أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا

«فزاعة الإنترنت» أقلقت أصحاب الملايين وأثارت غضب الكرملين

أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد  إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا
TT

أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا

أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد  إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا

ليس أليكسي نافالني أول معارض روسي يرتبط اسمه بقوة بسلاح كيماوي خفي فتاك، أدخله في غيبوبة طويلة، وكاد يقضي عليه، مفجراً جدلاً واسعاً وعاصفة جديدة في علاقات روسيا مع الغرب. إذ عرفت روسيا قبله الكثير من الحالات المماثلة.
أسماء برزت بقوة وبشكل مفاجئ عندما تعرض أصحابها لملاحقات ومحاولات اغتيال وصفت بأنها من تدبير أجهزة الاستخبارات الخارجية الروسية. بعضها انتهى بأن صمت أصحابها إلى الأبد. وبعضها الآخر اختفى أبطالها في أماكن مجهولة ليقضوا حياتهم بعيدا عن الأضواء بأسماء مستعارة وحياة مستعارة.
غير أن نافالني ليس واحدا من هؤلاء. فهو لا ينتمي إلى مجموعات «حيتان المال» التي راكم أصحابها ثروات خيالية في سنوات انهيار الدولة وتراجع قدراتها، قبل أن يفر بعضهم من البلاد، ويتعرض لملاحقات ومحاولات قصاص. كذلك فهو ليس واحدا من عملاء الأجهزة الخاصة أو الجواسيس الذين اختاروا أن ينشقوا، أو أن يلجأوا إلى الغرب طلبا للحماية. بل هو مجرد محامٍ شاب من عائلة متوسطة، صعد نجمه بقوة في بلاده لأنه اختار أن يسبح عكس التيار.

يصف مناصرو الكرملين أليكسي نافالني بأنه عنصر استفزاز حمل لواء مكافحة الفساد، ليحصل على الشهرة ويتلقى الدعم الخارجي لزعزعة الأوضاع في روسيا. ويضيفون أنه تلاحقه الملفات الجنائية داخل البلاد من كل حدب وصوب، وسبق له أن جرب غالبية مراكز التوقيف التابعة لوزارة الداخلية بسبب إصراره على مدى سنوات على تنظيم احتجاجات ومظاهرات غير مرخصة قانونياً.
وحقاً، سعى الكرملين في غير مناسبة إلى التقليل من شأن نافاني وتحقيره، لدرجة أنه لم يذكر اسمه في أي تصريح رسمي. كذلك تجنب الإشارة إليه بصفته سياسياً أو حقوقياً في تعليقاته، فهو «المدون» الذي ينشر معلومات مضللة تارة، و«منتهك القوانين» أحياناً.
أما بعد حادثة تعرضه للتسمم في مدينة أومسك السيبيرية النائية الهادئة، فإنه غدا «المستفز»، أي صاحب الاستعراض الاستفزازي. ومن ثم، بعد نقله إلى مستشفى في العاصمة الألمانية برلين للعلاج، صار يحمل اسم «نزيل مستشفى برلين» وفقاً لتعليقات الديوان الرئاسي الروسي، وهي التسمية الأكثر رواجاً اليوم في وسائل الإعلام الحكومية. وفي المقابل، رأى أنصار المحامي الشاب فيه زعيماً واعداً لمعارضة مفككة وضعيفة، لكنه رغم تفككها وضعفها، نجح في إثارة قلق واسع بسبب تحقيقاته عن الفساد التي طاولت شخصيات بارزة.
ويتحدث المعارضون عن قدرات ومواهب بارزة، جعلت نافالني قادراً على تحدي السلطات في أكثر من مبارزة، ومكنته من إثبات حضور قوي، حوله إلى عدوٍ لدودٍ للرئيس فلاديمير بوتين.

- بطاقة هوية
ولد أليكسي نافالني في بلدة أدينتسوفا إلى الجنوب من العاصمة الروسية موسكو عام 1976. وأنهى دراسته الجامعية في كلية القانون بجامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو. ثم يواصل في العام التالي دراسته في تخصص جامعي جديد، بأعمال المحاسبة والأوراق المالية، وهو التخصص الذي ساعده كثيراً في إعداد تحقيقات واسعة عن النشاط المالي لكبار المسؤولين الروس.
أيضاً، منذ كان نافالني طالباً في الجامعة، اتجه إلى ممارسة نشاطات مهدت لظهوره في عالم السياسة لاحقاً. إذ أسس مجموعات شبابية، وقاد نشاطات ركزت في غالبيتها على مسألة دعم القطاعات الأقل حظاً، وملاحقة انتهاكات بعض المؤسسات الحكومية.
وفي فترة لاحقة، أقدم المحامي الشاب الذي يدير والداه مشروعاً تجارياً صغيراً لكنه ناجح، على شراء أسهم قليلة في عدد من الشركات الروسية العملاقة، مثل «غازبروم» و«مصرف التجارة الخارجية»، واستغل وجوده كمساهم - على قلة عدد أسهمه - في تسجيل الملاحظات على أداء المكاتب الفرعية للشركات، وآليات تعاملها مع صغار المستثمرين... وهو ما وضعه في مواجهة معها، وأثار ضده الكثير من الاستياء.

- خبرة في التدقيق المالي
لقد شمل نشاط نافالني مجالات عدة، جعلته يراكم خبرات في عمليات التدقيق المالي وأعمال رصد الانتهاكات، فضلا عن تكريس اسمه في أوساط المعارضة كممثل لجيل جديد من المعارضين الشباب. إذ أنه في عام 1998 - 1999 عمل في شركة لتطوير الكفاءات. ومن بين أمور أخرى، كان منخرطا في مراقبة العملات وتشريعات مكافحة الاحتكار، وفي الوقت نفسه بدأ دراسة أعمال الصرف والأوراق المالية في الأكاديمية المالية.
بعدها، عام 2000، أسس المحامي الشاب مع أصدقاء في كلية الحقوق شركة للأوراق المالية امتلك هو 35 في المائة من أسمهما وشغل منصب كبير المحاسبين فيها، إلا أن هذه الشركة أعلنت إفلاسها في وقت لاحق. ولاحقاً، تنقل بين عدة أعمال قبل أن يطرق باب الصحافة عام 2006، كمقدم لبرنامج متخصص في كشف انتهاكات مالية تبثه إذاعة «صدى موسكو»، ذات السياسة التحريرية الانتقادية بصرامة لنهج الرئيس الروسي الداخلي.
أما على صعيد النشاط الاجتماعي – السياسي، فقد انخرط نافالني منذ عام 2004 بتأسيس ما سمي بـ«لجنة حماية سكان موسكو»، وهي حركة على مستوى المدينة لمناهضي الفساد تخصصت في رصد عمليات انتهاك حقوق المواطنين أثناء حركة البناء والإنشاءات الكبرى في موسكو وعلى أطرافها. وفي العام التالي ساهم في تأسيس «حركة الشباب» التي أطلقت مشروع «الشرطة مع الشعب». وحتى العام 2006 عمل في مؤسسات إعلامية كمنسق لمشروع المناظرات السياسية، قبل أن يغدو في العام التالي أحد مؤسسي «الحركة الشعبية» التي وضعت برنامجا لتكافؤ الفرص في النشاط السياسي. ومن ثم، عام 2008 أسس مجموعة «اتحاد مساهمي الأقلية»، التي تعمل على حماية حقوق المستثمرين من القطاع الخاص.

- في الميدان السياسي
في هذه الأثناء، انخرط نافالني لبعض الوقت في نشاط حزب «يابلوكو» الليبرالي اليميني. إلا أنه غادر صفوفه إثر أزمة تعلقت بمطالبات لمؤسس الحزب وقائده التاريخي غريغوري يافلينسكي بالاستقالة من رئاسة الحزب وإفساح المجال أمام جيل جديد من السياسيين. وبالمناسبة، فإن هذا الحزب رفع ضد نافالني قضية جنائية بسبب هذه الحادثة.
وبعد ذلك ساهم في تأسيس حركة «نارود» (الشعب) التي شكلت الجسم السياسي الأساسي له، وسعى من خلالها عام 2008، لإنشاء تجمع واسع لقوى المعارضة حمل اسم «الحركة الوطنية الروسية». وفي تلك الحقبة برزت الميول القومية في نشاطات نافالني السياسية، إذ أعلن ذات يوم أن «القومية السياسية الجديدة» حركة ديمقراطية ستمنح فيها مائة نقطة أمام الليبراليين السيئي السمعة، وأكد أن القومية «يجب أن تصبح جوهر النظام السياسي الروسي». وأولى، كذلك، في إطار هذا الميل نحو الفكر القومي أهمية كبيرة لسياسة الهجرة.

- توجهات قومية صريحة
وحقاً، قال نافالني في إحدى المناسبات «فكرتي هي أنه لا داعي لحظر هذا الموضوع. يعود فشل حركتنا الديمقراطية الليبرالية إلى حقيقة أنهم اعتبروا من حيث المبدأ بعض المواضيع خطرة للمناقشة، بما في ذلك موضوع الصراعات القومية بين الأعراق. في غضون ذلك، هذه أجندة حقيقية. يجب الاعتراف بأن المهاجرين، بما في ذلك أبناء القوقاز، غالباً ما يذهبون إلى روسيا بقيمهم الخاصة جداً. لقد تغلب الروس على هذا المستوى من التحيز منذ زمن بعيد. على سبيل المثال، في الشيشان يطلق النار على النساء اللواتي يتجولن دون الحجاب من مسدس كرات الطلاء ثم يقول (الزعيم الشيشاني) رمضان قديروف: أحسنتم يا شباب، أنتم أبناء حقيقيون للشعب الشيشاني! ثم يأتي هؤلاء الشيشان إلى موسكو. لدي هنا زوجة وابنة. وأنا لا أحب ذلك عندما يضع الأشخاص الذين يقولون: إنه يجب إطلاق النار على النساء بمسدس كرات الطلاء قواعدهم الخاصة هنا». ولكن، في وقت لاحق، تخلى نافالني عن هذه التوجهات القومية، - على الأقل في خطاباته العلنية – إلا أنه لم يجر أبداً مراجعة كاملة لتجربته في العمل مع مجموعات ذات توجه قومي.
عموماً كانت تلك التجربة المصغرة، لأداء نافالني في وقت لاحق. لكنه قبل أن يطلق مشروعه الكبير الذي حمل اسم «صندوق مكافحة الفساد»، خاض تجربة العمل السياسي الميداني المباشر، من خلال تنظيم سلسلة أعمال احتجاجية كان عنوانها مكافحة الفساد. وبرز اسمه بقوة فيها في العامين 2011و2012 عندما شهدت المدن الروسية أوسع احتجاجات تزامنت مع عودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين رئيساً لولاية جديدة. وفي العام التالي، قرر نافالني أن يتحدى ماكينة الانتخابات، ليخوض أول معركة سياسية كبرى، كانت خاسرة. إذ رشح نفسه لرئاسة حكومة موسكو، أمام مرشح حزب السلطة «روسيا الموحدة» سيرغي سوبيانين.
مع هذا، ومع أن نافالني خسر في تلك الانتخابات، فإنه حقق مفاجأة ما كانت لتخطر على بال أحد، عندما حصد أصوات ثلث الناخبين في العاصمة الروسية، ما أدخله دوائر المنافسة السياسية كخصم جدي له وزنه وأنصاره، ويستطيع تحقيق مفاجآت.

- حزب «روسيا المستقبل»
فتح هذا «الإنجاز» شهية نافالني، وبالتزامن مع بدء محاولات لتنظيم صفوف المعارضة، وتركيز الجهد على استمالة الفئات الشابة، أسس في العام ذاته حزباً سياسياً حمل اسم «روسيا المستقبل». وخاض على الأثر، جولات حوار وسجالات كثيرة لتوحيد أحزاب المعارضة الصغيرة إلا أن محاولاته لم تؤت ثمارا. ومع انشغاله في الفترة اللاحقة بالمشاركة في أعمال احتجاجية لم تعد تقتصر على موسكو، بل باتت تمتد إلى مدن ومقاطعات نائية، قرر عام 2016 أن يضرب ضربته الكبرى، فأعلن عزمه الترشح لمنصب الرئاسة منافساً للرئيس بوتين الذي كانت ولايته الرئاسية الثالثة تقترب من نهايتها عام 2018.
ووفقاً لهيئة تحرير صحيفة «فيدوموستي» المتخصصة في مجال المال والأعمال، فإن نافالني كان في الواقع «السياسي الوحيد الذي أجرى حملة انتخابية كاملة عام 2017». ومع ذلك في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2017، أي قبل ثلاثة شهور من حلول موعد التصويت، وقبل أيام معدودة على إغلاق الباب أمام الترشح للمنافسة على المنصب، أعلنت لجنة الانتخابات المركزية رفض تسجيله بسبب إدانته في قضية جنائية رفعت ضده.
نافالني نشر لاحقاً على مواقعه تفاصيل كاملة تبرئ ذمته المالية في القضية التي رفعتها شركة حكومية تتهمه بتبديد واختلاس عندما كان مديرا لأحد فروعها، لكن هذه القضية تم البت بحكم نهائي فيها في أول جلسة للمحكمة. وكانت النتيجة أن نافالني لم يخسر فقط الترشح في انتخابات الرئاسة بل جرى أيضاً، سحب ترخيصه كمحامٍ وتجريده من القدرة على الترافع في المحاكم.
عموماً، فإن علاقة المحامي الشاب مع المحاكم، كانت نشطة ومتواصلة منذ العام 2010. إذ كان ضيفاً دائماً على دوائر القضاء، فكان مدعياً حيناً، ومدعى عليه أحياناً، وشاهداً في عدد من القضايا الجنائية والإدارية والمدنية والتحكيمية، التي يعتبرها نافالني نفسه وأنصاره ذات دوافع سياسية. وفي وقت لاحق حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لصالح نافالني. وإجمالاً، فاز نافالني بست شكاوى ضد السلطات الروسية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بمبلغ إجمالي قدره 225 ألف يورو، لكن هذا المبلغ لم يسدد أبداً.

- صندوق مكافحة الفساد
ومع قطع الطريق أمام نافالني لخوض النشاط السياسي المباشر عبر الترشح في الانتخابات، اتجه السياسي الروسي المعارض إلى وضع آليات لتنشيط تحركاته وكسب أنصار في البلاد، عبر الترويج الواسع لتحقيقات خاصة قام بها صندوق مكافحة الفساد الذي يديره.
وبالفعل، طاولت التحقيقات شخصيات بارزة كلها مقربة من الرئيس الروسي، وكان أوسعها انتشارا التحقيق الذي كشف عن امتلاك رئيس الوزراء السابق وحليف بوتين وشريكه في تبادل المقاعد الرئاسية ديمتري ميدفيديف. ولقد حظي تحقيق مدعوم بصور فيديو ووثائق دلت إلى امتلاك ميدفيديف عقارات فاخرة بنحو أربعين مليون مشاهدة على قناة «يوتيوب» الخاصة بنافالني. ومثل ذلك، وإن بأعداد مشاهدة أقل، تداول ملايين الروس عشرات من التحقيقات المصورة التي كشفت عن حياة الترف للشخصيات السياسية والبرلمانية، وعمليات الفساد التي ترافق نشاط كبار رجال المال والأعمال. وهو الأمر الذي أثار ضده حنق رجال السياسة وكذلك رجال المال والأعمال، ما وسع إلى حد كبير دائرة الغاضبين عليه. وهذا ما يفسر تلميحات بعض الأوساط بعد تعرض نافالني لاستهداف بمادة سامة، بأن الفاعل أو الطرف المحرك للحادثة ليس بالضرورة أن يكون من جهات عليا في روسيا أو من طرف أجهزة الاستخبارات.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.