تركيا تنفي التراجع شرق المتوسط... وتعرض الحوار مع اليونان

سفينة التنقيب التركية ترسو قبالة سواحل أنطاليا بعد عودتها من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان (أ.ب)
سفينة التنقيب التركية ترسو قبالة سواحل أنطاليا بعد عودتها من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان (أ.ب)
TT

تركيا تنفي التراجع شرق المتوسط... وتعرض الحوار مع اليونان

سفينة التنقيب التركية ترسو قبالة سواحل أنطاليا بعد عودتها من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان (أ.ب)
سفينة التنقيب التركية ترسو قبالة سواحل أنطاليا بعد عودتها من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان (أ.ب)

أبدت تركيا استعدادها للحوار مع اليونان بشأن التوتر في شرق المتوسط، قائلة إنها لا تتوقع عقوبات من الاتحاد الأوروبي، لكنها لا تستبعدها، فيما أكدت أن سحب سفينة البحث «أوروتش رئيس» من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان إلى المياه التركية لا يعني تراجعاً عن الاستمرار في التنقيب عن الغاز.
وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن تركيا لا تتوقع أن يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليها بسبب نزاعها مع اليونان حول مطالبات البلدين بأحقيتهما في أجزاء من منطقة شرق البحر المتوسط. وأكد في مقابلة تلفزيونية، أمس، أن أنقرة «مستعدة لخوض محادثات من دون شروط مسبقة».
وأعلن الاتحاد الأوروبي دعمه لليونان وقبرص في نزاعهما مع تركيا، ولوّح بفرض عقوبات على أنقرة بسبب أنشطتها «غير القانونية» في شرق المتوسط. واستضاف حلف شمال الأطلسي «ناتو»، الأسبوع الماضي، محادثات فنية بين وفدين عسكريين تركي ويوناني في مبادرة لإنهاء التوتر بين البلدين العضوين.
ولفت جاويش أوغلو إلى أن بلاده لم تتراجع عن أعمال التنقيب في شرق المتوسط وأن السفينة «أوروتش رئيس» عادت إلى ميناء أنطاليا (جنوب تركيا) «لدواعي الصيانة»، رداً على تصريح لرئيسة اليونان كاترينا ساكيلاروبولو وصفت فيه عودة السفينة بأنه «تراجع تركي في المنطقة». وأضاف: «لم نعلن إخطار نافتكس (ملاحة) جديداً، لأن السفينة رست في ميناء أنطاليا للصيانة، فلا معنى لإعلان نافتكس والسفينة في الصيانة. وعند الانتهاء من الصيانة تبدأ السفينة بأعمال البحث في حقل جديد، وعندها سنعلن إخطار نافتكس».
وأوضح أن تركيا واليونان جارتين «يمكنهما إجراء لقاءات مباشرة»، لافتاً إلى أن تركيا «ستفرض شروطاً مسبقة في حال وضعت أثينا شروطاً مسبقة للحوار». واعتبر تصريح رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس، الأحد، الذي لمح فيه إلى إمكانية الحوار في حال لم تحدث استفزازات «إيجابياً». لكنه قال: «لا نقبل بأي شروط مسبقة... التوتر القائم في شرق المتوسط لن ينتهي في حال لم تحترم اليونان حدود الجرف القاري التركي».
وكانت أثينا رحبت بخطوة تركيا سحب سفينتها التي جاءت على عكس التصريحات النارية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، السبت. ويعتقد مراقبون أن إظهار الاصطفاف الأوروبي - الأميركي خلف اليونان وقبرص كشف ضعف الموقف التركي. وأجرى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مباحثات في قبرص، السبت، بدت رسالة لأنقرة بالتراجع عن خطواتها التصعيدية في شرق المتوسط. وقال جاويش أوغلو إن تخلي قبرص عن «تهميش القبارصة الأتراك» هو «شرطنا الأساسي لحل الأزمة، وإذا وضعت اليونان شروطاً مسبقة للتفاوض، فعليها أن تقبل بشروط تركيا أيضاً. أثينا تطالب أنقرة بوقف كامل فعالياتها شرطاً لبدء الحوار، وهذا الشرط لا يمكن قبوله».
ووصف وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز، أمس، عودة سفينة «أوروتش رئيس» إلى الساحل التركي بأنها «نشاط روتيني يتم شهرياً لإجراء الصيانة وتبديل الموظفين والاستعداد للمهام اللاحقة»، مؤكداً أن «السفينة ستواصل عملها بعد تلك الإجراءات».
وقال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، أول من أمس، إن سحب «أوروتش رئيس» جاء «بعد انتهاء مهامها، ولا يعني التراجع عن حقوقنا هناك»، مشيراً إلى أن بلاده «ستنفذ تحركات أخرى في المنطقة وفقاً للخطة المرسومة، ولن نتراجع عن حقوقنا في شرق المتوسط».
وقبل ذلك، قالت صحيفة «يني شفق» القريبة من حكومة إردوغان، إن مهمة السفينة كانت مقررة أن تستمر حتى 25 سبتمبر (أيلول)، ولمحت إلى أن سحبها جاء لإفساح المجال للمحادثات التي بدأها «الناتو» بين أنقرة وأثينا.
وعن تلويح الاتحاد الأوروبي بالعقوبات ضد تركيا، قال جاويش أوغلو إنه لا يتوقع صدور عقوبات ضد بلاده من قمة زعماء الاتحاد الأوروبي في 24 سبتمبر، لكن تركيا لا تستبعد ذلك أيضاً. وأوضح أن «الاتحاد فرض عقوبات على تركيا في الماضي، وتلك العقوبات لم تدفع تركيا للتراجع عن مواقفها الصارمة... هناك دول كثيرة داخل الاتحاد الأوروبي لا ترغب في فرض عقوبات على تركيا. أي قرار يتعلق بفرض العقوبات يشترط أن يكون بالإجماع».
واعتبر أن الاتحاد الأوروبي «لن يغامر بعلاقاته مع تركيا»، معتبراً أن أوروبا «بحاجة لتركيا في كثير من القضايا الاستراتيجية... هناك احتمال صدور عقوبات بحق أشخاص أو شركات أو سفن تركية. لكن تلك العقوبات المحتملة لن تثني تركيا عن طريقها». واتهم فرنسا بالسعي إلى زعامة الاتحاد الأوروبي.
وعن تعبير وزير الخارجية الأميركي عن قلق بلاده البالغ من فعاليات تركيا في شرق المتوسط، قال جاويش أوغلو: «عندما تكون فعاليات تركيا مخالفة للقوانين الدولية، حينها يجب أن يقلقوا... الخطوات التي تقوم بها الولايات المتحدة (رفع حظر السلاح عن قبرص) هي التي تبعث القلق وتخالف القوانين والاتفاقيات الدولية». في السياق ذاته، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أكصوي إن الاتفاق بين الولايات المتحدة وقبرص لبناء مركز تدريب إقليمي جديد لأمن الحدود في الجزيرة «لن يسهم في السلام والاستقرار في شرق البحر المتوسط».
كان بومبيو قد وقّع خلال زيارته لقبرص، السبت، مذكرة تفاهم بشأن زيادة التعاون في القضايا الأمنية والعسكرية بين الجانبين. ووفقاً للمذكرة الأميركية - القبرصية، سيتم إنشاء مركز في مدينة لارنكا لعمليات التدريب في مجال معالجة وتخزين المواد الكيميائية والبيولوجية الخطرة، وضمان أمن الموانئ البحرية، فضلاً عن الأمن الإلكتروني وأمور دفاعية أخرى.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟