الرأسمالية... كيف أصبحت مشروعاً قابلاً للحياة؟

فرانشيسكو بولديزّوني يتناول أصولها الفكرية الأولى ومآلاتها

فرانشيسكو بولديزّوني
فرانشيسكو بولديزّوني
TT

الرأسمالية... كيف أصبحت مشروعاً قابلاً للحياة؟

فرانشيسكو بولديزّوني
فرانشيسكو بولديزّوني

كتاب البروفسور الشاب فرانشيسكو بولديزّوني (Francesco Boldizzoni) المعنون بـ«التبشير بنهاية الرأسمالية: مغامرات فكرية قاصرة منذ كارل ماركس» (Foretelling the End of Capitalism: Intellectual Misadventures since Karl Marx)، الصادر قبل بضعة أشهر عن جامعة هارفرد الأميركية، هو أحدث المحاولات التي تناولت بالتفكر الهادئ الأصول الفكرية الأولى لنشأة الرأسمالية، والمآلات المتوقعة لها.
وفرانشيسكو بولديزّوني (مولود عام 1979) مؤرّخ عالم اجتماع إيطالي يعمل في الوقت الحاضر أستاذاً للعلوم السياسية في الجامعة النرويجية للعلوم والتقنية، وسبق له أن عمل أستاذاً في كلّ من جامعة تورين وجامعة هلسنكي، وقبلهما شغل مواقع بحثية في كلية «كلير هول» بجامعة كامبردج، وكذلك في معهد «ماكس بلانك» لدراسة المجتمعات في كولون (ألمانيا).
ويُعدُّ بولديزّوني واحداً من الشخصيات الأوروبية المميّزة في ميدان الاقتصاد السياسي. فقد قدّم مساهماتٍ مؤثرة في حقل النظرية الرأسمالية وتأريخها، وطوّر هيكلاً فكرياً يؤكد أهمية تأريخ الأفكار والمفاهيم في فهم الاقتصاد الحديث. وقد دعا بولديزّوني إلى اعتماد مقاربة غير وضعية (anti-positivist) في دراسة العلوم التأريخية والاجتماعية -تلك المقاربة التي تقوم على بحث الهياكل الاجتماعية، والتأويل الثقافي، والنظرية النقدية. ويُعرَف عن بولديزّوني في وقتنا الراهن كونهُ أحد أكابر النقّاد للتأريخ الاقتصادي النيوليبرالي، وقد عبّر عن قناعاته الناقدة للسياسات النيوليبرالية في كتابه المعنون بـ«فقر الأغلبية: إعادة بعث التأريخ الاقتصادي».
وألف بولديزّوني قبل كتابه هذا كتابين آخرين صارا مصدرين مرجعيين في ميدانهما: «وسائل وغايات: فكرة رأس المال في الغرب (1500-1970)» (2008)، و«فقر الأغلبية: إعادة بعث التأريخ الاقتصادي» (2011).
وما فتئ النقاد يواصلون تدبيج أطروحاتهم التنظيرية المبشرة بالموت الوشيك للرأسمالية الصناعية منذ اللحظة التي هيمنت فيها هذه الرأسمالية على العالم الغربي في بواكير القرن التاسع عشر. ونحن على ألفة مع نبوءات كارل ماركس (Karl Marx)، لكننا أقل ألفة بكثير مع ما كتبه معاصرُ ماركس، جون ستيوارت مِل (John Stuart Mill)، الفيلسوف الإنسانوي الكبير الذي كان عظيم الاهتمام بمعرفة قدرة الاقتصاديات المختلفة على البقاء في المدى البعيد.
وقد شهدت النظريات المتصارعة الخاصة بالنهايات المحتملة للسياسات الرأسمالية تواصلاً مستديماً منذ بواكير القرن التاسع عشر حتى مائتي سنة بعدها (أي حتى مطالع الألفية الثالثة الراهنة)، وكانت هذه النظريات عُرضة لتغييرات مواكبة لتغير العالم الذي نعيشه، إذ مِن جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes) وجوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter) حتى دانييل بِل (Daniel Bell) وهربرت ماركوز (Herbert Marcuse)، أبدى المنظرون استجاباتٍ متباينة للعالم الذي يعيشون فيه، بطريقة انطوت على نبوءات مختلفة متقاطعة بشأن المستقبل الاقتصادي الدقيق الذي سيكون عليه العالم.
وبرهنت نبوءة نهاية الرأسمالية دوماً كونها تمريناً فكرياً له من القدرة على الاستدامة مثل ما للرأسمالية من قدرة على الاستمرارية. هنا، يجب علينا أن نتساءل: لِمَ صار الحال إلى ما نراه الآن؟ يقدم لنا البروفسور فرانشيسكو بولديزّوني في كتابه الجديد «نبوءة نهاية الرأسمالية: مغامرات فكرية قاصرة منذ كارل ماركس» خريطة فكرية لهذه النظريات المتصارعة، ويشخص مآلاتها الفاشلة. والكتاب تأريخ شامل لهذه التوجهات النظرية، فهو يحاول جاهداً توضيح منابت هذه الأفكار، ثم ينتهي في خاتمة الكتاب إلى توضيح الكيفية التي جعلت الرأسمالية مشروعاً قابلاً للبقاء على قيد الحياة.
ثمّة توصيف اصطلاحي هو «الرأسمالية المتأخرة» (Late Capitalism) وجد شيوعاً واسعاً بين عامة الناس في العقدين الأخيرين، خاصة بعد أن أشاعه المنظر الثقافي فريدريك جيمسون (Fredric Jameson). وقد بدت مفردة «المتأخرة» الملحقة بالرأسمالية توصيفاً يُراد منه الإيحاء بأن منظومتنا السياسية والاقتصادية الراهنة يمكن الإطاحة بها في أي يوم من قابلات الأيام لأنها شاخت بفعل تقادم الزمن. وفي الوقت الذي تشير فيه عبارة «الرأسمالية المتأخرة»، في سياقها الدلالي بالطبع، إلى بعضٍ من المعالم الرئيسية التي بنى عليها ماركس نظريته الاقتصادية، فإن كتاب البروفسور بولديزّوني (نبوءة نهاية الرأسمالية) يقدم إضاءات حول التأريخ الفكري تدعم أفكاراً على شاكلة «الرأسمالية المتأخرة». كما يقدم الكتاب مساءلة واستكشافاً للكيفية التي يمكن بها للرأسمالية أن تحقق فعلاً متجاوزاً على واقع حالها الراهن، إذا ما كان مثل هذا التجاوز ضرورة لا بديل عنها للبقاء على قيد الحياة.
ويندهش المرء حقاً بسبب التنبؤات الكئيبة الخاصة بمآل الرأسمالية التي أعقبت الأزمة المالية العالمية (إشارة إلى أزمة عام 2008)، لكن الدهشة الأكبر كانت مدفوعة بحقيقة مفادها أن الناس ما عادت تتعامل مع الرأسمالية بصفتها معطى قائماً بذاته يجب قبوله كيفما كان؛ ومثلت هذه الحقيقة شيئاً جديداً غير مسبوق نشأ في حقبة ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. وكانت تلك الحقبة زمناً كنا فيه ما نزال نستمتع بثمار السلام الاجتماعي والرفاهية الاجتماعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والحق أن تلك الاستقرارية التي عشنا في خضمها ثُلِمت بفعل الأزمة المالية الأخيرة، لكنها تطلبت بعضاً من الوقت لإدراك أبعاد هذه الحقيقة.
وقد كانت تسعينيات القرن الماضي عقداً تخلى فيه اليسار عن شعاره العتيد الداعي لتغيير الرأسمالية. والرأسمالية من جانبها تصاغرت ومنحت قيادها بعبودية ذليلة للسياسات النيوليبرالية التي اعتمدها كل من رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، ونافح عنها لاحقاً كل من بل كلينتون وتوني بلير، ولم يكن بوسع هؤلاء الذين انشقوا عن المسيرة النيوليبرالية سوى أن يلتمسوا اللجوء إلى ظلال الفانتازيات اليوتوبية الهادئة، لذا عندما حلت الأزمة المالية العالمية عام 2008، أيقظت هؤلاء اليساريين التقدميين من رقدتهم المجللة بالسبات. وحينها، وجد هؤلاء أنفسهم على غير جاهزية للتعامل مع الأوضاع المستجدة. ويذكرنا البروفسور بولديزّوني بأن الحاجة لكتابة هذا الكتاب نبعت من الشعور بضرورة بيان الحقائق السابقة، فضلاً أيضاً عن الضرورة الملحة لتذكير هؤلاء الذين طال سباتهم بالأصول التي شكلت متبنياتهم الفكرية، وما آلت إليه هذه الأصول الفكرية في فترات لاحقة.
يكتب بولديزّوني بنبرة سردية مشرقة معبراً عن حقيقة لطالما تغافلها اليسار الراديكالي الجديد، والمبشرون بالنهاية القيامية للرأسمالية: كان كارل ماركس بالتأكيد مندهشاً بما جاءت به الرأسمالية، وما مِن أحد فهم الرأسمالية بمثل ما فعل ماركس. فعند قراءة كتاب «رأس المال» (Capital)، قد يشعر المرء أحياناً بمثل شعور من يصغي إلى صانع ساعات وهو يتحدث بدهشة طافحة عن ساعة فلكية عملاقة انتهى للتو من فحصها. ولكن رغم هذه الحقيقة، فإن ماركس لم يختزل وظيفة الرأسمالية إلى موضوعة من موضوعات الميكانيك، بل امتلك ماركس القدرة على وضع الرأسمالية في سياقها التأريخي، مثلما فعل مع كل النُظُم التي سبقتها. وتكمن معضلة ماركس في أنه امتلك إيماناً مفرطاً بتأويله الخاص للتأريخ الذي يتجوهر في فكرة أن التغير التقني يمتلك القدرة على توليد التغير الاجتماعي في المدى الطويل. نعلم اليوم، أو الأصح أن نقول ينبغي أن نعلم اليوم، أن الأمور أكثر تعقيداً من هذه الرؤية الماركسية.
وقد مثل جون ستيوارت مِلْ روحاً أكثر عملية، بالمقارنة مع روح ماركس، إذ لم يُبدِ مل انقياداً مستسلماً للتنبؤات بشأن الموت المحتوم للرأسمالية، واكتفى بالتفكر في أن الرأسمالية لها تكاليف إنسانية وبيئية عالية للغاية، وغير مقدرٍ لها أن تستديم لأزمان طويلة مقبلة. وفضلاً عن هذا، فقد آمن مِلْ، وبثبات صارم، في قدرة الإنسانية على الارتقاء الأخلاقي، لذلك راودته آمال عريضة في أن ارتقاء الحضارة البشرية كفيلٌ بتغيير الرأسمالية تغييراً جذرياً (راديكالياً)، قبل أن يصبح الأمر عصياً على أي تغيير.
الأمثولة البليغة التي يمكن أن نخرج بها من قراءة كتاب البروفسور بولديزّوني هي أن الرأسمالية تبقى في نهاية الأمر نظاماً اجتماعياً، وأن المفاعيل الناجمة عنه تعتمد -بالتأكيد- على الظروف المادية المحيطة به، وليست مرهونة برؤى منفصلة عن وقائع الحياة الحقيقية، وأن التفكير الرغائبي لا يمكن أن يكون بديلاً عن الوقائع المرئية على الأرض.
- كاتبة روائية مترجمة عراقية تقيم في الأردن


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.