فصام تركي... الليرة تنهار والحكومة حالمة

وزير المالية التركي في مؤتمر صحافي أمس للإعلان عن برنامج اقتصادي متوسط الأمد (رويترز)
وزير المالية التركي في مؤتمر صحافي أمس للإعلان عن برنامج اقتصادي متوسط الأمد (رويترز)
TT

فصام تركي... الليرة تنهار والحكومة حالمة

وزير المالية التركي في مؤتمر صحافي أمس للإعلان عن برنامج اقتصادي متوسط الأمد (رويترز)
وزير المالية التركي في مؤتمر صحافي أمس للإعلان عن برنامج اقتصادي متوسط الأمد (رويترز)

فيما كان وزير المالية التركي يعلن في مؤتمر صحافي الثلاثاء عن برنامج اقتصادي متوسط الأمد، كانت الليرة التركية تتهاوى إلى قاع تاريخي جديد مقابل الدولار، فيما يشبه الرد الفوري للأسواق على ما يبدو أنه حالة فصام كامل للإدارة التركية عن الواقع الاقتصادي.
وبلغت الليرة مستوى قياسياً متدنياً عند 7.8550 مقابل الدولار، لتتراجع من إغلاق عند 7.81 يوم الاثنين. والليرة منخفضة بنحو 24 في المائة منذ بداية العام الجاري بفعل مخاوف حيال نفاد احتياطيات النقد الأجنبي لتركيا وأسعار فائدة سلبية.
ولفتت وكالة «بلومبرغ» إلى أن هذا التراجع يأتي وسط حالة القلق إزاء القتال بين أذربيجان وأرمينيا، وكذلك وسط ترقب لإعلان وزارة الخزانة والمالية عن الأرقام المستهدفة للنمو والتضخم وعجز الموازنة للسنوات الثلاث القادمة.
وكان البنك المركزي التركي رفع نهاية الأسبوع الماضي سعر الفائدة الرئيسي للمرة الأولى منذ حدوث أزمة العملة أواخر عام 2018، حيث قررت لجنة السياسة النقدية بقيادة محافظ البنك المركزي، مراد أويصال، رفع سعر الفائدة على عمليات إعادة الشراء القياسي لأجل أسبوع، من 8.25 في المائة إلى 10.25 في المائة، في خطوة فاجأت المحللين الذين كانوا يتوقعون الإبقاء على أسعار الفائدة نظراً لما يمارسه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من ضغوط على المركزي.
وقال وزير المالية التركي براءت ألبيرق الثلاثاء إن من المتوقع أن ينمو اقتصاد بلاده 0.3 في المائة العام الجاري مع تعافيه من تداعيات جائحة فيروس كورونا، ولكنه حذر من انكماش 1.5 في المائة في أسوأ الاحتمالات.
وانكمش اقتصاد تركيا 9.9 في المائة في الربع الثاني بسبب إجراءات العزل العام التي تسببت في توقف الأنشطة تقريبا، وهو أسوأ أداء سنوي في عقد، ولكنه شرع في التعافي منذ ذلك الحين.
وأضاف الوزير عند عرض برنامج حكومي جديد متوسط المدى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي سيتباطأ في الربع الأخير مقارنة بالربع الثالث، ولكن سيتسارع إلى 5.8 في المائة في عام 2021.
ونقلت وكالة «الأناضول» التركية عنه القول: «لتحقيق أهدافنا للنمو، سنركز على الصادرات والإنتاج والتوظيف، كما فعلنا دائماً». ووفقاً للبرنامج، من المتوقع أن يصل معدل البطالة إلى 13.8 في المائة هذا العام و12.9 في المائة العام المقبل.
وقال ألبيرق إن معدل البطالة سينخفض تدريجياً إلى 10.9 في المائة بحلول عام 2023. وقال إن الحكومة تعتزم تنفيذ سياسات للتعافي الاقتصادي خلال مرحلة ما بعد جائحة كورونا لدعم سوق العمل. وحالت واردات الذهب وخسائر السياحة بسبب إجراءات العزل جراء الفيروس دون تحقيق فائض في ميزان المعاملات الجارية في 2020، لكن تركيا تهدف لتحسين ميزان المعاملات الجارية وتحقيق نمو مستدام. وستواصل تركيا خطواتها لعودة الحياة الطبيعية في الأسابيع المقبلة ودعم الاستقرار المالي... ولم يكن للبرنامج الذي عرضه ألبيرق أي تأثير فوري على الليرة التي واصلت تهاويها نتيجة مخاوف بشأن الصراع في القوقاز.
ويوم السبت الماضي، قال إردوغان إن اقتصاد بلاده سيواصل تحطيم الأرقام القياسية الجديدة، وهو ما انتقده رئيس حزب المستقبل التركي المعارض، أحمد داود أوغلو، قائلاً إن الاقتصاد يمر بأزمة حادة للغاية، وتابع: «تعلمون أن حالة الاقتصاد أصبحت سيئة جداً والسيد إردوغان يقول إن اقتصادنا بلغ ذروته. يقول الحقيقة، فقد بلغ التضخم ذروته خلال العشرين عاما الماضية، وكذلك البطالة وسعر الفائدة وعجز الميزانية والانكماش الاقتصادي والديون وسعر الدولار. هذه مؤشرات بلغت ذروتها خلال العشرين عاماً الماضية... بالنظر إلى هذه القائمة، من المستحيل الاختلاف مع السيد إردوغان. إنهم على حق، كما يقولون، لقد نهض الاقتصاد بالفعل، ووصل اقتصادنا إلى ذروته حقاً. التضخم وصل إلى 15 في المائة، وبلغ معدل البطالة على نطاق واسع 30 في المائة. حتى نصف سكاننا الذين يمكنهم العمل لا يمكنهم العمل. هناك شاب ضمن كل ثلاثة عاطل عن العمل. واقترب الدولار من 8 ليرات. كيف سنقفز عبر العصور كما قال وزير الاقتصاد؟».



هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.