أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا

«فزاعة الإنترنت» أقلقت أصحاب الملايين وأثارت غضب الكرملين

أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد  إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا
TT

أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا

أليكسي نافالني... من محامٍ يحارب الفساد  إلى زعيم غير متوّج للمعارضة في روسيا

ليس أليكسي نافالني أول معارض روسي يرتبط اسمه بقوة بسلاح كيماوي خفي فتاك، أدخله في غيبوبة طويلة، وكاد يقضي عليه، مفجراً جدلاً واسعاً وعاصفة جديدة في علاقات روسيا مع الغرب. إذ عرفت روسيا قبله الكثير من الحالات المماثلة.
أسماء برزت بقوة وبشكل مفاجئ عندما تعرض أصحابها لملاحقات ومحاولات اغتيال وصفت بأنها من تدبير أجهزة الاستخبارات الخارجية الروسية. بعضها انتهى بأن صمت أصحابها إلى الأبد. وبعضها الآخر اختفى أبطالها في أماكن مجهولة ليقضوا حياتهم بعيدا عن الأضواء بأسماء مستعارة وحياة مستعارة.
غير أن نافالني ليس واحدا من هؤلاء. فهو لا ينتمي إلى مجموعات «حيتان المال» التي راكم أصحابها ثروات خيالية في سنوات انهيار الدولة وتراجع قدراتها، قبل أن يفر بعضهم من البلاد، ويتعرض لملاحقات ومحاولات قصاص. كذلك فهو ليس واحدا من عملاء الأجهزة الخاصة أو الجواسيس الذين اختاروا أن ينشقوا، أو أن يلجأوا إلى الغرب طلبا للحماية. بل هو مجرد محامٍ شاب من عائلة متوسطة، صعد نجمه بقوة في بلاده لأنه اختار أن يسبح عكس التيار.

يصف مناصرو الكرملين أليكسي نافالني بأنه عنصر استفزاز حمل لواء مكافحة الفساد، ليحصل على الشهرة ويتلقى الدعم الخارجي لزعزعة الأوضاع في روسيا. ويضيفون أنه تلاحقه الملفات الجنائية داخل البلاد من كل حدب وصوب، وسبق له أن جرب غالبية مراكز التوقيف التابعة لوزارة الداخلية بسبب إصراره على مدى سنوات على تنظيم احتجاجات ومظاهرات غير مرخصة قانونياً.
وحقاً، سعى الكرملين في غير مناسبة إلى التقليل من شأن نافاني وتحقيره، لدرجة أنه لم يذكر اسمه في أي تصريح رسمي. كذلك تجنب الإشارة إليه بصفته سياسياً أو حقوقياً في تعليقاته، فهو «المدون» الذي ينشر معلومات مضللة تارة، و«منتهك القوانين» أحياناً.
أما بعد حادثة تعرضه للتسمم في مدينة أومسك السيبيرية النائية الهادئة، فإنه غدا «المستفز»، أي صاحب الاستعراض الاستفزازي. ومن ثم، بعد نقله إلى مستشفى في العاصمة الألمانية برلين للعلاج، صار يحمل اسم «نزيل مستشفى برلين» وفقاً لتعليقات الديوان الرئاسي الروسي، وهي التسمية الأكثر رواجاً اليوم في وسائل الإعلام الحكومية. وفي المقابل، رأى أنصار المحامي الشاب فيه زعيماً واعداً لمعارضة مفككة وضعيفة، لكنه رغم تفككها وضعفها، نجح في إثارة قلق واسع بسبب تحقيقاته عن الفساد التي طاولت شخصيات بارزة.
ويتحدث المعارضون عن قدرات ومواهب بارزة، جعلت نافالني قادراً على تحدي السلطات في أكثر من مبارزة، ومكنته من إثبات حضور قوي، حوله إلى عدوٍ لدودٍ للرئيس فلاديمير بوتين.

- بطاقة هوية
ولد أليكسي نافالني في بلدة أدينتسوفا إلى الجنوب من العاصمة الروسية موسكو عام 1976. وأنهى دراسته الجامعية في كلية القانون بجامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو. ثم يواصل في العام التالي دراسته في تخصص جامعي جديد، بأعمال المحاسبة والأوراق المالية، وهو التخصص الذي ساعده كثيراً في إعداد تحقيقات واسعة عن النشاط المالي لكبار المسؤولين الروس.
أيضاً، منذ كان نافالني طالباً في الجامعة، اتجه إلى ممارسة نشاطات مهدت لظهوره في عالم السياسة لاحقاً. إذ أسس مجموعات شبابية، وقاد نشاطات ركزت في غالبيتها على مسألة دعم القطاعات الأقل حظاً، وملاحقة انتهاكات بعض المؤسسات الحكومية.
وفي فترة لاحقة، أقدم المحامي الشاب الذي يدير والداه مشروعاً تجارياً صغيراً لكنه ناجح، على شراء أسهم قليلة في عدد من الشركات الروسية العملاقة، مثل «غازبروم» و«مصرف التجارة الخارجية»، واستغل وجوده كمساهم - على قلة عدد أسهمه - في تسجيل الملاحظات على أداء المكاتب الفرعية للشركات، وآليات تعاملها مع صغار المستثمرين... وهو ما وضعه في مواجهة معها، وأثار ضده الكثير من الاستياء.

- خبرة في التدقيق المالي
لقد شمل نشاط نافالني مجالات عدة، جعلته يراكم خبرات في عمليات التدقيق المالي وأعمال رصد الانتهاكات، فضلا عن تكريس اسمه في أوساط المعارضة كممثل لجيل جديد من المعارضين الشباب. إذ أنه في عام 1998 - 1999 عمل في شركة لتطوير الكفاءات. ومن بين أمور أخرى، كان منخرطا في مراقبة العملات وتشريعات مكافحة الاحتكار، وفي الوقت نفسه بدأ دراسة أعمال الصرف والأوراق المالية في الأكاديمية المالية.
بعدها، عام 2000، أسس المحامي الشاب مع أصدقاء في كلية الحقوق شركة للأوراق المالية امتلك هو 35 في المائة من أسمهما وشغل منصب كبير المحاسبين فيها، إلا أن هذه الشركة أعلنت إفلاسها في وقت لاحق. ولاحقاً، تنقل بين عدة أعمال قبل أن يطرق باب الصحافة عام 2006، كمقدم لبرنامج متخصص في كشف انتهاكات مالية تبثه إذاعة «صدى موسكو»، ذات السياسة التحريرية الانتقادية بصرامة لنهج الرئيس الروسي الداخلي.
أما على صعيد النشاط الاجتماعي – السياسي، فقد انخرط نافالني منذ عام 2004 بتأسيس ما سمي بـ«لجنة حماية سكان موسكو»، وهي حركة على مستوى المدينة لمناهضي الفساد تخصصت في رصد عمليات انتهاك حقوق المواطنين أثناء حركة البناء والإنشاءات الكبرى في موسكو وعلى أطرافها. وفي العام التالي ساهم في تأسيس «حركة الشباب» التي أطلقت مشروع «الشرطة مع الشعب». وحتى العام 2006 عمل في مؤسسات إعلامية كمنسق لمشروع المناظرات السياسية، قبل أن يغدو في العام التالي أحد مؤسسي «الحركة الشعبية» التي وضعت برنامجا لتكافؤ الفرص في النشاط السياسي. ومن ثم، عام 2008 أسس مجموعة «اتحاد مساهمي الأقلية»، التي تعمل على حماية حقوق المستثمرين من القطاع الخاص.

- في الميدان السياسي
في هذه الأثناء، انخرط نافالني لبعض الوقت في نشاط حزب «يابلوكو» الليبرالي اليميني. إلا أنه غادر صفوفه إثر أزمة تعلقت بمطالبات لمؤسس الحزب وقائده التاريخي غريغوري يافلينسكي بالاستقالة من رئاسة الحزب وإفساح المجال أمام جيل جديد من السياسيين. وبالمناسبة، فإن هذا الحزب رفع ضد نافالني قضية جنائية بسبب هذه الحادثة.
وبعد ذلك ساهم في تأسيس حركة «نارود» (الشعب) التي شكلت الجسم السياسي الأساسي له، وسعى من خلالها عام 2008، لإنشاء تجمع واسع لقوى المعارضة حمل اسم «الحركة الوطنية الروسية». وفي تلك الحقبة برزت الميول القومية في نشاطات نافالني السياسية، إذ أعلن ذات يوم أن «القومية السياسية الجديدة» حركة ديمقراطية ستمنح فيها مائة نقطة أمام الليبراليين السيئي السمعة، وأكد أن القومية «يجب أن تصبح جوهر النظام السياسي الروسي». وأولى، كذلك، في إطار هذا الميل نحو الفكر القومي أهمية كبيرة لسياسة الهجرة.

- توجهات قومية صريحة
وحقاً، قال نافالني في إحدى المناسبات «فكرتي هي أنه لا داعي لحظر هذا الموضوع. يعود فشل حركتنا الديمقراطية الليبرالية إلى حقيقة أنهم اعتبروا من حيث المبدأ بعض المواضيع خطرة للمناقشة، بما في ذلك موضوع الصراعات القومية بين الأعراق. في غضون ذلك، هذه أجندة حقيقية. يجب الاعتراف بأن المهاجرين، بما في ذلك أبناء القوقاز، غالباً ما يذهبون إلى روسيا بقيمهم الخاصة جداً. لقد تغلب الروس على هذا المستوى من التحيز منذ زمن بعيد. على سبيل المثال، في الشيشان يطلق النار على النساء اللواتي يتجولن دون الحجاب من مسدس كرات الطلاء ثم يقول (الزعيم الشيشاني) رمضان قديروف: أحسنتم يا شباب، أنتم أبناء حقيقيون للشعب الشيشاني! ثم يأتي هؤلاء الشيشان إلى موسكو. لدي هنا زوجة وابنة. وأنا لا أحب ذلك عندما يضع الأشخاص الذين يقولون: إنه يجب إطلاق النار على النساء بمسدس كرات الطلاء قواعدهم الخاصة هنا». ولكن، في وقت لاحق، تخلى نافالني عن هذه التوجهات القومية، - على الأقل في خطاباته العلنية – إلا أنه لم يجر أبداً مراجعة كاملة لتجربته في العمل مع مجموعات ذات توجه قومي.
عموماً كانت تلك التجربة المصغرة، لأداء نافالني في وقت لاحق. لكنه قبل أن يطلق مشروعه الكبير الذي حمل اسم «صندوق مكافحة الفساد»، خاض تجربة العمل السياسي الميداني المباشر، من خلال تنظيم سلسلة أعمال احتجاجية كان عنوانها مكافحة الفساد. وبرز اسمه بقوة فيها في العامين 2011و2012 عندما شهدت المدن الروسية أوسع احتجاجات تزامنت مع عودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين رئيساً لولاية جديدة. وفي العام التالي، قرر نافالني أن يتحدى ماكينة الانتخابات، ليخوض أول معركة سياسية كبرى، كانت خاسرة. إذ رشح نفسه لرئاسة حكومة موسكو، أمام مرشح حزب السلطة «روسيا الموحدة» سيرغي سوبيانين.
مع هذا، ومع أن نافالني خسر في تلك الانتخابات، فإنه حقق مفاجأة ما كانت لتخطر على بال أحد، عندما حصد أصوات ثلث الناخبين في العاصمة الروسية، ما أدخله دوائر المنافسة السياسية كخصم جدي له وزنه وأنصاره، ويستطيع تحقيق مفاجآت.

- حزب «روسيا المستقبل»
فتح هذا «الإنجاز» شهية نافالني، وبالتزامن مع بدء محاولات لتنظيم صفوف المعارضة، وتركيز الجهد على استمالة الفئات الشابة، أسس في العام ذاته حزباً سياسياً حمل اسم «روسيا المستقبل». وخاض على الأثر، جولات حوار وسجالات كثيرة لتوحيد أحزاب المعارضة الصغيرة إلا أن محاولاته لم تؤت ثمارا. ومع انشغاله في الفترة اللاحقة بالمشاركة في أعمال احتجاجية لم تعد تقتصر على موسكو، بل باتت تمتد إلى مدن ومقاطعات نائية، قرر عام 2016 أن يضرب ضربته الكبرى، فأعلن عزمه الترشح لمنصب الرئاسة منافساً للرئيس بوتين الذي كانت ولايته الرئاسية الثالثة تقترب من نهايتها عام 2018.
ووفقاً لهيئة تحرير صحيفة «فيدوموستي» المتخصصة في مجال المال والأعمال، فإن نافالني كان في الواقع «السياسي الوحيد الذي أجرى حملة انتخابية كاملة عام 2017». ومع ذلك في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2017، أي قبل ثلاثة شهور من حلول موعد التصويت، وقبل أيام معدودة على إغلاق الباب أمام الترشح للمنافسة على المنصب، أعلنت لجنة الانتخابات المركزية رفض تسجيله بسبب إدانته في قضية جنائية رفعت ضده.
نافالني نشر لاحقاً على مواقعه تفاصيل كاملة تبرئ ذمته المالية في القضية التي رفعتها شركة حكومية تتهمه بتبديد واختلاس عندما كان مديرا لأحد فروعها، لكن هذه القضية تم البت بحكم نهائي فيها في أول جلسة للمحكمة. وكانت النتيجة أن نافالني لم يخسر فقط الترشح في انتخابات الرئاسة بل جرى أيضاً، سحب ترخيصه كمحامٍ وتجريده من القدرة على الترافع في المحاكم.
عموماً، فإن علاقة المحامي الشاب مع المحاكم، كانت نشطة ومتواصلة منذ العام 2010. إذ كان ضيفاً دائماً على دوائر القضاء، فكان مدعياً حيناً، ومدعى عليه أحياناً، وشاهداً في عدد من القضايا الجنائية والإدارية والمدنية والتحكيمية، التي يعتبرها نافالني نفسه وأنصاره ذات دوافع سياسية. وفي وقت لاحق حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لصالح نافالني. وإجمالاً، فاز نافالني بست شكاوى ضد السلطات الروسية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بمبلغ إجمالي قدره 225 ألف يورو، لكن هذا المبلغ لم يسدد أبداً.

- صندوق مكافحة الفساد
ومع قطع الطريق أمام نافالني لخوض النشاط السياسي المباشر عبر الترشح في الانتخابات، اتجه السياسي الروسي المعارض إلى وضع آليات لتنشيط تحركاته وكسب أنصار في البلاد، عبر الترويج الواسع لتحقيقات خاصة قام بها صندوق مكافحة الفساد الذي يديره.
وبالفعل، طاولت التحقيقات شخصيات بارزة كلها مقربة من الرئيس الروسي، وكان أوسعها انتشارا التحقيق الذي كشف عن امتلاك رئيس الوزراء السابق وحليف بوتين وشريكه في تبادل المقاعد الرئاسية ديمتري ميدفيديف. ولقد حظي تحقيق مدعوم بصور فيديو ووثائق دلت إلى امتلاك ميدفيديف عقارات فاخرة بنحو أربعين مليون مشاهدة على قناة «يوتيوب» الخاصة بنافالني. ومثل ذلك، وإن بأعداد مشاهدة أقل، تداول ملايين الروس عشرات من التحقيقات المصورة التي كشفت عن حياة الترف للشخصيات السياسية والبرلمانية، وعمليات الفساد التي ترافق نشاط كبار رجال المال والأعمال. وهو الأمر الذي أثار ضده حنق رجال السياسة وكذلك رجال المال والأعمال، ما وسع إلى حد كبير دائرة الغاضبين عليه. وهذا ما يفسر تلميحات بعض الأوساط بعد تعرض نافالني لاستهداف بمادة سامة، بأن الفاعل أو الطرف المحرك للحادثة ليس بالضرورة أن يكون من جهات عليا في روسيا أو من طرف أجهزة الاستخبارات.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.