يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

بعد انتخابه خلفاً لأطول القادة حكماً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً
TT

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

يوشيهيدي سوغا... التركة اليابانية الصعبة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً

قد لا يكون يوشيهيدي سوغا، الذي تولى هذا الأسبوع قيادة اليابان خلفاً لرئيس الحكومة المستقيل شينزو آبي، من الزعماء الاستثنائيين. إذ لا هو في سن تَعِد بنقلة نوعية تاريخية في بلد عهوده الوزارية كثيرة وقياداته الكاريزمية قليلة، ولا هو زعيم متميّز داخل نظام تختلط فيه التقاليد ومعادلات الكتل وتوازناتها المصلحية، سواء داخل الحزب الديمقراطي الحر الحاكم، أو بينه وبين الأحزاب المعارضة أو المتآلفة.
غير أن ما لا يختلف عليه المتابعون أن السياسي المحنّك المخضرم (71 سنة) يرث أوضاعاً اقتصادية صعبة، فاقمتها جائحة «كوفيد – 19» التي هزّت اقتصادات العالم، بما فيها الاقتصاد الياباني، الذي يواجه آسيوياً وعالمياً الصعود الصيني، كما يعاني من مشاكل أخرى، ليس أقلها الشيخوخة السكانية.

لم تمض فترة طويلة على تحطيم رئيس وزراء اليابان المستقيل شينزو آبي الرقم القياسي لأطول فترة في تاريخ حكومات البلاد، في العام الماضي، حتى أعلن خلال أغسطس (آب) الماضي اضطراره إلى الاستقالة لدواعي صحية.
آبي (65 سنة)، الذي تولى رئاسة الحكومة مرتين (بين 2006 و2007 ثم بين 2012 و2020) قد استقال في المرة الأولى بعد سنة واحدة من توليه السلطة لسبب صحي هو التقرح الالتهابي في القولون. إلا أنه تعافى بعد ذلك وعاد إلى المعترك السياسي.
هذه المرة، يبدو أن المرض كان أقوى من آبي، ما اضطر سليل البيت السياسي العريق - المتحدّر من محافظة ياماغوتشي في أقصى جنوب هونشو، كبرى الجزر اليابانية - إلى التنحّي.
معركة الخلافة، كانت مفتوحة بين ثلاثة من كبار ساسة الحزب الديمقراطي الحر، هم: أمين عام مجلس الوزراء يوشيهيدي سوغا، الأكبر سناً بين الثلاثة، وفوميو كيشيدا (63 سنة) وزير الخارجية السابق، وشيغيرو إيشيبا (63 سنة) وهو وزير سابق للدفاع. غير أن سوغا كان أقرب الثلاثة إلى آبي، وبحكم منصبه الفعلي كان الأوثق علاقة بالوزراء الحاليين الذين يمثلون أبرز الأجنحة السياسية الفاعلة على الساحة السياسية، وبالأخص داخل الحزب الحاكم. ثم إنه من واقع تقدمه النسبي في السن بالمقارنة مع منافسه، كان يشكل الخيار الأنسب للمرحلة، لإكمال ما تبقى من عهد الزعيم المستقيل. ومن ثم، ما أن فتحت بات التنافس حتى بدا أن فرصة سوغا هي الأكبر.
وبالفعل، لدى إجراء الاقتراع الداخلي لنواب الحزب الديمقراطي الحر وممثليه الإقليميين، فاز سوغا بغالبية كبيرة؛ إذ حصل على 377 صوتاً من أصل 534. وتلقائياً، بحكم انتخابه زعيماً، غدا سوغا الرئيس الجديد للحكومة، التي شكّلها على عجل قبل يومين، وحملت كل سمات شخصيته المحافظة، مع احتفاظه بعدد من الوجوه القديمة، مع تمثيل محدود للنساء.

بطاقة شخصية

ولد يوشيهيدي سوغا في بلدة يوازا، بريف محافظة آكيتا في شمال جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) لعائلة من مزارعي الفراولة، يوم 6 ديسمبر (كانون الأول) 1948.
إلا أن الفتى الطموح، قرر ألا يرث مزرعة العائلة بعدما أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في أكيتا، بل حزم حقائبه وانتقل جنوباً إلى العاصمة طوكيو، حيث التحق بجامعة هوساي. وفي طوكيو عمل في مصنع للورق المقوّى وحارساً أمنياً من أجل الإنفاق على دراسته، إلى أن تخرج فيها حاملاً الإجازة في الحقوق.
سوغا، المتزوج والأب لثلاثة أولاد، يُعرف عنه أنه رجل شديد الالتزام ونشيط يعمل بلا كلل، ولا يشرب الكحول إطلاقاً. وأكثر من ذلك، يقول عنه عارفوه، إنه جدّي جدً يفتقر إلى روح النكتة والدعابة، ومواظب على التمارين الرياضية يومياً للمحافظة على لياقته البدنية والذهنية، ويصحو باكراً في الساعة الخامسة صباحاً.
ثم أنه، بعكس عدد من الساسة المحافظين اليابانيين، لم يعتمد يوشيهيدي سوغا على شبكة علاقات عائلية في مسيرته. غير أنه بعد التخرّج انجذب إلى السياسة، والتحق بصفوف الحزب الديمقراطي الحر، وبدأ تسلق السلّم درجة درجة في «الغرف الخلفية». وكانت البداية عمله في الحملات الانتخابية للمجلس الأعلى للبرلمان. ثم عمل سكرتيراً لعضو البرلمان هيكوسابورو أوكونغي، لمدة 11 سنة. استقال على الأثر، في أكتوبر (تشرين الأول) 1986، وشق طريقه السياسية. وحقاً، في أبريل (نيسان) عام 1987، انتخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة يوكوهاما، ثاني كبرى مدن اليابان، وتعلم، ثم أتقن بذكائه وغريزته السياسية الفطرية، فن تنظيم الحملات الانتخابية الشعبوية، ومخاطبة الجموع في الشوارع والساحات.

المسيرة البرلمانية والوزارية

بعد تسع سنوات، أي عام 1996 دخل سوغا البرلمان لأول مرة ممثلاً الدائرة الانتخابية الثانية في محافظة كاناغاوا، التي تضم مدينة يوكوهاما (عاصمة المحافظة) وتقع مباشرة إلى الجنوب من طوكيو. وهي الدائرة التي لا يزال يمثلها حتى اليوم، في أعقاب فوزه في انتخابات الأعوام 2000 و2003 و2005 و2009، وحتى الآن. غير أن سوغا، خلال 3 سنوات فقط من وجوده في البرلمان، في خطوة غير مسبوقة من سياسي طري العود، نقل ولاءه من زعيم كتلته البرلمانية رئيس الوزراء (السابق) كيزو أوبوتشي إلى كتلة الأمين العام السابق للحزب سيروكو كاجياما.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، خطا سوغا خطواته الأولى في عالم الحكومات عندما عيّن نائباً لوزير الداخلية في خكومة جونيتشيرو كويزومي. وفي العام التالي، وتحديداً في سبتمبر (أيلول) عام 2006، أسند إليه رئيس الوزراء الجديد (يومذاك) شينزو آبي منصب وزير الداخلية والاتصالات وخصخصة البريد، وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، أضيفت لحقائبه الوزارية حقيبة الإصلاح اللامركزي حتى 2007.
انتخابات 2009، بالذات، كانت مفصلاً مهماً بالنسبة لسوغا؛ إذ احتفظ بمقعده بخلاف عدد لا بأس من رفاقه، عندما شهدت اليابان موجة تأييد غير مسبوق لحزب اليابان الديمقراطي المعارض. ثم في أكتوبر 2011 عيّن سوغا رئيساً لمقر القيادة والتنظيم في الحزب الديمقراطي الحر، وكان دور سوغا محورياً إبان سنوات المعارضة في مساعدة شينزو آبي على استعادة قيادة الحزب الديمقراطي، وكانت مكافأته أن أسند إليه آبي في العام التالي 2012 منصب الأمين العام التنفيذي لمجلس الوزراء.
في هذا المنصب الحساس تنظيمياً والعظيم النفوذ، عُرف عن سوغا الحزم والفاعلية، والصرامة في التعامل مع الجهاز الحكومي والإعلام. وثمة مراقبون جيدو الاطلاع على دهاليز السياسة اليابانية، أن تساعد خبرة سوغا الإدارية الكبيرة في ضمان الاستمرار والسلاسة في العمل الحكومي خلال الفترة المقبلة وصولاً إلى موعد الانتخابات العامة المقبلة عام 2021. وحول هذا الجانب نقلت هيئة الإذاعة البريطاني (بي بي سي) عن البروفسور كويتشي ناكانو، أستاذ العلم السياسية وعميد جامعة سوفيا في العاصمة اليابانية طوكيو قوله إن «شينزو آبي وقادة الحزب (الحاكم) الآخرين أيدوا سوغا وانضموا إلى حملته، خصوصاً، لأنه يشكل الضمانة الأكبر للاستمرارية، وهو الأقدر على مواصلة مسيرة آبي في غياب آبي».
وبالفعل، مع أن كثيرين يعتقدون أن سوغا يفتقر إلى الدفء والديناميكية، فإنه معروف ومقدّر جداً لنجاعته وحذقه وتفكيره العملي. ثم، أنه كان ولا يزال شديد الولاء لآبي وجناحه السياسي الحزبي، وبالتالي، لا يتوقع أن يُحدث أي تغيير جوهري في سياسات سلفه قبل

«كوفيد – 19» والاقتصاد

انتخابات العام المقبل، وبالأخص سياسات آبي الاقتصادية التي تحرص على تنشيط الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصادات العالم، والتي يعد يوشيهيدي سوغا من كبار المؤمنين والملتزمين بها.
في المقابل، ثمة من يشير إلى أنه قد لا يقود الحزب والحكومة لفترة طويلة، إذا فرضت التطورات ديناميكيات جديدة تحتاج إلى وجه جديد أكثر وأوسع جاذبية. والحقيقة، أن جائحة «كوفيد – 19» هزّت الاقتصاد الياباني كما هزّت كل اقتصادات العالم. ومن ثم، ما عاد ممكناً الاكتفاء بالنظريات والممارسات المألوفة، وهذا، بلا شك، تحد كبير لرئيس الوزراء الجديد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن سوغا، تعهد أخيرا بتوسيع قاعدة فحوص فيروس «كوفيد – 19»، وتأمين لقاحات ضده في النصف الأول من العام المقبل. كذلك تعهد برفع الحد الأدنى للأجور، والدفع قدماً بإصلاحات القطاع الزراعي، ودعم قطاع السياحة.
على صعيد آخر، يتوقع المراقبون، أن يواصل سوغا، ذو الخبرة المحدودة نسبياً في مجال السياسة الخارجية، السير على خطى سلفه. وهو ما يعني أن تكون في قمة أولويته تمتين التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع الاحتفاظ بسياسة مستقرة مع الجار: الآسيوي العملاق... الصين.
غير أن التحدي الاقتصادي يبقى التحدي الأساسي قبل انتخابات العام المقبل. ومما لا شك فيه أن المرحلة الانتقالية التي يقود فيها سوغا اليابان تأتي في حقبة اقتصادية صعبة. إذ أدت الجائحة – كما سبقت الإشارة – إلى ركود حاد غير مسبوق. والخطوات التي اتبعها الرئيس السابق آبي ما كانت بعد قد آتت أكلها عندما ضربت الجائحة اليابان، ثم، أن الجائحة أتت بعد سنوات من بطء النمو والكساد.
في الجوانب الأخرى، تركت الحكومة السابقة للحكومة الجديدة أموراً أخرى معلقة، مثل خطط الإصلاح الدستوري في مرحلة ما بعد مرحلة اللاعسكرة – التي تلت هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية. ويذكر في هذا السياق، أن آبي كان راغباً في تعديل الدستور من أجل إعادة تنشيط القوات المسلحة، المعروفة رسمياً باسم «قوة الدفاع عن النفس»، والممنوعة من المشاركة في أي عمليات أو مهام عسكرية دولية.
هناك سياسات، إذن، تحتاج إلى عامل الاستمرارية، ولكن توجد تحديات يعتقد على نطاق واسع أنها تحتاج إلى إعادة نظر. وهنا يطرح السؤال: ماذا يمكن أن يحصل بين الآن وسبتمبر 2021 موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
بل يُطرح سؤال آخر أيضاً... هو، هل تحفّز الحملة الانتخابية الموعودة على استعاضة الحزب الديمقراطي الحر عن التخلي عن نهج الاستمرارية والبدء بالإعداد لبداية جديدة تحت قيادة جديدة قد تكون فرصتها أكبر بقيادة الحزب للفوز؟
بالنسبة للسؤال الثاني، كان سوغا ضد فكرة انتخابات مبكرة تسبق السيطرة على الجائحة، غير أن هناك شائعات لا تستبعد إجراء مثل هذه الانتخابات، بل هناك من يقول إنه قد تجرى خلال فترة قريبة جداً تقطع الطريق كسب الحزب الديمقراطي الدستوري المعارض زخماً بعد إعادة تنظيمه، قد يهدد معه الحزب الحاكم.
ولكن، حتى إذا أجريت انتخابات العام المقبل في موعدها (مجلس النواب في سبتمبر والمجلس الأعلى في أكتوبر)، قد لا تكون رئاسة سوغا أكثر من فترة انتقالية. وهذا يعني انتخابات أخرى لزعامة الحزب، علماً بأن أنظمة الحزب تفرض انتخابات زعامة كل ثلاث سنوات، وهي ستكون هذه المرة مفتوحة أمام كل أعضاء الحزب؛ ما يعزز فرصة منافسه بالأمس شيغيرو إيشيبا، القوي شعبياً، وأيضاً قد هناك فرصة لفوز وزير الدفاع السابق تارو كونو.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.