على منحة دراسية، وتخصصت في الأدب الإنجليزي والفرنسية. وفي رودز تخرّجت عام 1994 بدرجة البكالوريوس في الآداب بامتياز. ومنها انتقلت إلى دراسة القانون في كلية الحقوق بجامعة نوتردايم بمنحة دراسية كاملة. وإبان دراستها فيها كانت محرّرة تنفيذية في مجلة «نوتردابم لو ريفيو»، وتخرجت عام 1997 بدرجة دكتوراه في القانون بامتياز.
بعد التخرّج في كلية الحقوق، أمضت باريت سنتين كاتبة قانون قضائي، مع القاضي لورانس سيلبرمان من محكمة الاستئناف الأميركية لدائرة العاصمة واشنطن من 1997 إلى 1998، ثم عملت مع القاضي أنتوني سكاليا في المحكمة العليا الأميركية من 1998 إلى 1999. وقالت في الكلمة التي ألقتها في البيت الأبيض بعد ترشيح ترمب لها، السبت الماضي، إن سكاليا هو مثالها ومدرّبها ومنه تستلهم أحكامها.
أيضاً عام 1999 تزوجت من جيسي باريت، زميلها في كلية الحقوق بجامعة نوتردايم. وهو شريك في شركة محاماة بمدينة ساوث بند في ولاية إنديانا، وأستاذ قانون في جامعة نوتردايم. وكان جيسي باريت قد عمل سابقاً مساعداً للمدعي العام الأميركي للمنطقة الشمالية بولاية إنديانا لمدة 13 سنة. وتعيش العائلة اليوم في مدينة ساوث بند (القريبة جداً من جامعة نوتردايم) ولديهم سبعة أطفال، اثنان منهم تم تبنيهم من هايتي، الأول عام 2005 والثاني عام 2010، بعد الزلزال الذي ضرب الجزيرة. ويعاني طفلها الأصغر من متلازمة التوحُّد وخشي الأطباء ألا يتمكن من النطق أو المشي بشكل طبيعي.
بين عامي 1999 و2002، مارست باريت العمل القانوني في مؤسسة «ميلر كاسيدي لاروكا» في واشنطن العاصمة، التي اندمجت مع مؤسسة «بيكر بوتس» في هيوستن. وخلال فترة عملها في «بيكر بوتس»، عملت في قضية «بوش ضد غور»، وهي الدعوى القضائية التي حسمت الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2000. ويومذاك قدمت المساعدة البحثية والإعلامية لتمثيل بيكر بوتس لجورج بوش الابن الذي كسب الدعوة ليصبح رئيس الولايات المتحدة الـ43.

«مجتمع العهد» عصبة كاثوليكية
آيمب كوني باريت كاثوليكية ملتزمة وعضو في جماعة مسيحية اسمها «مجتمع العهد» في ساوث بند، ويضم 1700 شخص، أكثر من 90 في المائة من أعضائه من الكاثوليك. وهي مرتبطة بحركة التجديد الكاريزمية (الهِبَوية) الكاثوليكية، لكنها غير مرتبطة رسمياً بالكنيسة الكاثوليكية. ووفقا لصحيفة «نيويورك تايمز»، «يُقسِم أعضاء الجماعة قسم الولاء مدى الحياة، ويسمى (عهداً) لبعضهم البعض، وهم مسؤولون أمام مستشار شخصي، يسمى (رأس) الرجال و(خادم) النساء». تؤمن هذه الجماعة بأن الأزواج رؤساء زوجاتهم ويجب أن يتولوا السلطة على الأسرة. وعام 2015، وقّعت باريت خطاباً إلى المجمع الكنسي حول الأسرة جاء فيه أن «تعاليم الكنيسة حول الزواج والأسرة أسست على التزام الرجل والمرأة الذي لا ينفصم».
وخلال جلسة تثبيتها في مجلس الشيوخ قاضيةً في الدائرة السابعة لمحكمة الاستئناف الأميركية عام 2017، أثارت آراؤها حفيظة الديمقراطيين ومخاوفهم من أن يؤثر ولاؤها لمجموعتها الدينية على أحكامها القضائية وتغليب معتقداتها على أحكام القانون والدستور. وبالفعل، استجوبتها السيناتور الديمقراطية ديان فاينشتاين حول مقال قانوني شاركت في كتابته عام 1998 مع الأستاذ جون إتش غارفي. وجادلت فيه بأن على القضاة الكاثوليك في بعض الحالات التنحي عن قضايا عقوبة الإعدام بسبب اعتراضاتهم الأخلاقية على هذه العقوبة. وخلص المقال إلى أن على القاضي التنحي بدلاً من التورط في القضية. ورداً على سؤال حول «توضيح البيانات ومناقشة كيفية النظر إلى قضية الإيمان مقابل الوفاء بالمسؤولية كقاضية»، قالت باريت إنها شاركت في العديد من الطعون المتعلقة بعقوبة الإعدام أثناء عملها ككاتبة قانونية مع القاضي سكاليا. وأضافت: «لن يؤثر انتمائي الشخصي للكنيسة أو معتقداتي الدينية على أداء واجباتي كقاضية، وليس من المناسب أبداً أن يفرض القاضي قناعاته الشخصية، سواء كانت ناشئة عن الإيمان أو أي مكان آخر، بشأن القانون». ومن ثم، شددت على أن المقالة كتبتها في سنتها الثالثة في كلية الحقوق، وأنها كانت «شريكاً صغيراً جداً فيها». غير أن فاينشتاين (اليهودية الليبرالية) ردّت بالقول: «العقيدة تعيش بصوت عالٍ في داخلك، وهذا مصدر قلق».

معاداتها للمثليين والمتحوّلين
واستُجوبت باريت، أيضاً، في سوابق قانونية تتعلق بالمثليين والمتحوّلين جنسياً، بعدما وقّعت 26 منظمة مدنية تعنى بحقوقهم، رسالة تعارض ترشيحها آنذاك. وشكّكت الرسالة بقدرتها على فصل الإيمان عن أحكامها في قضايا مجتمع المثليين. وجاء في الرسالة: «مجرد تكرار أنها ستكون مُلزمة بسابقة المحكمة العليا لا يوضح، بل إنه يشوّش بالفعل. إذ كيف ستفسر الأستاذة باريت تلك السابقة وتطبّقها عند مواجهة أنواع المعضلات التي، في رأيها، (وضعت القضاة الكاثوليك في مأزق)».
غير أن جلسة الاستماع رفعت شعبيتها كثيراً عند المحافظين المتدينين. وانتقد بعض الجمهوريين والمراقبين الآخرين استجواب فاينشتاين وأعضاء مجلس الشيوخ الآخرين لها، باعتباره «تحقيقاً دينياً غير لائق في المعتقد الديني للمرشح وغير مطلوب دستورياً للمنصب».
وفي قضية تتعلق بالأمر التنفيذي الذي وقعه ترمب لرفع معيار شروط الحصول على «البطاقة الخضراء» (الخاصة بالإقامة)، «الغرين كارد»، كتبت باريت نصاً معارضاً من 40 صفحة لقرار الغالبية في المحكمة التي أيدت أمراً قضائياً أولياً بتجميد الأمر التنفيذي المثير للجدل. ورأت باريت أن الأمر التنفيذي يقع ضمن النطاق الواسع للسلطة التقديرية الممنوحة للسلطة التنفيذية من قبل «الكونغرس» من خلال قانون الهجرة والجنسية.
كذلك اعترضت باريت مرة أخرى على قرار المحكمة التي أيدت قانوناً يمنع المجرمين المدانين غير العنيفين من حيازة أسلحة نارية. وفي حين أيد غالبية القضاة قوانين منع الحيازة باعتبارها «مرتبطة بشكل جوهري بمصلحة حكومية مهمة في منع العنف المسلح»، جادلت باريت أنه في حين أن للحكومة مصلحة مشروعة في حرمان المجرمين المدانين بارتكاب جرائم عنيفة من حيازة السلاح، لا يوجد دليل على أن حرمان المجرمين غير العنيفين من السلاح يعزّز هذه المصلحة، وأن قرار المنع ينتهك التعديل الدستوري الأميركي الثاني الذي يضمن الحق في اقتناء السلاح.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.