الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة

الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة
TT

الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة

الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة

يحمل نزاع منطقة شرق البحر المتوسط قدرا متزايدا من التعقيد بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد، غير أن النزاع يتسم بثلاث قضايا متداخلة: قضية الأمن الإقليمي، وقضية أمن الطاقة، وقضية الهجرة. ويبذل الاتحاد الأوروبي قصارى جهده للتعامل مع هذه القضايا في آن واحد، إذ تجمع فيما بينها ثلاثة مسارات بالغة الحساسية تلك التي تستلزم اتخاذ الإجراءات الحاسمة والحازمة، ويبدو أن هذا المطلب في حد ذاته يندرج خارج اختصاصات الاتحاد الأوروبي.
أولا، قبل كل شيء، يواصل الاتحاد الأوروبي التأقلم مع البيئة الأمنية الإقليمية دائمة التغير. في حين أن أميركا أثبتت أنها شريك أمني يمكن الاعتماد عليه بالنسبة للقارة الأوروبية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما في مواجهة التحديات الناشئة والمستمرة من روسيا فإن التزاماتها الأمنية والخارجية اهتزت بصورة كبيرة منذ سنوات رئاسة باراك أوباما، واستمر الأمر على منواله - وربما لما هو أكثر من ذلك - خلال سنوات رئاسة دونالد ترمب. وجاء الاتجاه الراهن في سياسة أميركا الخارجية من حيث دفع الحلفاء الأوروبيين - وفي واقع الأمر، دفع الحلفاء الآخرين من أماكن أخرى - إلى الاضطلاع بمسؤوليات كبيرة عن الأمن الإقليمي، ليشكل أعباء وتحديات هائلة على قيادة الاتحاد الأوروبي.
وفي الأثناء ذاتها، استغلت روسيا الفرصة السانحة من تراجع الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة الأميركية مع تردد المواقف الأوروبية في إعادة تأكيد نفوذها السياسي والعسكري في منطقة شرق البحر المتوسط والشمال الأفريقي. وفي واقع الأمر، لم تكن روسيا هي التي تأكد وجودها في الفضاء الذي خلا بتراجع أميركا فحسب، وإنما بلدان إقليمية أخرى كانت حريصة كل الحرص على جبر هذه الفجوة.
رغم أن إدارة جوزيف بايدن - المحتملة - قد توفر الدعم الدبلوماسي القوي للاتحاد الأوروبي أكثر من الإدارات السابقة عليها، فإن قادة الاتحاد الأوروبي يدركون تماما أن التحول البنيوي الذي يشهده ميزان القوى العالمي يعني أن الولايات المتحدة لن تُقدم جديدا فيما يتصل بتوفير الدعم المناسب للحلفاء في أوروبا.
ونتيجة لذلك، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرا في الآونة الراهنة إلى اعتماد سياسات خارجية وأمنية أكثر قوة وصرامة من أي وقت مضى بُغية التصدي أولا للمغامرات العسكرية والسياسة الانتهازية الروسية. ومع ذلك، تبنت بعض الدول الأعضاء المفردة في الاتحاد الأوروبي سياسات غالبا ما تعتبر غير متوافقة مع المسار العام للاتحاد الأوروبي في بعض القضايا الثنائية. على سبيل المثال، أحجمت الحكومة الألمانية في غير مناسبة عن اتخاذ المواقف الصارمة تجاه الحكومة الروسية، ومرجع ذلك في جزء منه إلى العلاقات التاريخية التي تربط بين البلدين، فضلا عن مسألة أمن الطاقة التي يوفرها خط «نورد ستريم» الذي يوفر إلى ألمانيا 40 في المائة من واردات الغاز الطبيعي الخارجية.
ويتطلب الأمر اعتماد سياسات تنطوي على التهديد بفرض العقوبات الاقتصادية، سيما وأن روسيا أخذت في حسبانها على مر السنين أنه يمكنها انتهاك أحكام القانون والأعراف الدولية مع الإفلات التام من العقاب. ومع ذلك، فإن الآثار المتراكمة للمغامرات العسكرية الروسية في كل من أوكرانيا، وسوريا، وليبيا - إلى جانب تهديدات الأمن السيبراني ضد البرلمان الألماني، واستخدام غاز الأعصاب في الحادثة الشهيرة في مارس ( آذار) من عام 2018 في بريطانيا، وأخيرا وليس آخرا حادثة المعارض الروسي الشهير أليكسي نافالني - تبدو وقد أدت إلى تقارب وجهات النظر الألمانية مع الشركاء الأوروبيين مما أسفر عن الدعوة إلى إعادة النظر في خط الغاز الطبيعي الجديد «نورد ستريم 2». وعلى هذا النحو، فإن كسر حالة الاعتماد القائمة على واردات الغاز الطبيعي الروسي قد اكتسبت أهمية وزخما جديدا في الآونة الأخيرة.
ووفق هذه الخلفية، أصبحت تطورات الأوضاع ذات الصلة بقضية الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط من المسائل ذات الأولوية القصوى بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء. فمخزون الغاز الطبيعي في تلك المنطقة يطرح بديلا وافرا لواردات الغاز من روسيا، ذلك البديل الذي يقع حرفيا في الحديقة الخلفية للاتحاد الأوروبي على الرغم من أن توصيل الغاز من هذه المنطقة إلى الأسواق الأوروبية المختلفة لا يعتبر من المشاريع باهظة التكاليف فحسب، وإنما سيستلزم كذلك تأمين إرادة سياسية أكثر قوة واستدامة من جانب بروكسل لا سيما مع اعتبار حالة النزاع القائمة بين اليونان وقبرص من جهة، وتركيا من جهة أخرى على الحدود البحرية، والسيادة على موارد الطاقة الطبيعية تحت البحر. وفي هذا السياق، تحرك مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - اليونان، وفرنسا، وإيطاليا، وقبرص - على تحريك دفة سياسات الاتحاد الأوروبي إلى الأمام مع التحدي الواضح للمزاعم التركية المضادة، إلى جانب التحركات المضادة الرامية إلى تأمين الوصول إلى المياه الإقليمية القبرصية.
وتشكل موارد الغاز شرق البحر المتوسط مزيجا ثريا من المصالح الأمنية، والتجارية، والدبلوماسية لدى كل دولة من تلك الدول، وإنما عبر تباينات مختلفة. على سبيل المثال، تملك كل من اليونان وقبرص مصالح مادية مشتركة في تطوير احتياطيات الطاقة في تلك المنطقة مع العثور على السبيل الأكثر ربحية نحو الأسواق، مع العمل في نفس الوقت على الدفاع عن المياه السيادية التي تقع فيها المنطقة الاقتصادية الخالصة. وعلى هذا النحو، جرى تشكيل «منتدى غاز شرق المتوسط» بعضوية كل من الأردن، ومصر، وإسرائيل، فلسطين، وإيطاليا، مع تعمد استبعاد تركيا (ولبنان)، سيما مع التحديات المستمرة من قبل أنقرة لشرعية المناطق الاقتصادية الخالصة عن طريق إرسال سفن التنقيب المصاحبة بالسفن الحربية في المياه الإقليمية القبرصية.
وصارت فرنسا من أبرز وأقوى حلفاء اليونان وقبرص في ذلك النزاع إذ قامت بإرسال الفرقاطة الحربية «لافايت» إلى شرق البحر الأبيض المتوسط في أغسطس (آب) من العام الجاري بهدف المشاركة في المناورات العسكرية المشتركة، فضلا عن تمركز طائرتين مقاتلتين من طراز «رافال» في إحدى القواعد العسكرية في جزيرة كريت.
ومع ذلك، فإن المصالح الفرنسية تستند إلى مجموعة مختلفة من العوامل بالنسبة إلى اليونان وقبرص، مع التركيز بصورة أكبر على الاستراتيجية الفرنسية الأوسع نطاقا في البحر المتوسط، فضلا عن المنافسة الشديدة بين باريس وأنقرة، بأكثر من تركيزها المجرد على أمن الطاقة في تلك المنطقة في حد ذاته.
تسعى السياسة الخارجية الفرنسية إلى إرساء الاستقرار في ليبيا - وذلك مع تأمين مصالحها التجارية في مجالي النفط والغاز، مع دعم الحكومات في منطقة الساحل حتى تتمكن من مواصلة مكافحة الإرهاب بصورة أفضل على اعتبارها وسيلة من وسائل تأمين الجبهة الداخلية الفرنسية ضد موجات وتدفقات الهجرة الخارجية، والتفرغ إلى مصارع النفوذ مع تركيا عبر البحر المتوسط. وعلى هذا النحو، ورغم أن قضية الغاز في شرق المتوسط هي واحدة من بين العديد من القضايا الأخرى ذات الأهمية بالنسبة إلى فرنسا، في منطقة «يوروميد»، فإن حالة التناطح الراهنة ما بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ورجب طيب إردوغان تحمل قدرا معتبرا من التأثير العميق على مقاربة الاتحاد الأوروبي بأسره صوب الغاز في شرق المتوسط.
كان المجلس الأوروبي أكثر سرعة في إدانة الحكومة التركية على توقيع مذكرة التفاهم بتاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2019 مع حكومة الوفاق الليبية والمعنية بترسيم مناطق الاختصاص البحري في البحر المتوسط نظرا لأن المذكرة تمثل انتهاكا مباشرا للحقوق السيادية لدى اليونان وقبرص.
غير أن المجلس الأوروبي لم يُقدم على مثل هذه الخطوة عندما وقعت الحكومتان المصرية واليونانية على الاتفاق البحري المشترك في أغسطس الماضي. حتى الحكومة الإيطالية، التي كانت حتى وقت قريب تعتمد سياسة داعمة للموقف التركي في ليبيا - نظرا لمصالحها الدبلوماسية والتجارية التي تعبر عنها بواسطة شركة «إيني» للطاقة - أعادت توجيه سياساتها الخارجية كي تكون أكثر اصطفافا مع المقاربات المتخذة من قبل الاتحاد الأوروبي. وأسفرت حالة التقارب الواضحة بين السياسات الخارجية الفرنسية والإيطالية إلى تنضيد سياسات الاتحاد الأوروبي في منطقة شرق المتوسط على نحو قوي وراء الاصطفاف الإقليمي القائم بشأن اليونان، وقبرص، ومصر، وإسرائيل. جاء التدخل العسكري التركي في مجريات الأزمة الليبية، ما قلب الطاولة بدرجة من الدرجات، فضلا عن المغامرات المستمرة في البحر المتوسط، من شاكلة إرسال سفينة المسح «أوريك رايس»، وسفينتين أخريين للتنقيب والحفر، رفقة ثلاث سفن للإمداد البحري إلى المياه السيادية القبرصية، في منتصف أغسطس، ليشكل في مجموعه صداعا أمنيا مؤرقا لقيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
علاوة على ما تقدم، يعتبر التعاون الوثيق الذي يجمع بين موسكو وأنقرة، والذي يبدو جليا في كل من سوريا وليبيا، على الرغم من الخلافات بين الجانبين في كلا المعسكرين، من أبرز بواعث التوتر والقلق لا سيما وأن تركيا تمثل دولة عبور الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر خط أنابيب «تورك ستريم».
أخيرا، تعتقد الحكومة التركية أن الشوكة المثلى في خاصرة الاتحاد الأوروبي هي ألمانيا من واقع خشيتها الشديدة من توقف أنقرة عن كبح جماح تدفقات اللاجئين صوب أوروبا مما يمنح أنقرة درجة من الأمان إزاء اتخاذ أية إجراءات قوية ضدها. ووفق هذا المعنى، يبدو وأن الحكومة التركية قد قدرت الأمور من تلك الزاوية، وأنه على الرغم من حشد الدعم وراء اليونان وقبرص فإن الدعوات الفرنسية لفرض العقوبات على تركيا مصيرها الفشل في نهاية المطاف، حيث سيؤدي الانقسام الظاهر بين برلين وباريس في قلب الاتحاد الأوروبي إلى حالة من الجمود وربما التقاعس. وإن كانت هذه هي الحالة، فمن شأن الحكومة التركية إعادة إرسال سفينة المسح «أوريك رايس» إلى المياه الإقليمية القبرصية مرة أخرى بعد الانتهاء من عمليات الصيانة الروتينية الحالية.
ربما تكون قضية شرق المتوسط هي القضية التي تمخضت في خاتمة المطاف عن نشوء سياسة خارجية موحدة وقوية مع استجابة أمنية صارمة من قبل الاتحاد الأوروبي.
ولقد تصاعدت أهمية تلك المنطقة نظرا للدور المتراجع الذي تتخذه أميركا والمتمثل في دفع بلدان الاتحاد الأوروبي إلى الاضطلاع بالمسؤوليات، ما يدفع بروكسل إلى السعي وراء رفع قدرات تأمين الطاقة من إمدادات شرق المتوسط مع كسر الاعتماد طويل الأمد على الإمدادات الروسية المماثلة. ما يعني استعداد الاتحاد الأوروبي للاستجابة الصارمة ضد سياسات الحكومة التركية العدائية في البحر المتوسط. وعلى الرغم من استعداد فرنسا وغيرها من الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بذلك، فمن غير الواضح - أو الأكيد - أن ألمانيا وسواها من بلدان أوروبا الشرقية ستكون مستعدة للمخاطرة بإجبار أنقرة على الابتعاد، سيما وأن التهديد بدخول المزيد من اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا لا يزال قائما من جانب الحكومة التركية.
- نيل كويليام المدير الإداري لمؤسسة «آزور استراتيجي» البحثية في لندن. وهو زميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.