يحمل نزاع منطقة شرق البحر المتوسط قدرا متزايدا من التعقيد بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد، غير أن النزاع يتسم بثلاث قضايا متداخلة: قضية الأمن الإقليمي، وقضية أمن الطاقة، وقضية الهجرة. ويبذل الاتحاد الأوروبي قصارى جهده للتعامل مع هذه القضايا في آن واحد، إذ تجمع فيما بينها ثلاثة مسارات بالغة الحساسية تلك التي تستلزم اتخاذ الإجراءات الحاسمة والحازمة، ويبدو أن هذا المطلب في حد ذاته يندرج خارج اختصاصات الاتحاد الأوروبي.
أولا، قبل كل شيء، يواصل الاتحاد الأوروبي التأقلم مع البيئة الأمنية الإقليمية دائمة التغير. في حين أن أميركا أثبتت أنها شريك أمني يمكن الاعتماد عليه بالنسبة للقارة الأوروبية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما في مواجهة التحديات الناشئة والمستمرة من روسيا فإن التزاماتها الأمنية والخارجية اهتزت بصورة كبيرة منذ سنوات رئاسة باراك أوباما، واستمر الأمر على منواله - وربما لما هو أكثر من ذلك - خلال سنوات رئاسة دونالد ترمب. وجاء الاتجاه الراهن في سياسة أميركا الخارجية من حيث دفع الحلفاء الأوروبيين - وفي واقع الأمر، دفع الحلفاء الآخرين من أماكن أخرى - إلى الاضطلاع بمسؤوليات كبيرة عن الأمن الإقليمي، ليشكل أعباء وتحديات هائلة على قيادة الاتحاد الأوروبي.
وفي الأثناء ذاتها، استغلت روسيا الفرصة السانحة من تراجع الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة الأميركية مع تردد المواقف الأوروبية في إعادة تأكيد نفوذها السياسي والعسكري في منطقة شرق البحر المتوسط والشمال الأفريقي. وفي واقع الأمر، لم تكن روسيا هي التي تأكد وجودها في الفضاء الذي خلا بتراجع أميركا فحسب، وإنما بلدان إقليمية أخرى كانت حريصة كل الحرص على جبر هذه الفجوة.
رغم أن إدارة جوزيف بايدن - المحتملة - قد توفر الدعم الدبلوماسي القوي للاتحاد الأوروبي أكثر من الإدارات السابقة عليها، فإن قادة الاتحاد الأوروبي يدركون تماما أن التحول البنيوي الذي يشهده ميزان القوى العالمي يعني أن الولايات المتحدة لن تُقدم جديدا فيما يتصل بتوفير الدعم المناسب للحلفاء في أوروبا.
ونتيجة لذلك، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرا في الآونة الراهنة إلى اعتماد سياسات خارجية وأمنية أكثر قوة وصرامة من أي وقت مضى بُغية التصدي أولا للمغامرات العسكرية والسياسة الانتهازية الروسية. ومع ذلك، تبنت بعض الدول الأعضاء المفردة في الاتحاد الأوروبي سياسات غالبا ما تعتبر غير متوافقة مع المسار العام للاتحاد الأوروبي في بعض القضايا الثنائية. على سبيل المثال، أحجمت الحكومة الألمانية في غير مناسبة عن اتخاذ المواقف الصارمة تجاه الحكومة الروسية، ومرجع ذلك في جزء منه إلى العلاقات التاريخية التي تربط بين البلدين، فضلا عن مسألة أمن الطاقة التي يوفرها خط «نورد ستريم» الذي يوفر إلى ألمانيا 40 في المائة من واردات الغاز الطبيعي الخارجية.
ويتطلب الأمر اعتماد سياسات تنطوي على التهديد بفرض العقوبات الاقتصادية، سيما وأن روسيا أخذت في حسبانها على مر السنين أنه يمكنها انتهاك أحكام القانون والأعراف الدولية مع الإفلات التام من العقاب. ومع ذلك، فإن الآثار المتراكمة للمغامرات العسكرية الروسية في كل من أوكرانيا، وسوريا، وليبيا - إلى جانب تهديدات الأمن السيبراني ضد البرلمان الألماني، واستخدام غاز الأعصاب في الحادثة الشهيرة في مارس ( آذار) من عام 2018 في بريطانيا، وأخيرا وليس آخرا حادثة المعارض الروسي الشهير أليكسي نافالني - تبدو وقد أدت إلى تقارب وجهات النظر الألمانية مع الشركاء الأوروبيين مما أسفر عن الدعوة إلى إعادة النظر في خط الغاز الطبيعي الجديد «نورد ستريم 2». وعلى هذا النحو، فإن كسر حالة الاعتماد القائمة على واردات الغاز الطبيعي الروسي قد اكتسبت أهمية وزخما جديدا في الآونة الأخيرة.
ووفق هذه الخلفية، أصبحت تطورات الأوضاع ذات الصلة بقضية الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط من المسائل ذات الأولوية القصوى بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء. فمخزون الغاز الطبيعي في تلك المنطقة يطرح بديلا وافرا لواردات الغاز من روسيا، ذلك البديل الذي يقع حرفيا في الحديقة الخلفية للاتحاد الأوروبي على الرغم من أن توصيل الغاز من هذه المنطقة إلى الأسواق الأوروبية المختلفة لا يعتبر من المشاريع باهظة التكاليف فحسب، وإنما سيستلزم كذلك تأمين إرادة سياسية أكثر قوة واستدامة من جانب بروكسل لا سيما مع اعتبار حالة النزاع القائمة بين اليونان وقبرص من جهة، وتركيا من جهة أخرى على الحدود البحرية، والسيادة على موارد الطاقة الطبيعية تحت البحر. وفي هذا السياق، تحرك مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - اليونان، وفرنسا، وإيطاليا، وقبرص - على تحريك دفة سياسات الاتحاد الأوروبي إلى الأمام مع التحدي الواضح للمزاعم التركية المضادة، إلى جانب التحركات المضادة الرامية إلى تأمين الوصول إلى المياه الإقليمية القبرصية.
وتشكل موارد الغاز شرق البحر المتوسط مزيجا ثريا من المصالح الأمنية، والتجارية، والدبلوماسية لدى كل دولة من تلك الدول، وإنما عبر تباينات مختلفة. على سبيل المثال، تملك كل من اليونان وقبرص مصالح مادية مشتركة في تطوير احتياطيات الطاقة في تلك المنطقة مع العثور على السبيل الأكثر ربحية نحو الأسواق، مع العمل في نفس الوقت على الدفاع عن المياه السيادية التي تقع فيها المنطقة الاقتصادية الخالصة. وعلى هذا النحو، جرى تشكيل «منتدى غاز شرق المتوسط» بعضوية كل من الأردن، ومصر، وإسرائيل، فلسطين، وإيطاليا، مع تعمد استبعاد تركيا (ولبنان)، سيما مع التحديات المستمرة من قبل أنقرة لشرعية المناطق الاقتصادية الخالصة عن طريق إرسال سفن التنقيب المصاحبة بالسفن الحربية في المياه الإقليمية القبرصية.
وصارت فرنسا من أبرز وأقوى حلفاء اليونان وقبرص في ذلك النزاع إذ قامت بإرسال الفرقاطة الحربية «لافايت» إلى شرق البحر الأبيض المتوسط في أغسطس (آب) من العام الجاري بهدف المشاركة في المناورات العسكرية المشتركة، فضلا عن تمركز طائرتين مقاتلتين من طراز «رافال» في إحدى القواعد العسكرية في جزيرة كريت.
ومع ذلك، فإن المصالح الفرنسية تستند إلى مجموعة مختلفة من العوامل بالنسبة إلى اليونان وقبرص، مع التركيز بصورة أكبر على الاستراتيجية الفرنسية الأوسع نطاقا في البحر المتوسط، فضلا عن المنافسة الشديدة بين باريس وأنقرة، بأكثر من تركيزها المجرد على أمن الطاقة في تلك المنطقة في حد ذاته.
تسعى السياسة الخارجية الفرنسية إلى إرساء الاستقرار في ليبيا - وذلك مع تأمين مصالحها التجارية في مجالي النفط والغاز، مع دعم الحكومات في منطقة الساحل حتى تتمكن من مواصلة مكافحة الإرهاب بصورة أفضل على اعتبارها وسيلة من وسائل تأمين الجبهة الداخلية الفرنسية ضد موجات وتدفقات الهجرة الخارجية، والتفرغ إلى مصارع النفوذ مع تركيا عبر البحر المتوسط. وعلى هذا النحو، ورغم أن قضية الغاز في شرق المتوسط هي واحدة من بين العديد من القضايا الأخرى ذات الأهمية بالنسبة إلى فرنسا، في منطقة «يوروميد»، فإن حالة التناطح الراهنة ما بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ورجب طيب إردوغان تحمل قدرا معتبرا من التأثير العميق على مقاربة الاتحاد الأوروبي بأسره صوب الغاز في شرق المتوسط.
كان المجلس الأوروبي أكثر سرعة في إدانة الحكومة التركية على توقيع مذكرة التفاهم بتاريخ نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2019 مع حكومة الوفاق الليبية والمعنية بترسيم مناطق الاختصاص البحري في البحر المتوسط نظرا لأن المذكرة تمثل انتهاكا مباشرا للحقوق السيادية لدى اليونان وقبرص.
غير أن المجلس الأوروبي لم يُقدم على مثل هذه الخطوة عندما وقعت الحكومتان المصرية واليونانية على الاتفاق البحري المشترك في أغسطس الماضي. حتى الحكومة الإيطالية، التي كانت حتى وقت قريب تعتمد سياسة داعمة للموقف التركي في ليبيا - نظرا لمصالحها الدبلوماسية والتجارية التي تعبر عنها بواسطة شركة «إيني» للطاقة - أعادت توجيه سياساتها الخارجية كي تكون أكثر اصطفافا مع المقاربات المتخذة من قبل الاتحاد الأوروبي. وأسفرت حالة التقارب الواضحة بين السياسات الخارجية الفرنسية والإيطالية إلى تنضيد سياسات الاتحاد الأوروبي في منطقة شرق المتوسط على نحو قوي وراء الاصطفاف الإقليمي القائم بشأن اليونان، وقبرص، ومصر، وإسرائيل. جاء التدخل العسكري التركي في مجريات الأزمة الليبية، ما قلب الطاولة بدرجة من الدرجات، فضلا عن المغامرات المستمرة في البحر المتوسط، من شاكلة إرسال سفينة المسح «أوريك رايس»، وسفينتين أخريين للتنقيب والحفر، رفقة ثلاث سفن للإمداد البحري إلى المياه السيادية القبرصية، في منتصف أغسطس، ليشكل في مجموعه صداعا أمنيا مؤرقا لقيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
علاوة على ما تقدم، يعتبر التعاون الوثيق الذي يجمع بين موسكو وأنقرة، والذي يبدو جليا في كل من سوريا وليبيا، على الرغم من الخلافات بين الجانبين في كلا المعسكرين، من أبرز بواعث التوتر والقلق لا سيما وأن تركيا تمثل دولة عبور الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر خط أنابيب «تورك ستريم».
أخيرا، تعتقد الحكومة التركية أن الشوكة المثلى في خاصرة الاتحاد الأوروبي هي ألمانيا من واقع خشيتها الشديدة من توقف أنقرة عن كبح جماح تدفقات اللاجئين صوب أوروبا مما يمنح أنقرة درجة من الأمان إزاء اتخاذ أية إجراءات قوية ضدها. ووفق هذا المعنى، يبدو وأن الحكومة التركية قد قدرت الأمور من تلك الزاوية، وأنه على الرغم من حشد الدعم وراء اليونان وقبرص فإن الدعوات الفرنسية لفرض العقوبات على تركيا مصيرها الفشل في نهاية المطاف، حيث سيؤدي الانقسام الظاهر بين برلين وباريس في قلب الاتحاد الأوروبي إلى حالة من الجمود وربما التقاعس. وإن كانت هذه هي الحالة، فمن شأن الحكومة التركية إعادة إرسال سفينة المسح «أوريك رايس» إلى المياه الإقليمية القبرصية مرة أخرى بعد الانتهاء من عمليات الصيانة الروتينية الحالية.
ربما تكون قضية شرق المتوسط هي القضية التي تمخضت في خاتمة المطاف عن نشوء سياسة خارجية موحدة وقوية مع استجابة أمنية صارمة من قبل الاتحاد الأوروبي.
ولقد تصاعدت أهمية تلك المنطقة نظرا للدور المتراجع الذي تتخذه أميركا والمتمثل في دفع بلدان الاتحاد الأوروبي إلى الاضطلاع بالمسؤوليات، ما يدفع بروكسل إلى السعي وراء رفع قدرات تأمين الطاقة من إمدادات شرق المتوسط مع كسر الاعتماد طويل الأمد على الإمدادات الروسية المماثلة. ما يعني استعداد الاتحاد الأوروبي للاستجابة الصارمة ضد سياسات الحكومة التركية العدائية في البحر المتوسط. وعلى الرغم من استعداد فرنسا وغيرها من الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي للاضطلاع بذلك، فمن غير الواضح - أو الأكيد - أن ألمانيا وسواها من بلدان أوروبا الشرقية ستكون مستعدة للمخاطرة بإجبار أنقرة على الابتعاد، سيما وأن التهديد بدخول المزيد من اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا لا يزال قائما من جانب الحكومة التركية.
- نيل كويليام المدير الإداري لمؤسسة «آزور استراتيجي» البحثية في لندن. وهو زميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»
الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة
الاتحاد الأوروبي والتأقلم مع بيئة أمنية متغيرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة