الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة

الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة
TT

الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة

الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة

يحمل نزاع منطقة شرق البحر المتوسط قدرا متزايدا من التعقيد بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد، غير أن النزاع يتسم بثلاث قضايا متداخلة: قضية الأمن الإقليمي، وقضية أمن الطاقة، وقضية الهجرة. ويبذل الاتحاد الأوروبي قصارى جهده للتعامل مع هذه القضايا في آن واحد، إذ تجمع فيما بينها ثلاثة مسارات بالغة الحساسية تلك التي تستلزم اتخاذ الإجراءات الحاسمة والحازمة، ويبدو أن هذا المطلب في حد ذاته يندرج خارج اختصاصات الاتحاد الأوروبي.
أولا، قبل كل شيء، يواصل الاتحاد الأوروبي التأقلم مع البيئة الأمنية الإقليمية دائمة التغير. في حين أن أميركا أثبتت أنها شريك أمني يمكن الاعتماد عليه بالنسبة للقارة الأوروبية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما في مواجهة التحديات الناشئة والمستمرة من روسيا فإن التزاماتها الأمنية والخارجية اهتزت بصورة كبيرة منذ سنوات رئاسة باراك أوباما، واستمر الأمر على منواله - وربما لما هو أكثر من ذلك - خلال سنوات رئاسة دونالد ترمب. وجاء الاتجاه الراهن في سياسة أميركا الخارجية من حيث دفع الحلفاء الأوروبيين - وفي واقع الأمر، دفع الحلفاء الآخرين من أماكن أخرى - إلى الاضطلاع بمسؤوليات كبيرة عن الأمن الإقليمي، ليشكل أعباء وتحديات هائلة على قيادة الاتحاد الأوروبي.
وفي الأثناء ذاتها، استغلت روسيا الفرصة السانحة من تراجع الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة الأميركية مع تردد المواقف الأوروبية في إعادة تأكيد نفوذها السياسي والعسكري في منطقة شرق البحر المتوسط والشمال الأفريقي. وفي واقع الأمر، لم تكن روسيا هي التي تأكد وجودها في الفضاء الذي خلا بتراجع أميركا فحسب، وإنما بلدان إقليمية أخرى كانت حريصة كل الحرص على جبر هذه الفجوة.
رغم أن إدارة جوزيف بايدن - المحتملة - قد توفر الدعم الدبلوماسي القوي للاتحاد الأوروبي أكثر من الإدارات السابقة عليها، فإن قادة الاتحاد الأوروبي يدركون تماما أن التحول البنيوي الذي يشهده ميزان القوى العالمي يعني أن الولايات المتحدة لن تُقدم جديدا فيما يتصل بتوفير الدعم المناسب للحلفاء في أوروبا.
ونتيجة لذلك، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرا في الآونة الراهنة إلى اعتماد سياسات خارجية وأمنية أكثر قوة وصرامة من أي وقت مضى بُغية التصدي أولا للمغامرات العسكرية والسياسة الانتهازية الروسية. ومع ذلك، تبنت بعض الدول الأعضاء المفردة في الاتحاد الأوروبي سياسات غالبا ما تعتبر غير متوافقة مع المسار العام للاتحاد الأوروبي في بعض القضايا الثنائية. على سبيل المثال، أحجمت الحكومة الألمانية في غير مناسبة عن اتخاذ المواقف الصارمة تجاه الحكومة الروسية، ومرجع ذلك في جزء منه إلى العلاقات التاريخية التي تربط بين البلدين، فضلا عن مسألة أمن الطاقة التي يوفرها خط «نورد ستريم» الذي يوفر إلى ألمانيا 40 في المائة من واردات الغاز الطبيعي الخارجية.
ويتطلب الأمر اعتماد سياسات تنطوي على التهديد بفرض العقوبات الاقتصادية، سيما وأن روسيا أخذت في حسبانها على مر السنين أنه يمكنها انتهاك أحكام القانون والأعراف الدولية مع الإفلات التام من العقاب. ومع ذلك، فإن الآثار المتراكمة للمغامرات العسكرية الروسية في كل من أوكرانيا، وسوريا، وليبيا - إلى جانب تهديدات الأمن السيبراني ضد البرلمان الألماني، واستخدام غاز الأعصاب في الحادثة الشهيرة في مارس ( آذار) من عام 2018 في بريطانيا، وأخيرا وليس آخرا حادثة المعارض الروسي الشهير أليكسي نافالني - تبدو وقد أدت إلى تقارب وجهات النظر الألمانية مع الشركاء الأوروبيين مما أسفر عن الدعوة إلى إعادة النظر في خط الغاز الطبيعي الجديد «نورد ستريم 2». وعلى هذا النحو، فإن كسر حالة الاعتماد القائمة على واردات الغاز الطبيعي الروسي قد اكتسبت أهمية وزخما جديدا في الآونة الأخيرة.
ووفق هذه الخلفية، أصبحت تطورات الأوضاع ذات الصلة بقضية الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط من المسائل ذات الأولوية القصوى بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء. فمخزون الغاز الطبيعي في تلك المنطقة يطرح بديلا وافرا لواردات الغاز من روسيا، ذلك البديل الذي يقع حرفيا في الحديقة الخلفية للاتحاد الأوروبي على الرغم من أن توصيل الغاز من هذه المنطقة إلى الأسواق الأوروبية المختلفة لا يعتبر من المشاريع باهظة التكاليف فحسب، وإنما سيستلزم كذلك تأمين إرادة سياسية أكثر قوة واستدامة من جانب بروكسل لا سيما مع اعتبار حالة النزاع القائمة بين اليونان وقبرص من جهة، وتركيا من جهة أخرى على الحدود البحرية، والسيادة على موارد الطاقة الطبيعية تحت البحر. وفي هذا السياق، تحرك مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - اليونان، وفرنسا، وإيطاليا، وقبرص - على تحريك دفة سياسات الاتحاد الأوروبي إلى الأمام مع التحدي الواضح للمزاعم التركية المضادة، إلى جانب التحركات المضادة الرامية إلى تأمين الوصول إلى المياه الإقليمية القبرصية.
وتشكل موارد الغاز شرق البحر المتوسط مزيجا ثريا من المصالح الأمنية، والتجارية، والدبلوماسية لدى كل دولة من تلك الدول، وإنما عبر تباينات مختلفة. على سبيل المثال، تملك كل من اليونان وقبرص مصالح مادية مشتركة في تطوير احتياطيات الطاقة في تلك المنطقة مع العثور على السبيل الأكثر ربحية نحو الأسواق، مع العمل في نفس الوقت على الدفاع عن المياه السيادية التي تقع فيها المنطقة الاقتصادية الخالصة. وعلى هذا النحو، جرى تشكيل «منتدى غاز شرق المتوسط» بعضوية كل من الأردن، ومصر، وإسرائيل، فلسطين، وإيطاليا، مع تعمد استبعاد تركيا (ولبنان)، سيما مع التحديات المستمرة من قبل أنقرة لشرعية المناطق الاقتصادية الخالصة عن طريق إرسال سفن التنقيب المصاحبة بالسفن الحربية في المياه الإقليمية القبرصية.
وصارت فرنسا من أبرز وأقوى حلفاء اليونان وقبرص في ذلك النزاع إذ قامت بإرسال الفرقاطة الحربية «لافايت» إلى شرق البحر الأبيض المتوسط في أغسطس (آب) من العام الجاري بهدف المشاركة في المناورات العسكرية المشتركة، فضلا عن تمركز طائرتين مقاتلتين من طراز «رافال» في إحدى القواعد العسكرية في جزيرة كريت.
ومع ذلك، فإن المصالح الفرنسية تستند إلى مجموعة مختلفة من العوامل بالنسبة إلى اليونان وقبرص، مع التركيز بصورة أكبر على الاستراتيجية الفرنسية الأوسع نطاقا في البحر المتوسط، فضلا عن المنافسة الشديدة بين باريس وأنقرة، بأكثر من تركيزها المجرد على أمن الطاقة في تلك المنطقة في حد ذاته.
تسعى السياسة الخارجية الفرنسية إلى إرساء الاستقرار في ليبيا - وذلك مع تأمين مصالحها التجارية في مجالي النفط والغاز، مع دعم الحكومات في منطقة الساحل حتى تتمكن من مواصلة مكافحة الإرهاب بصورة أفضل على اعتبارها وسيلة من وسائل تأمين الجبهة الداخلية الفرنسية ضد موجات وتدفقات الهجرة الخارجية، والتفرغ إلى مصارع النفوذ مع تركيا عبر البحر المتوسط. وعلى هذا النحو، ورغم أن قضية الغاز في شرق المتوسط هي واحدة من بين العديد من القضايا الأخرى ذات الأهمية بالنسبة إلى فرنسا، في منطقة «يوروميد»، فإن حالة التناطح الراهنة ما بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ورجب طيب إردوغان تحمل قدرا معتبرا من التأثير العميق على مقاربة الاتحاد الأوروبي بأسره صوب الغاز في شرق المتوسط.
كان المجلس الأوروبي أكثر سرعة في إدانة الحكومة التركية على توقيع مذكرة التفاهم بتاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2019 مع حكومة الوفاق الليبية والمعنية بترسيم مناطق الاختصاص البحري في البحر المتوسط نظرا لأن المذكرة تمثل انتهاكا مباشرا للحقوق السيادية لدى اليونان وقبرص.
غير أن المجلس الأوروبي لم يُقدم على مثل هذه الخطوة عندما وقعت الحكومتان المصرية واليونانية على الاتفاق البحري المشترك في أغسطس الماضي. حتى الحكومة الإيطالية، التي كانت حتى وقت قريب تعتمد سياسة داعمة للموقف التركي في ليبيا - نظرا لمصالحها الدبلوماسية والتجارية التي تعبر عنها بواسطة شركة «إيني» للطاقة - أعادت توجيه سياساتها الخارجية كي تكون أكثر اصطفافا مع المقاربات المتخذة من قبل الاتحاد الأوروبي. وأسفرت حالة التقارب الواضحة بين السياسات الخارجية الفرنسية والإيطالية إلى تنضيد سياسات الاتحاد الأوروبي في منطقة شرق المتوسط على نحو قوي وراء الاصطفاف الإقليمي القائم بشأن اليونان، وقبرص، ومصر، وإسرائيل. جاء التدخل العسكري التركي في مجريات الأزمة الليبية، ما قلب الطاولة بدرجة من الدرجات، فضلا عن المغامرات المستمرة في البحر المتوسط، من شاكلة إرسال سفينة المسح «أوريك رايس»، وسفينتين أخريين للتنقيب والحفر، رفقة ثلاث سفن للإمداد البحري إلى المياه السيادية القبرصية، في منتصف أغسطس، ليشكل في مجموعه صداعا أمنيا مؤرقا لقيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
علاوة على ما تقدم، يعتبر التعاون الوثيق الذي يجمع بين موسكو وأنقرة، والذي يبدو جليا في كل من سوريا وليبيا، على الرغم من الخلافات بين الجانبين في كلا المعسكرين، من أبرز بواعث التوتر والقلق لا سيما وأن تركيا تمثل دولة عبور الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر خط أنابيب «تورك ستريم».
أخيرا، تعتقد الحكومة التركية أن الشوكة المثلى في خاصرة الاتحاد الأوروبي هي ألمانيا من واقع خشيتها الشديدة من توقف أنقرة عن كبح جماح تدفقات اللاجئين صوب أوروبا مما يمنح أنقرة درجة من الأمان إزاء اتخاذ أية إجراءات قوية ضدها. ووفق هذا المعنى، يبدو وأن الحكومة التركية قد قدرت الأمور من تلك الزاوية، وأنه على الرغم من حشد الدعم وراء اليونان وقبرص فإن الدعوات الفرنسية لفرض العقوبات على تركيا مصيرها الفشل في نهاية المطاف، حيث سيؤدي الانقسام الظاهر بين برلين وباريس في قلب الاتحاد الأوروبي إلى حالة من الجمود وربما التقاعس. وإن كانت هذه هي الحالة، فمن شأن الحكومة التركية إعادة إرسال سفينة المسح «أوريك رايس» إلى المياه الإقليمية القبرصية مرة أخرى بعد الانتهاء من عمليات الصيانة الروتينية الحالية.
ربما تكون قضية شرق المتوسط هي القضية التي تمخضت في خاتمة المطاف عن نشوء سياسة خارجية موحدة وقوية مع استجابة أمنية صارمة من قبل الاتحاد الأوروبي.
ولقد تصاعدت أهمية تلك المنطقة نظرا للدور المتراجع الذي تتخذه أميركا والمتمثل في دفع بلدان الاتحاد الأوروبي إلى الاضطلاع بالمسؤوليات، ما يدفع بروكسل إلى السعي وراء رفع قدرات تأمين الطاقة من إمدادات شرق المتوسط مع كسر الاعتماد طويل الأمد على الإمدادات الروسية المماثلة. ما يعني استعداد الاتحاد الأوروبي للاستجابة الصارمة ضد سياسات الحكومة التركية العدائية في البحر المتوسط. وعلى الرغم من استعداد فرنسا وغيرها من الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بذلك، فمن غير الواضح - أو الأكيد - أن ألمانيا وسواها من بلدان أوروبا الشرقية ستكون مستعدة للمخاطرة بإجبار أنقرة على الابتعاد، سيما وأن التهديد بدخول المزيد من اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا لا يزال قائما من جانب الحكومة التركية.
- نيل كويليام المدير الإداري لمؤسسة «آزور استراتيجي» البحثية في لندن. وهو زميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!