يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

بعد انتخابه خلفاً لأطول القادة حكماً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً
TT

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

قد لا يكون يوشيهيدي سوغا، الذي تولى هذا الأسبوع قيادة اليابان خلفاً لرئيس الحكومة المستقيل شينزو آبي، من الزعماء الاستثنائيين. إذ لا هو في سن تَعِد بنقلة نوعية تاريخية في بلد عهوده الوزارية كثيرة وقياداته الكاريزمية قليلة، ولا هو زعيم متميّز داخل نظام تختلط فيه التقاليد ومعادلات الكتل وتوازناتها المصلحية، سواء داخل الحزب الديمقراطي الحر الحاكم، أو بينه وبين الأحزاب المعارضة أو المتآلفة.
غير أن ما لا يختلف عليه المتابعون أن السياسي المحنّك المخضرم (71 سنة) يرث أوضاعاً اقتصادية صعبة، فاقمتها جائحة «كوفيد – 19» التي هزّت اقتصادات العالم، بما فيها الاقتصاد الياباني، الذي يواجه آسيوياً وعالمياً الصعود الصيني، كما يعاني من مشاكل أخرى، ليس أقلها الشيخوخة السكانية.

لم تمض فترة طويلة على تحطيم رئيس وزراء اليابان المستقيل شينزو آبي الرقم القياسي لأطول فترة في تاريخ حكومات البلاد، في العام الماضي، حتى أعلن خلال أغسطس (آب) الماضي اضطراره إلى الاستقالة لدواعي صحية.
آبي (65 سنة)، الذي تولى رئاسة الحكومة مرتين (بين 2006 و2007 ثم بين 2012 و2020) قد استقال في المرة الأولى بعد سنة واحدة من توليه السلطة لسبب صحي هو التقرح الالتهابي في القولون. إلا أنه تعافى بعد ذلك وعاد إلى المعترك السياسي.
هذه المرة، يبدو أن المرض كان أقوى من آبي، ما اضطر سليل البيت السياسي العريق - المتحدّر من محافظة ياماغوتشي في أقصى جنوب هونشو، كبرى الجزر اليابانية - إلى التنحّي.
معركة الخلافة، كانت مفتوحة بين ثلاثة من كبار ساسة الحزب الديمقراطي الحر، هم: أمين عام مجلس الوزراء يوشيهيدي سوغا، الأكبر سناً بين الثلاثة، وفوميو كيشيدا (63 سنة) وزير الخارجية السابق، وشيغيرو إيشيبا (63 سنة) وهو وزير سابق للدفاع. غير أن سوغا كان أقرب الثلاثة إلى آبي، وبحكم منصبه الفعلي كان الأوثق علاقة بالوزراء الحاليين الذين يمثلون أبرز الأجنحة السياسية الفاعلة على الساحة السياسية، وبالأخص داخل الحزب الحاكم. ثم إنه من واقع تقدمه النسبي في السن بالمقارنة مع منافسه، كان يشكل الخيار الأنسب للمرحلة، لإكمال ما تبقى من عهد الزعيم المستقيل. ومن ثم، ما أن فتحت بات التنافس حتى بدا أن فرصة سوغا هي الأكبر.
وبالفعل، لدى إجراء الاقتراع الداخلي لنواب الحزب الديمقراطي الحر وممثليه الإقليميين، فاز سوغا بغالبية كبيرة؛ إذ حصل على 377 صوتاً من أصل 534. وتلقائياً، بحكم انتخابه زعيماً، غدا سوغا الرئيس الجديد للحكومة، التي شكّلها على عجل قبل يومين، وحملت كل سمات شخصيته المحافظة، مع احتفاظه بعدد من الوجوه القديمة، مع تمثيل محدود للنساء.

بطاقة شخصية

ولد يوشيهيدي سوغا في بلدة يوازا، بريف محافظة آكيتا في شمال جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) لعائلة من مزارعي الفراولة، يوم 6 ديسمبر (كانون الأول) 1948.
إلا أن الفتى الطموح، قرر ألا يرث مزرعة العائلة بعدما أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في أكيتا، بل حزم حقائبه وانتقل جنوباً إلى العاصمة طوكيو، حيث التحق بجامعة هوساي. وفي طوكيو عمل في مصنع للورق المقوّى وحارساً أمنياً من أجل الإنفاق على دراسته، إلى أن تخرج فيها حاملاً الإجازة في الحقوق.
سوغا، المتزوج والأب لثلاثة أولاد، يُعرف عنه أنه رجل شديد الالتزام ونشيط يعمل بلا كلل، ولا يشرب الكحول إطلاقاً. وأكثر من ذلك، يقول عنه عارفوه، إنه جدّي جدً يفتقر إلى روح النكتة والدعابة، ومواظب على التمارين الرياضية يومياً للمحافظة على لياقته البدنية والذهنية، ويصحو باكراً في الساعة الخامسة صباحاً.
ثم أنه، بعكس عدد من الساسة المحافظين اليابانيين، لم يعتمد يوشيهيدي سوغا على شبكة علاقات عائلية في مسيرته. غير أنه بعد التخرّج انجذب إلى السياسة، والتحق بصفوف الحزب الديمقراطي الحر، وبدأ تسلق السلّم درجة درجة في «الغرف الخلفية». وكانت البداية عمله في الحملات الانتخابية للمجلس الأعلى للبرلمان. ثم عمل سكرتيراً لعضو البرلمان هيكوسابورو أوكونغي، لمدة 11 سنة. استقال على الأثر، في أكتوبر (تشرين الأول) 1986، وشق طريقه السياسية. وحقاً، في أبريل (نيسان) عام 1987، انتخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة يوكوهاما، ثاني كبرى مدن اليابان، وتعلم، ثم أتقن بذكائه وغريزته السياسية الفطرية، فن تنظيم الحملات الانتخابية الشعبوية، ومخاطبة الجموع في الشوارع والساحات.

المسيرة البرلمانية والوزارية

بعد تسع سنوات، أي عام 1996 دخل سوغا البرلمان لأول مرة ممثلاً الدائرة الانتخابية الثانية في محافظة كاناغاوا، التي تضم مدينة يوكوهاما (عاصمة المحافظة) وتقع مباشرة إلى الجنوب من طوكيو. وهي الدائرة التي لا يزال يمثلها حتى اليوم، في أعقاب فوزه في انتخابات الأعوام 2000 و2003 و2005 و2009، وحتى الآن. غير أن سوغا، خلال 3 سنوات فقط من وجوده في البرلمان، في خطوة غير مسبوقة من سياسي طري العود، نقل ولاءه من زعيم كتلته البرلمانية رئيس الوزراء (السابق) كيزو أوبوتشي إلى كتلة الأمين العام السابق للحزب سيروكو كاجياما.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، خطا سوغا خطواته الأولى في عالم الحكومات عندما عيّن نائباً لوزير الداخلية في خكومة جونيتشيرو كويزومي. وفي العام التالي، وتحديداً في سبتمبر (أيلول) عام 2006، أسند إليه رئيس الوزراء الجديد (يومذاك) شينزو آبي منصب وزير الداخلية والاتصالات وخصخصة البريد، وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، أضيفت لحقائبه الوزارية حقيبة الإصلاح اللامركزي حتى 2007.
انتخابات 2009، بالذات، كانت مفصلاً مهماً بالنسبة لسوغا؛ إذ احتفظ بمقعده بخلاف عدد لا بأس من رفاقه، عندما شهدت اليابان موجة تأييد غير مسبوق لحزب اليابان الديمقراطي المعارض. ثم في أكتوبر 2011 عيّن سوغا رئيساً لمقر القيادة والتنظيم في الحزب الديمقراطي الحر، وكان دور سوغا محورياً إبان سنوات المعارضة في مساعدة شينزو آبي على استعادة قيادة الحزب الديمقراطي، وكانت مكافأته أن أسند إليه آبي في العام التالي 2012 منصب الأمين العام التنفيذي لمجلس الوزراء.
في هذا المنصب الحساس تنظيمياً والعظيم النفوذ، عُرف عن سوغا الحزم والفاعلية، والصرامة في التعامل مع الجهاز الحكومي والإعلام. وثمة مراقبون جيدو الاطلاع على دهاليز السياسة اليابانية، أن تساعد خبرة سوغا الإدارية الكبيرة في ضمان الاستمرار والسلاسة في العمل الحكومي خلال الفترة المقبلة وصولاً إلى موعد الانتخابات العامة المقبلة عام 2021. وحول هذا الجانب نقلت هيئة الإذاعة البريطاني (بي بي سي) عن البروفسور كويتشي ناكانو، أستاذ العلم السياسية وعميد جامعة سوفيا في العاصمة اليابانية طوكيو قوله إن «شينزو آبي وقادة الحزب (الحاكم) الآخرين أيدوا سوغا وانضموا إلى حملته، خصوصاً، لأنه يشكل الضمانة الأكبر للاستمرارية، وهو الأقدر على مواصلة مسيرة آبي في غياب آبي».
وبالفعل، مع أن كثيرين يعتقدون أن سوغا يفتقر إلى الدفء والديناميكية، فإنه معروف ومقدّر جداً لنجاعته وحذقه وتفكيره العملي. ثم، أنه كان ولا يزال شديد الولاء لآبي وجناحه السياسي الحزبي، وبالتالي، لا يتوقع أن يُحدث أي تغيير جوهري في سياسات سلفه قبل

«كوفيد – 19» والاقتصاد

انتخابات العام المقبل، وبالأخص سياسات آبي الاقتصادية التي تحرص على تنشيط الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصادات العالم، والتي يعد يوشيهيدي سوغا من كبار المؤمنين والملتزمين بها.
في المقابل، ثمة من يشير إلى أنه قد لا يقود الحزب والحكومة لفترة طويلة، إذا فرضت التطورات ديناميكيات جديدة تحتاج إلى وجه جديد أكثر وأوسع جاذبية. والحقيقة، أن جائحة «كوفيد – 19» هزّت الاقتصاد الياباني كما هزّت كل اقتصادات العالم. ومن ثم، ما عاد ممكناً الاكتفاء بالنظريات والممارسات المألوفة، وهذا، بلا شك، تحد كبير لرئيس الوزراء الجديد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن سوغا، تعهد أخيرا بتوسيع قاعدة فحوص فيروس «كوفيد – 19»، وتأمين لقاحات ضده في النصف الأول من العام المقبل. كذلك تعهد برفع الحد الأدنى للأجور، والدفع قدماً بإصلاحات القطاع الزراعي، ودعم قطاع السياحة.
على صعيد آخر، يتوقع المراقبون، أن يواصل سوغا، ذو الخبرة المحدودة نسبياً في مجال السياسة الخارجية، السير على خطى سلفه. وهو ما يعني أن تكون في قمة أولويته تمتين التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع الاحتفاظ بسياسة مستقرة مع الجار: الآسيوي العملاق... الصين.
غير أن التحدي الاقتصادي يبقى التحدي الأساسي قبل انتخابات العام المقبل. ومما لا شك فيه أن المرحلة الانتقالية التي يقود فيها سوغا اليابان تأتي في حقبة اقتصادية صعبة. إذ أدت الجائحة – كما سبقت الإشارة – إلى ركود حاد غير مسبوق. والخطوات التي اتبعها الرئيس السابق آبي ما كانت بعد قد آتت أكلها عندما ضربت الجائحة اليابان، ثم، أن الجائحة أتت بعد سنوات من بطء النمو والكساد.
في الجوانب الأخرى، تركت الحكومة السابقة للحكومة الجديدة أموراً أخرى معلقة، مثل خطط الإصلاح الدستوري في مرحلة ما بعد مرحلة اللاعسكرة – التي تلت هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية. ويذكر في هذا السياق، أن آبي كان راغباً في تعديل الدستور من أجل إعادة تنشيط القوات المسلحة، المعروفة رسمياً باسم «قوة الدفاع عن النفس»، والممنوعة من المشاركة في أي عمليات أو مهام عسكرية دولية.
هناك سياسات، إذن، تحتاج إلى عامل الاستمرارية، ولكن توجد تحديات يعتقد على نطاق واسع أنها تحتاج إلى إعادة نظر. وهنا يطرح السؤال: ماذا يمكن أن يحصل بين الآن وسبتمبر 2021 موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
بل يُطرح سؤال آخر أيضاً... هو، هل تحفّز الحملة الانتخابية الموعودة على استعاضة الحزب الديمقراطي الحر عن التخلي عن نهج الاستمرارية والبدء بالإعداد لبداية جديدة تحت قيادة جديدة قد تكون فرصتها أكبر بقيادة الحزب للفوز؟
بالنسبة للسؤال الثاني، كان سوغا ضد فكرة انتخابات مبكرة تسبق السيطرة على الجائحة، غير أن هناك شائعات لا تستبعد إجراء مثل هذه الانتخابات، بل هناك من يقول إنه قد تجرى خلال فترة قريبة جداً تقطع الطريق كسب الحزب الديمقراطي الدستوري المعارض زخماً بعد إعادة تنظيمه، قد يهدد معه الحزب الحاكم.
ولكن، حتى إذا أجريت انتخابات العام المقبل في موعدها (مجلس النواب في سبتمبر والمجلس الأعلى في أكتوبر)، قد لا تكون رئاسة سوغا أكثر من فترة انتقالية. وهذا يعني انتخابات أخرى لزعامة الحزب، علماً بأن أنظمة الحزب تفرض انتخابات زعامة كل ثلاث سنوات، وهي ستكون هذه المرة مفتوحة أمام كل أعضاء الحزب؛ ما يعزز فرصة منافسه بالأمس شيغيرو إيشيبا، القوي شعبياً، وأيضاً قد هناك فرصة لفوز وزير الدفاع السابق تارو كونو.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.