الرأسمالية... كيف أصبحت مشروعاً قابلاً للحياة؟

فرانشيسكو بولديزّوني يتناول أصولها الفكرية الأولى ومآلاتها

فرانشيسكو بولديزّوني
فرانشيسكو بولديزّوني
TT

الرأسمالية... كيف أصبحت مشروعاً قابلاً للحياة؟

فرانشيسكو بولديزّوني
فرانشيسكو بولديزّوني

كتاب البروفسور الشاب فرانشيسكو بولديزّوني (Francesco Boldizzoni) المعنون بـ«التبشير بنهاية الرأسمالية: مغامرات فكرية قاصرة منذ كارل ماركس» (Foretelling the End of Capitalism: Intellectual Misadventures since Karl Marx)، الصادر قبل بضعة أشهر عن جامعة هارفرد الأميركية، هو أحدث المحاولات التي تناولت بالتفكر الهادئ الأصول الفكرية الأولى لنشأة الرأسمالية، والمآلات المتوقعة لها.
وفرانشيسكو بولديزّوني (مولود عام 1979) مؤرّخ عالم اجتماع إيطالي يعمل في الوقت الحاضر أستاذاً للعلوم السياسية في الجامعة النرويجية للعلوم والتقنية، وسبق له أن عمل أستاذاً في كلّ من جامعة تورين وجامعة هلسنكي، وقبلهما شغل مواقع بحثية في كلية «كلير هول» بجامعة كامبردج، وكذلك في معهد «ماكس بلانك» لدراسة المجتمعات في كولون (ألمانيا).
ويُعدُّ بولديزّوني واحداً من الشخصيات الأوروبية المميّزة في ميدان الاقتصاد السياسي. فقد قدّم مساهماتٍ مؤثرة في حقل النظرية الرأسمالية وتأريخها، وطوّر هيكلاً فكرياً يؤكد أهمية تأريخ الأفكار والمفاهيم في فهم الاقتصاد الحديث. وقد دعا بولديزّوني إلى اعتماد مقاربة غير وضعية (anti-positivist) في دراسة العلوم التأريخية والاجتماعية -تلك المقاربة التي تقوم على بحث الهياكل الاجتماعية، والتأويل الثقافي، والنظرية النقدية. ويُعرَف عن بولديزّوني في وقتنا الراهن كونهُ أحد أكابر النقّاد للتأريخ الاقتصادي النيوليبرالي، وقد عبّر عن قناعاته الناقدة للسياسات النيوليبرالية في كتابه المعنون بـ«فقر الأغلبية: إعادة بعث التأريخ الاقتصادي».
وألف بولديزّوني قبل كتابه هذا كتابين آخرين صارا مصدرين مرجعيين في ميدانهما: «وسائل وغايات: فكرة رأس المال في الغرب (1500-1970)» (2008)، و«فقر الأغلبية: إعادة بعث التأريخ الاقتصادي» (2011).
وما فتئ النقاد يواصلون تدبيج أطروحاتهم التنظيرية المبشرة بالموت الوشيك للرأسمالية الصناعية منذ اللحظة التي هيمنت فيها هذه الرأسمالية على العالم الغربي في بواكير القرن التاسع عشر. ونحن على ألفة مع نبوءات كارل ماركس (Karl Marx)، لكننا أقل ألفة بكثير مع ما كتبه معاصرُ ماركس، جون ستيوارت مِل (John Stuart Mill)، الفيلسوف الإنسانوي الكبير الذي كان عظيم الاهتمام بمعرفة قدرة الاقتصاديات المختلفة على البقاء في المدى البعيد.
وقد شهدت النظريات المتصارعة الخاصة بالنهايات المحتملة للسياسات الرأسمالية تواصلاً مستديماً منذ بواكير القرن التاسع عشر حتى مائتي سنة بعدها (أي حتى مطالع الألفية الثالثة الراهنة)، وكانت هذه النظريات عُرضة لتغييرات مواكبة لتغير العالم الذي نعيشه، إذ مِن جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes) وجوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter) حتى دانييل بِل (Daniel Bell) وهربرت ماركوز (Herbert Marcuse)، أبدى المنظرون استجاباتٍ متباينة للعالم الذي يعيشون فيه، بطريقة انطوت على نبوءات مختلفة متقاطعة بشأن المستقبل الاقتصادي الدقيق الذي سيكون عليه العالم.
وبرهنت نبوءة نهاية الرأسمالية دوماً كونها تمريناً فكرياً له من القدرة على الاستدامة مثل ما للرأسمالية من قدرة على الاستمرارية. هنا، يجب علينا أن نتساءل: لِمَ صار الحال إلى ما نراه الآن؟ يقدم لنا البروفسور فرانشيسكو بولديزّوني في كتابه الجديد «نبوءة نهاية الرأسمالية: مغامرات فكرية قاصرة منذ كارل ماركس» خريطة فكرية لهذه النظريات المتصارعة، ويشخص مآلاتها الفاشلة. والكتاب تأريخ شامل لهذه التوجهات النظرية، فهو يحاول جاهداً توضيح منابت هذه الأفكار، ثم ينتهي في خاتمة الكتاب إلى توضيح الكيفية التي جعلت الرأسمالية مشروعاً قابلاً للبقاء على قيد الحياة.
ثمّة توصيف اصطلاحي هو «الرأسمالية المتأخرة» (Late Capitalism) وجد شيوعاً واسعاً بين عامة الناس في العقدين الأخيرين، خاصة بعد أن أشاعه المنظر الثقافي فريدريك جيمسون (Fredric Jameson). وقد بدت مفردة «المتأخرة» الملحقة بالرأسمالية توصيفاً يُراد منه الإيحاء بأن منظومتنا السياسية والاقتصادية الراهنة يمكن الإطاحة بها في أي يوم من قابلات الأيام لأنها شاخت بفعل تقادم الزمن. وفي الوقت الذي تشير فيه عبارة «الرأسمالية المتأخرة»، في سياقها الدلالي بالطبع، إلى بعضٍ من المعالم الرئيسية التي بنى عليها ماركس نظريته الاقتصادية، فإن كتاب البروفسور بولديزّوني (نبوءة نهاية الرأسمالية) يقدم إضاءات حول التأريخ الفكري تدعم أفكاراً على شاكلة «الرأسمالية المتأخرة». كما يقدم الكتاب مساءلة واستكشافاً للكيفية التي يمكن بها للرأسمالية أن تحقق فعلاً متجاوزاً على واقع حالها الراهن، إذا ما كان مثل هذا التجاوز ضرورة لا بديل عنها للبقاء على قيد الحياة.
ويندهش المرء حقاً بسبب التنبؤات الكئيبة الخاصة بمآل الرأسمالية التي أعقبت الأزمة المالية العالمية (إشارة إلى أزمة عام 2008)، لكن الدهشة الأكبر كانت مدفوعة بحقيقة مفادها أن الناس ما عادت تتعامل مع الرأسمالية بصفتها معطى قائماً بذاته يجب قبوله كيفما كان؛ ومثلت هذه الحقيقة شيئاً جديداً غير مسبوق نشأ في حقبة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. وكانت تلك الحقبة زمناً كنا فيه ما نزال نستمتع بثمار السلام الاجتماعي والرفاهية الاجتماعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والحق أن تلك الاستقرارية التي عشنا في خضمها ثُلِمت بفعل الأزمة المالية الأخيرة، لكنها تطلبت بعضاً من الوقت لإدراك أبعاد هذه الحقيقة.
وقد كانت تسعينيات القرن الماضي عقداً تخلى فيه اليسار عن شعاره العتيد الداعي لتغيير الرأسمالية. والرأسمالية من جانبها تصاغرت ومنحت قيادها بعبودية ذليلة للسياسات النيوليبرالية التي اعتمدها كل من رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، ونافح عنها لاحقاً كل من بل كلينتون وتوني بلير، ولم يكن بوسع هؤلاء الذين انشقوا عن المسيرة النيوليبرالية سوى أن يلتمسوا اللجوء إلى ظلال الفانتازيات اليوتوبية الهادئة، لذا عندما حلت الأزمة المالية العالمية عام 2008، أيقظت هؤلاء اليساريين التقدميين من رقدتهم المجللة بالسبات. وحينها، وجد هؤلاء أنفسهم على غير جاهزية للتعامل مع الأوضاع المستجدة. ويذكرنا البروفسور بولديزّوني بأن الحاجة لكتابة هذا الكتاب نبعت من الشعور بضرورة بيان الحقائق السابقة، فضلاً أيضاً عن الضرورة الملحة لتذكير هؤلاء الذين طال سباتهم بالأصول التي شكلت متبنياتهم الفكرية، وما آلت إليه هذه الأصول الفكرية في فترات لاحقة.
يكتب بولديزّوني بنبرة سردية مشرقة معبراً عن حقيقة لطالما تغافلها اليسار الراديكالي الجديد، والمبشرون بالنهاية القيامية للرأسمالية: كان كارل ماركس بالتأكيد مندهشاً بما جاءت به الرأسمالية، وما مِن أحد فهم الرأسمالية بمثل ما فعل ماركس. فعند قراءة كتاب «رأس المال» (Capital)، قد يشعر المرء أحياناً بمثل شعور من يصغي إلى صانع ساعات وهو يتحدث بدهشة طافحة عن ساعة فلكية عملاقة انتهى للتو من فحصها. ولكن رغم هذه الحقيقة، فإن ماركس لم يختزل وظيفة الرأسمالية إلى موضوعة من موضوعات الميكانيك، بل امتلك ماركس القدرة على وضع الرأسمالية في سياقها التأريخي، مثلما فعل مع كل النُظُم التي سبقتها. وتكمن معضلة ماركس في أنه امتلك إيماناً مفرطاً بتأويله الخاص للتأريخ الذي يتجوهر في فكرة أن التغير التقني يمتلك القدرة على توليد التغير الاجتماعي في المدى الطويل. نعلم اليوم، أو الأصح أن نقول ينبغي أن نعلم اليوم، أن الأمور أكثر تعقيداً من هذه الرؤية الماركسية.
وقد مثل جون ستيوارت مِلْ روحاً أكثر عملية، بالمقارنة مع روح ماركس، إذ لم يُبدِ مل انقياداً مستسلماً للتنبؤات بشأن الموت المحتوم للرأسمالية، واكتفى بالتفكر في أن الرأسمالية لها تكاليف إنسانية وبيئية عالية للغاية، وغير مقدرٍ لها أن تستديم لأزمان طويلة مقبلة. وفضلاً عن هذا، فقد آمن مِلْ، وبثبات صارم، في قدرة الإنسانية على الارتقاء الأخلاقي، لذلك راودته آمال عريضة في أن ارتقاء الحضارة البشرية كفيلٌ بتغيير الرأسمالية تغييراً جذرياً (راديكالياً)، قبل أن يصبح الأمر عصياً على أي تغيير.
الأمثولة البليغة التي يمكن أن نخرج بها من قراءة كتاب البروفسور بولديزّوني هي أن الرأسمالية تبقى في نهاية الأمر نظاماً اجتماعياً، وأن المفاعيل الناجمة عنه تعتمد -بالتأكيد- على الظروف المادية المحيطة به، وليست مرهونة برؤى منفصلة عن وقائع الحياة الحقيقية، وأن التفكير الرغائبي لا يمكن أن يكون بديلاً عن الوقائع المرئية على الأرض.
- كاتبة روائية مترجمة عراقية تقيم في الأردن


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.