عدنان فرزات.. ما أقسى الموت في الغربة!

رحيل «لسان البسطاء وقلمهم»

عدنان فرزات
عدنان فرزات
TT

عدنان فرزات.. ما أقسى الموت في الغربة!

عدنان فرزات
عدنان فرزات

أحدث رحيل الإعلامي والروائي السوري عدنان فرزات، صدمة كبيرة في نفوس المثقفين العرب، من الخليج إلى مسقط رأسه دير الزور على الضفة السورية لنهر الفرات.
جاء رحيله مفاجئاً، وصاعقاً، هو الذي جمع حوله أطياف المثقفين العرب، خصوصاً في الكويت والخليج. عمله في الصحافة الثقافية المتعددة، وفي مؤسسة «جائزة عبد العزيز البابطين» الفاعلية في النشاط الثقافي على الصعيد العربي والعالمي، جعلت عدنان الذي يتقن فن نسج العلاقات التي لا تنقطع، محلّ ثقة واحترام المثقفين في عموم العالم العربي.
فاجأه المرض، ليصرم السنوات الـ56 التي شيدّها بنفسه؛ عاماً من حلم، وعاماً من عناء، قضى أغلبها في الغربة والمنفى حاملاً همّ وطنه الذي ينزف، وهمّ الثقافة التي خدمها برموش عينيه.
ولد عدنان فرزات في دير الزور، وكانت عائلته من حماة، وفي جامعة حلب درس في كلية الحقوق، وخلال دراسته فيها، بدأ العمل في مجال الصحافة والإعلام، وكانت بدايته صحيفة «الجماهير» في حلب.
في حلب الشهباء واجه عدنان قسوة الحياة وشظفها، يقول في حوار صحافي: «عشتُ أياماً بائسة كنت أمضي يوماً كاملاً على وجبة واحدة، أو ربما سندويتشة، ولم أكن أملك دثاراً في برد حلب المعروف بقسوته، فأضطر للنوم بثيابي الشتوية التي أذهب فيها إلى الجامعة، والعمل البسيط الذي لا يسد فاقتي، وكنت أسكن في غرفة أرى فيها الجرذان تجري من أمامي، وظللت أكافح وأعمل ليل نهار».
المعاناة التي لازمته كظله، أصبحت شبحاً ثقيلاً يحمله معه أينما حلّ: «حملتُ المعاناة منذ طفولتي، بدأتُ حياتي بكفاح مرير وحياة بائسة من الفقر والجوع والتشرد. المعاناة كوّنت لدي أحاسيس مرهفة تجاه الفقراء والبسطاء والمعذبين في هذا الكون والمشردين والذين يعانون».
بعدها حطّ رحاله في الكويت لبعض الوقت، ومنها سافر إلى أكثر من دولة ومدينة حول العالم... «كل دولة أسافر إليها أستقي من أزقتها القديمة ومعالمها التاريخية أثر الإنسان. أصافح في حجارتها عقولاً صنعت هذا المجد المدهش».
في عام 2000 صدرت في دمشق جريدة «الدومري» كأول صحيفة مستقلة منذ عام 1963، وكان شقيقه رسام الكاريكاتور الشهير علي فرزات أبرز مؤسسيها، وأصبح عدنان رئيساً لتحرير الصحيفة، ولم تستمر تجربته فيها طويلاً حيث غادرها مجدداً إلى الكويت، حيث عمل في العديد من الصحف والمؤسسات الثقافية هناك، وكان أبرز تلك الأماكن عمله كمسؤول المركز الإعلامي في مؤسسة «جائزة عبد العزيز البابطين» للإبداع الشعري، ومدير قناة البابطين الثقافية التلفزيونية، ونشاطه المميز في رابطة الأدباء، حيث أصبح سكرتير تحرير لمجلة «البيان» الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، عمل كذلك في العديد من وسائل الإعلام الكويتية بينها «القبس» و«الأنباء»، ومجلة «المستثمرون»، وصحف خليجية متعددة، حتى استقرّ به المقام، مراسلاً متعاوناً في القسم الثقافي لصحيفة «الشرق الأوسط».
كانت روايته «رأس الرجل الكبير» أول عمل سردي يتعرض للحراك السوري، عبر رصدها لحركة الناس في الأحياء الشعبية لمدينة حلب. وقد أصدر عدنان فرزات خمس روايات هي: «جمر النكايات» 2010، و«رأس الرجل الكبير» 2011، و«كان الرئيس صديقي» 2013، و«لقلبك تاج من فضة» 2014، و«تحت المعطف» 2015، وفي كل أعماله كان عدنان ينحاز للفقراء والمهمشين: «لم أنس الناس البسطاء في رواياتي وكتاباتي. أنا لسانهم وقلمهم الذي يتحدث عن معاناتهم وقلمي يكتب لهم».
أنتج له تلفزيون الكويت أفلاماً وثائقية، منها «ماينهز الفنجان»، و«رحيل الطيور الطائرة»، و«وطني الثاني: على الحلوة والمرة»، و«العتمة والنور». وحظيت أعماله الروائية بالعديد من الندوات والدراسات النقدية.
حمل عدنان فرزات غربته على كتفيه يبحث عن درب يوصله إلى وطنه الذي حلم أن يعود إليه، مشاياً أو محمولاً، وشاءت الأقدار أن تحتضن جثمانه أرض الكويت، كما احتضنت شبابه وعطاءه ومجده الذي سيبقى طويلاً.



عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب
TT

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

في نهاية يناير (كانون الثاني) من كل عام ينتظر القراء والكتاب معرض القاهرة الدولي للكتاب؛ الحدث الثقافي الأبرز، بكل ما يحمله من زخم ثقافي، وفعاليات فنية، وكتب جديدة يسارع الناشرون لتجهيزها وطباعتها لطرحها بالمعرض، وفي المقابل تتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى معرض افتراضي، إذ ينشط المؤلفون ودور النشر المختلفة في الإعلان عن كتبهم الجديدة، بأغلفتها الزاهية، وتمتلئ أجنحة دور النشر بحفلات التوقيع، ليلتقي القراء بمؤلفيهم المفضلين، يتحلقون حولهم، ويلتقطون الصور معهم، حيث يلعب الحضور الجسدي دوراً مهماً في بلورة علاقة حية من التواصل المادي الملموس بين المؤلف والقارئ؛ هذا الطقس الذي يتكرر سنوياً ويظل مبهجاً للقراء والكتاب.

ومع بدء الدورة السادسة والخمسين التي تنطلق غداً (الخميس) وتستمر فعالياتها حتى 5 فبراير (شباط) المقبل، يعيش المعرض ظاهرة لافتة قلما تتوافر في دوراته السابقة، وهي وجود كتب جديدة لن يتمكن مؤلفوها من رؤية أغلفتها وملامسة أوراقها، ولن يقيموا لها حفلات توقيع، فلن يحضروا بأجسادهم بين القراء، وذلك عقب لجوء عدد من دور النشر، الحكومية والخاصة، لإصدار كتب جديدة لمؤلفين راحلين من كبار الكتاب والرموز الأدبية والفنية، بعض هذه الكتب ينشر للمرة الأولى، وبعضها يعاد طبعه بعد نفاد طبعاته السابقة، ومعظمها مرشح لخطف الأضواء، حتى من كتب المؤلفين الأحياء، نظراً لأهميتها الكبيرة، أو لأسماء المؤلفين الراحلين الراسخة في مجالاتها، والذين يشاركون بإبداعهم من موقعهم في العالم الآخر.

ناصف والعطار: في مرايا النقد والحداثة

من الأسماء المهمة التي سيكون لها حضور قوي في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام، الناقد والمفكر والأكاديمي الراحل مصطفى ناصف (1921 - 2008)، وهو أحد أهم النقاد العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ تعاقدت الهيئة المصرية العامة للكتاب على نشر أعماله، كواحد من أبرز الداعين إلى تجديد مناهج النقد العربي عبر عملية جدلية تضع في حسبانها علاقة الذات العربية بكل تراثها الثقافي والفكري المتراكم، مع الآخر الغربي بكل إنتاجه الفكري والفلسفي. فكان ينظر إلى مناهج الحداثة الغربية بعين عربية فاحصة، تلتقط الصالح منها وتتجنّب كل ما يتنافى مع الخصوصية الحضارية للثقافة العربية.

ووفقاً هذا التعاقد، نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن إصداراتها لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، عدة كتب للناقد الراحل، منها «الصورة الأدبية»، و«نظرية المعنى في النقد العربي»، و«مسؤولية التأويل»، و«لعبة الكتابة».

من مصطفى ناصف، أحد أشهر أساتذة الأدب في جامعة عين شمس، إلى الأكاديمي البارز والمترجم الراحل سليمان العطار (1945 - 2020) الأستاذ في كلية الآداب جامعة القاهرة، استمر اهتمام الهيئة المصرية العامة للكتاب بإعادة نشر الفكر الأكاديمي والبحثي الرصين، وتعاقدت على إصدار الأعمال الكاملة له، كأحد أبرز المفكرين والمثقفين المصريين، بفكره المتميز العميق وأسلوبه النقدي، واهتمامه الخاص بقراءة التراث، وكان للخيال مكانة خاصة في فكره، واعتبره أداة للخلق المعرفي والابتكار، فدرس نظرية الخيال عند ابن عربي، في كتابيه «الخيال والشعر في تصوف الأندلس»، و«الخيال: النظرية والمجالات عند ابن عربي». كما ترجم العطار أعمالاً أدبية عالمية مثل «مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«دون كيخوتي» لثرفانتس، فضلاً عن أن له كتابات إبداعية، مثل رواية «سبعة أيام»، ورواية «عصابة سرقة الآثار» ومجموعة قصصية «النساء لن تدخل الجحيم».

خيري شلبي... حكايات لا تموت

ومن الفكر النقدي والبحث الأكاديمي، إلى الخيال الأدبي، إذ يشارك في المعرض الروائي الكبير الراحل خيري شلبي (1938 - 2011)، أحد أهم روائيي جيل الستينات، الذي رحل عن عالمنا منذ 13 سنة تقريباً، لكن ما زالت في أدراجه أعمال لم تنشر، وعكفت أسرته على جمع مقالاته وكتاباته المتناثرة في عدد من الصحف والمجلات، ونشرها لأول مرة في عدة كتب هذا العام، وسينشر في المعرض، حسب نجله زين العابدين خيري شلبي، كتاب عن فؤاد حداد، وقد كتب عنه شلبي عشرات المقالات، تم جمع عدد منها في كتاب «القطب الأكبر»، ويصدر عن «دار غايا».

يضيف زين: «هناك كتب أخرى جديدة سوف تصدرها تباعاً (غايا)، ومنها كتاب (أساتذتي)، وهو تجميع لمقالات الراحل عن كبار الكتاب الذين كتب عنهم أكثر من مرة، مثل نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي. أما الكتاب الثالث (منازل العاشقين)، فيجمع مقالاته في الثقافة الإسلامية والتصوف، بعضها سبق نشره في كتيبات صغيرة، وبعضها نشره في سلسلة مقالات بمجلة (الإذاعة والتليفزيون)، حيث كان يعمل صحافياً بها، ولم تنشر في كتب من قبل. في حين أن الكتاب الرابع (في وداع الأحباب) يصدر في جزأين، ويضم مقالات الرثاء التي كتبها شلبي في وداع الكتاب والفنانين والمثقفين وغيرهم ممن رحلوا وعاصر هو رحيلهم، أو ممن تذكرهم في ذكراهم، وهذه المقالات أيضاً كانت منشورة بشكل متفرق في مجلة (الإذاعة والتليفزيون)، ولم يسبق جمعها في كتاب».

ويضيف زين أن هناك أيضاً سبعة كتب، تصدر عن دار «بيت الحكمة»، تجمع أغلب بورتريهات شلبي التي كتبها في مجلة «الإذاعة والتليفزيون» وصحف أخرى، واخترنا البورتريهات المكتوبة عن المصريين، وجمعناها في كتاب «أعيان مصر»، وهو العنوان الذي وضعه الراحل لبعض مقالاته هذه، ولم يسبق من قبل نشر هذه البورتريهات مجمعةً في كتاب بعنوان واحد، وهو ما تصدت له «بيت الحكمة» لنشره في سبعة أجزاء.

مذكرات عميد المسرح العربي

ومن الأدب إلى الفن، فقد أصدرت «دار المعارف» طبعة جديدة من مذكرات أحد أهم رموز الفن، عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي (17 يوليو/تموز 1898 - 17 أكتوبر 1982) بعنوان «عشت ألف عام»، بعد نفاد طبعاته السابقة. وكانت مؤسسة «دار المعارف»، حسب مدير النشر فيها إيهاب الملاح، هي التي نشرت الطبعات المتعددة والمتعاقبة من هذه «المذكرات»، وأعادت إصدارها أكثر من مرة، كانت آخر طبعة كاملة منها في عام 1976، في ثلاثة أجزاء؛ وأقبل عليها القراء، ما دفع «دار المعارف» آنذاك إلى إصدار طبعات جديدة منها في غضون فترات زمنية قليلة. وطوال ما يقرب من أربعة عقود كاملة، اختفت المذكرات تماماً، ولم تعد متاحة سوى بنسخ مفردة وقليلة جدّاً لدى باعة الكتب القديمة.

وفي سنة 2021 صدر الكتاب في طبعة كاملة بمجلد واحد يضم الأجزاء الثلاثة مجتمعة، منذ آخر طبعة صدرت عنها بين عامي 1976 و1982، وتضم ملحقاً وافراً بالصور النادرة والفريدة لعميد المسرح العربي يوسف وهبي في أعماله المسرحية والسينمائية، قبل أن تصدر هذه الطبعة الأحدث من الكتاب بالتزامن مع الدورة الـ56 من معرض القاهرة للكتاب.

أسامة أنور عكاشة... «ظل لا يغيب»

الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة (1941 - 2010)، المعروف بأيقونة الدراما التليفزيونية، سيكون حاضراً في دورة المعرض هذا العام، لكن بأعماله القصصية الأولى، إذ بدأ الراحل مسيرته كاتباً للقصة القصيرة، قبل أن يتجه للدراما التليفزيونية التي أصبح أحد أعلامها الكبار، وقد جمعت ابنته نسرين أعماله القصصية في كتاب بعنوان «ظل لا يغيب»، يصدر عن دار «بيت الحكمة»، ويضم الكتاب الأعمال القصصية الكاملة للراحل، وهي ما نشره في مجموعتي: «خارج الدنيا» (1967)، و«مقاطع من أغنية قديمة» (1985)، والقصص التي يتضمنها كتاب «على الجسر» (2005)، بالإضافة إلى قصة لم تُنشر من قبل، هي «ظلٌ لا يغيب»، التي تُعد من بواكير أعماله، وتبدو فيها البذرة التي ستنمو بعد ذلك في مسيرته الدرامية الطويلة، ويُعد عنوانها علامةً على حضوره الدائم في الساحة الإبداعية.

صحيح أن هؤلاء المؤلفين وغيرهم من الراحلين الذين صدرت طبعات جديدة من أعمالهم، غادروا عالمنا، لكن الأفكار الحقيقية والرصينة لا تموت، وقادرة على تجديد ذكرى أصحابها، ليظل دائماً حضورهم مشعاً في الوجدان والتاريخ.