أورويل في كوبا

كيف تُرجِمت رواية «1984» بعد غروب كاسترو؟

فيدل كاسترو
فيدل كاسترو
TT

أورويل في كوبا

فيدل كاسترو
فيدل كاسترو

كان قيامي ببحث حول كوبا، أنا الكندية المقيمة في نيويورك، تجربة مربكة. حين أصف شغلي، يشعر معظم الناس بالدهشة، بالاستغراب، وحتى بالحسد: هل ذهبتِ إلى هناك فعلاً؟ أحياناً تبدو الآراء منقسمة انقسامها حول أي جدال إسرائيلي - فلسطيني. في ألبرتا، قلب كندا المحافظ (كما يوصف)، تقابَل دراستي باللامبالاة. حين خططت لرحلتي الأولى إلى هافانا، علق أحد الأصدقاء: «يمكنك الذهاب حين تكونين في الستين. الآن، لم لا تجربي مكاناً أكثر متعة، مثل الأرجنتين؟».
ردود فعل كتلك كانت تذكيراً مستمراً بأن كوبا تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين في أماكن مختلفة، وهي أيضاً نتائج مباشرة لسياسات خارجية مختلفة.
جاء فيديل كاسترو ومجموعته من المحاربين إلى السلطة عام 1959. وبدأت الولايات المتحدة حملتها لتغيير النظام هناك منذ 1960، حين ولدت المقاطعة الشهيرة. وتمنع واشنطن معظم مواطنيها من زيارة كوبا؛ حتى الإصلاحات التي أجراها باراك أوباما عام 2016 لم تسمح بسياحة غير مقيدة. في تلك الأثناء، كانت كندا تقريباً الدولة الوحيدة في القارة الأميركية التي احتفظت بعلاقات دبلوماسية واقتصادية ثابتة مع الجزيرة على مدى الستين عاماً الماضية (المكسيك هي الدولة الأخرى). في السنة الواحدة، يقوم الكنديون عادة بنحو مليون زيارة، معظمها في منتجعات الشواطئ. في مخيلتنا الشعبية، كوبا «فاكهة محرمة» بدرجة أقل، و«كانكون بسيارات قديمة وطعام سيء» بدرجة أكبر.
في كتاب فريدرك لافوا «أورويل في كوبا»، لا توجد شواطئ. لكن ذلك الصحافي من كيبيك يرسم إطاراً مختلفاً آخر: كوبا من حيث هي بقايا شيوعية متهدمة محاصرة بين الماضي والمستقبل. يقدم هذا الكتاب نفسه بصفته كبسولة زمنية، بعنوانه الأصلي معبراً عن الإحساس الحاد بحالة تعلق زمني: «Avant l’après» التي تعني حرفياً «قبل البَعد». بعد أن فاز بجائزة الحاكم العام عام 2018 للكتب غير الروائية، ترجم الآن إلى الإنجليزية على يد دونالد ونكلر.
كان لدى لافوا كل الأسباب التي تقنعه بأن كوبا كانت على شفا نقلة كبيرة حين زارها 3 مرات بين فبراير (شباط) 2016 وفبراير (شباط) 2017. زيارته الأولى سبقت وصول أوباما إلى هافانا بقليل؛ الزيارة التي مثلت نقلة دراماتيكية في علاقة الولايات المتحدة بكوبا على مدى خمسين عاماً. هاجم الرئيس المقاطعة، وبدا أن التحرك نحو المصالحة غير قابل للإيقاف (ملاحظة لافوا بأنه «مهما يكن الرئيس الذي سيخلف أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني)، تبدو العودة إلى الماضي غير محتملة بشكل متزايد» تحمل الآن إيحاءات مأساوية). حين جاءت زيارة المؤلف الأخيرة، كان دونالد ترمب قد نُصب رئيساً وفيديل كاسترو قد مات عن تسعين عاماً. لم يلغ ترمب (حتى الآن) إصلاحات أوباما، لكنه خفضها بشكل حاد، ولم يعد إنهاء المقاطعة متوقعاً في القريب. في تلك الأثناء، كانت وفاة كاسترو عام 2016 ذات تأثير محدود على سير العمل في دولة كان يديرها أخو كاسترو (راؤول) على مدى عشر سنوات، ولم تؤدِّ إلى ما تمناه بعضهم من أزمة في الشرعية. العام الماضي، تنازل راؤول عن الرئاسة لميغيل دياز - كانيل، وهو بيروقراطي من جيل أصغر، بينما ظل هو على رأس الحزب الشيوعي. مرة أخرى، التغير الضخم لم يحدث. ربما أن الـ«بعد» ما يزال بعيداً إلى حد ما.
أحد أسباب زيار لافوا للجزيرة سعيه لحل مسألة غامضة. في عام 2016، أعلنت دار نشر كوبية أنها ستشرع في ترجمة جديدة لرواية جورج أورويل «1984» في معرض هافانا الدولي للكتاب. كان الاختيار محيراً؛ دولة حزب واحد بتاريخ طويل من الرقابة، كانت لا تفعل أكثر من مجرد السماح بنشر نقد كلاسيكي للتوتاليتارية، تنتجه على نطاق واسع وتشجعه في مناسبة كبرى. هل كان هذا مؤشراً على مدى التغير، أم أنه محاولة ساخرة تجعل كوبا تبدو كما لو كانت أكثر ليبرالية مما هي، أم أن ذلك كان مجرد أمل للناشر بأن يكون لديه عمل رائج، لا سيما أن الحكومة كانت تقترب من إصلاحات تنحو باتجاه اقتصاد السوق، وليس لديها الوقت للتفكير بالنقاء الآيديولوجي؟ أسئلة كتلك، وكذلك القراءة المكثفة لأعمال أورويل، تهيمن على كتاب لافوا.
«أورويل في كوبا» كتاب معني بظلال الدلالات، آسر من حيث هو تحقيق في الكيفية التي تؤثر فيها الرقابة على الأدب. التحدي الرئيس في مواجهة الرقابة الكوبية هو في غموضها؛ إلقاء القبض بشكل واضح على الفنانَين إل سيكستو وتانيا بروغويرا حالة استثنائية في عملية تتسم غالباً بالسرية. لا توجد قائمة رسمية بالكتب الممنوعة، مثلاً: العناوين غير المرغوب بها لا توزع ببساطة. مع أن كل المطابع جرى تأميمها في الستينيات، تظل آليات صنع القرار غامضة. يسعى الأفراد إلى توسيع هامش المسموح به بتقديم طلب يتضمن مقترحات بطبعات جديدة لمواد يفترض أنها غير مسموح بها. الخط الأحمر الوحيد هو التهجم الواضح بالاسم على الأخوين كاسترو. وحتى في تلك الحالات، تختلف القواعد بالنسبة للأجانب، ويستطيع لافوا أن يعبر الخط دون أن يكون لذلك سوى القليل من النتائج.
في محاولته للكشف عن خفايا نشر «1984»، يواجه لافوا باستمرار هذه الحالات الرمادية. ربما أن بعض من يحاورهم يكذبون. الأكثرية ليس لديهم سوى فكرة محدودة حول ما يجري. أحياناً، يكون حتى هو في حالة من الارتياب الشديد -يفترض وجود حالات من المقاومة حين لا يكون شيء من ذلك مقصوداً، أو يستغرب حين ينتقد النظام بعض مرافقيه بشكل معلن. وبالفعل، فإنه من المعتاد أن يناقش دارسو الأدب في كوبا ويهاجمون الرقابة في أثناء السبعينيات، بعد أن أعيد الاعتبار بعد ذلك لكثير من الكتاب الذين كانوا ممنوعين في تلك الفترة. لكن الغموض المستمر حيال ما هو مسموح به حالياً هو أيضاً جزء من الطريقة التي تعمل بها الرقابة. يخفف الناس من حدة مواقفهم، في محاولة لتفادي اجتياز حدود باهتة، الأمر الذي يجعل من النادر أن يضطر النظام لفرض تلك الحدود.
سيكون من الإهمال في مناقشة كتاب يتمحور حول الترجمة، ويبرز إلى حد كبير مترجمين كوبيين، ألا تكون الترجمة موضوعاً للنقاش. المترجم دونالد ونكلر حصل على ثلاث من جوائز حاكمه العام، ومعالجته لكتاب «أورويل في كوبا» معبرة باستمرار، حاملة نغمة مثقفة ميسورة للقارئ في الوقت نفسه. لديه الفرصة ليظهر لمساته حين يقطع لافوا صيغة الريبورتاج، ليضمن الكتاب مسرحية هجائية مصغرة وقصيدة طويلة. لكن الأسلوب في الغالب يظل مع ذلك مباشراً بشكل مقصود، بليغاً لكن ليس إلى درجة الاستعراض؛ يتذكر المرء الخطوط العامة التي رسمها أورويل نفسه في مقالته «السياسة واللغة الإنجليزية».
أحياناً، يبالغ لافوا في اعتماده على أورويل، حين يوحي بأن الرقابة دليل قاطع على وجود الأشكال الأخرى من قمع الدولة. مقارناته تدعونا لتخيل فيديل وراؤول كاسترو من حيث هم قادة لأوقيانوس في العالم الحقيقي يستهدون في إدارة جهاز توتاليتاري بـ«أخ أكبر». ما يتضمنه ذلك هو أن أي دولة تسعى للسيطرة على مصادر المعلومات، للحد من تعدد الرؤى حول الحاضر والماضي، لا بد أن لديها جرائم أخرى تخفيها. هذا التأطير يخفي ملمحاً رئيساً لكوبا بين الديكتاتوريات الشيوعية في القرن العشرين: انخفاض عدد الجثث فيها. الملايين التي هلكت في أرخبيلات ستالين، والمجاعات الجماعية في «القفزة الصينية إلى الأمام»، والتطهير الذي صاحب الثورة الثقافية، وحقول القتل التي مارسها الخمير الحمر -هذه الأمثلة من سفك الدماء لا يكاد يشبهها شيء على الجزيرة. تاريخياً، الغالبية العظمى من معارضي كاسترو جرى ترحيلهم إلى الولايات المتحدة، بدلاً من تصفيتهم. «منظمة العفو الدولية» ذكرت 120 سجيناً سياسياً في كوبا عام 2018، وهو رقم كبير مقارنة بسجون خالية، وأقل بكثير مما يفترضه كثيرون. في رواية أورويل «1984»، يُعذب البطل. في كتاب لافوا، الوصف المؤلم الوحيد حقيقة لعنف الدولة يعود إلى أوائل الستينيات.
من نواحٍ أخرى، يسعى لافوا جاهداً إلى تحقيق التوازن، متفادياً الشجب الشامل مستكشفاً التناقضات لدى بعض الكوبيين المقيمين في ميامي الذين أجرى لقاءات معهم. أجد ما يغريني بعزو هذا الموقف إلى الحياد الكندي، لكنه كما يتضح أكثر نتيجة لعمله الصحافي في الاتحاد السوفياتي السابق. هناك، شاهد نتائج الانتقال «الفاشل» للرأسمالية الذي أفاد القليل من الأوليغاركيين وفتت الحماية الاجتماعية. يأمل لافوا أن تتفادى كوبا هذا المصير، وأن تتحرك بدلاً من ذلك إلى شكل من الديمقراطية الاجتماعية. إنه يكرس مساحة كبيرة للتناقضات في النظام الاقتصادي للجزيرة، حيث تتجاور عملتان، والأطباء الذين تدفع لهم الدولة يحصلون على مداخيل أقل بكثير مما يحصل عليه سقاة البارات إذ يجمعون الإكراميات من السياح.
فوق ذلك كله، يسعى لافوا إلى تفادي مصيدة النظرة الرومانسية إلى البلد، وإنتاج دعاية حكومية في أثناء ذلك دون أن ينتبه. يتضح هذا بشكل خاص في تصويره جان - غي ألار، وهو صحافي متقاعد من كيبيك انتقل للعيش في هافانا، ووجد نفسه محل حفاوة لأنه كتب ما يعجب الحكومة. يصور لافوا ألار بصفته «أحمقاً مفيداً» في القرن الحادي والعشرين، عبارة سبق استعمالها لوصف جان بول سارتر، وهو معجب آخر من معجبي كوبا.
كانت صحة ألار تسوء حين لقيه لافوا لأول مرة، ووفاته بعد ذلك تصبح رمزية تقريباً -مؤشراً إلى أن النظر إلى الثورة الكوبية نصر مذهل لستينيات القرن الماضي لم يعد ممكناً.لكن ثمة وجهاً آخر لتناول لافوا لكوبا مدفوناً في هذه الصفحات. بعد أن يقدم قراءة تحريضية في معرض هافانا الدولي للكتاب، يتحدث إلى الجمهور كاتب لم يُسمَّ من بورتوريكو، قائلاً: على لافوا أن يأخذ في الاعتبار «التوتاليتارية الرأسمالية» لكي يفهم الوضع في كوبا وبقية أميركا اللاتينية. استناداً إلى خلفية ألار، يمكن بسهولة عدم الالتفات إلى الكاتب غير المعروف على أنه أحمق مفيد آخر، لكن التعليق تذكير أيضاً بأن إطارنا المرجعي يحدد الأسئلة التي نطرح.
ضمن أميركا اللاتينية، حققت كوبا شرعيتها منذ أمد طويل ليس على أساس الشيوعية، وإنما على أساس معاداة الإمبريالية. وجوه الشبه بينها وبين الاتحاد السوفياتي كانت أقل أهمية من وجوه اختلافها عن الديكتاتوريات العسكرية المؤيدة للرأسمالية في المنطقة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي كانت تحصل باستمرار على الدعم الأميركي. في هذه الأثناء، كان المحللون الكاريبيون والأفارقة الأميركيون غالباً ما يحللون كوبا من حيث هي اقتصاد زراعي سابق، متسائلين عن الكيفية التي واجهت بها ثورة 1959 الآثار المتبقية من العبودية واللامساواة العرقية.
لكن ليس لدى لافوا الكثير مما يقوله عن العرق، وهو موضوع بارز في زيارة أوباما، أو عن تاريخ التدخل الأميركي في الأميركتين. إطاره المرجعي يظل شمال أطلسي بشكل راسخ؛ إنه يسافر مع جورج أورويل، الإنجليزي في نهاية المطاف.
إن هذا ليس نقداً بقدر ما هو تذكير بالطرق الكثيرة التي ما تزال فيها كوبا «تُكسَب المعنى» بالنسبة للزوار. تعلَّقَ ألار بالثورة الرومانسية، حيث يرى معظم الكنديين بقعة عادية لقضاء الإجازة. أما لافوا، فرأى فرصة لتفادي الاستسلام الكارثي في شرق أوروبا للرأسمالية، حيث يبحث آخرون عن معركة ضد العنصرية أو التخلف. وماذا عن الكوبيين أنفسهم؟ مما يحسب للافوا أنه يختم كتابه بوضع المستقبل -والأمل المتردد بأن يكون مستقبلاً أفضل- في أيديهم.

- المصدر: «ليتراري ريفيو أوف كندا» (يوليو (تموز) / أغسطس (آب) 2020)



«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
TT

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام. صارا صديقين، لا بل رفيقين، جمعتهما المقاهي والجلسات الشعرية والعائلية. وفي منزل سعادة، في بلدة شبطين اللبنانية، كتب بولص واحدة من أجمل قصائده «آلام بودلير وصلتْ». لكن بولص سيغادر إلى الولايات المتحدة عام 1971، وتصبح الرسائل هي صلة الوصل الوحيدة بين الصديقين، إضافة إلى تلك اللقاءات العابرة، التي سيكون آخرها في «مهرجان لوديف» في فرنسا عام 2007؛ أي قبل أن يرحل بولص عن عالمنا بنحو شهر واحد.

الرسائل التي تبادلها الشاعران، بقيت طي الأدراج إلى أن أفرج وديع سعادة عما في حوزته منها، إضافة إلى بعض ما كتب إلى بولص وعنه، وصدرت مؤخراً عن «دار نلسن» في بيروت، في كتاب يحمل عنوان «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة». هي في أغلبها تلك الرسائل التي كتبها بولص بعد وصوله إلى الولايات المتحدة، مباشرة، ولا يزال قلبه معلقاً بأصدقائه الذين تركهم خلفه. في هذه الرسائل يسأل بولص عن الأصدقاء، يذكرهم واحداً واحداً، ويطلب من سعادة أن ينقل إليهم تحياته: «إلى أدونيس وجاد الحاج ورياض فاخوري وجان دمو والأب يوسف وخليل الخوري ودلال ونهى»؛ ذلك أنه «كلُّ تذكُّرٍ، مطهّر. الأصدقاء البعيدون ليسوا أشباحاً أبداً. بعض القريبين هنا، أشباح».

إنها الغربة التي تتأكّل الشاعر وتشعره بالألم. يتمسك بالشعر لعل به يكون الخلاص، وهو بالفعل كذلك؛ لقد «ساعد الشعر على إنقاذي كثيراً. منذ أن وطئت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل». وتزيد من غربته اللغة، وصعوبة العثور على كتب ليصبح مستعداً «أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر، فأنا أقرأ ليل نهار هذه اللغة اللاشعرية، بفضائلها التي لا تمسّني إطلاقاً: لغة البرد والأعصاب».

الكتاب يضم في أغلبه رسائل بولص، في حين أن رسائل سعادة بقيت في يد من يمتلكون أرشيف الشاعر العراقي، ولا ندري إن كنا سنصل إليها، وعوضاً عنها نجد في المؤلّف تلك القصائد التي كتبها سعادة لصديقه، إضافة إلى مرثيتين كتبهما فيه بعد وفاته، ونبذة عن حياة الشاعرين، وصوراً تجمعهما.

يكتب وديع سعادة أن «العلاقة المتينة بيني وبين سركون بولص لم تكن علاقة صداقة، بل علاقة شعرية عميقة في فهمنا المشترك للشعر، بما هو ليس عملية كتابية فحسب، بل أسلوب حياة أيضاً. لم يكن سركون شاعراً فقط في الكتابة، بل كذلك في أسلوب حياته. لم يكتب الشعر فحسب، بل عاشه أيضاً».

ويصف الناشر سليمان بختي الكتاب بأنه «قطعة من حياة ربطت شاعرين... ولربما آخر ما تصفّى من أدب التراسل على الورق بين الشعراء والأدباء».

ويعتبر بختي في مقدمته أن الشاعرين من أركان جيل ما بعد مجلة «شعر» وروادها الذين غيّروا وجه الشعر العربي الحديث وأسّسوا قصيدة النثر. وهما من الجيل الذي رسّخ قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث. و«من خلال رسائل سركون بولص (1944-2007) إلى وديع، أو من خلال الكلمات والقصائد التي كتبها وديع سعادة مهداة إليه، أو في وداعه ورثائه، نلمس مبلغ عمق الصداقة والهم الواحد والنظرة المشتركة إلى الوجود والحياة والشعر». ويشيد بختي بتلك الشفافية الجارحة والنبرة العالية، فيما يخطه بولص لصديقه.

واحدة من المسائل اللافتة التي عادة ما يعود إليها بولص في رسائله هي دور المثقف، واستقلاليته، وصدقه. يكتب لصديقه غاضباً، بعبارات متمردة: «لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج، أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو بوذا أو الشيطان... ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن (معرفة النفس) وباقي الخرق الثقافية الأخرى».

تدهشك هذه النزعة الطوباوية الأخاذة، وهو يريد للمثقف ألا يكون شيئاً آخر غير «أناه» المطهّرة من كل ما حولها، راغباً في التخفف من الأحمال. يكتب في إحدى رسائله عن غضب لا يستطيع أن يقاومه، حين تخطر له «جميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك». ويعتبر أن «الثقافة» هي «حلم يتغذّى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون (مسائل العصر) بجبين مقطب». أما الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة في رأيه فهو «أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الإنسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة (أناك) المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة».

أي سخط حمله هذا الشاعر؟ وأي عبثية؟ وأي شعور عميق بالمسؤولية؟ يذكرنا ما كتبه بولص حول دور المثقف، بتلك المُثل ونبل المبادئ التي سادت في سبعينات القرن الماضي؛ إذ يقول عن واجب الكاتب تجاه نفسه أولاً، بحثاً عن النور: «علينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع، وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن». شيء من الصوفية، وكثير من الغضب، والرغبة في التغيير، والانقلاب على الذات.

ومن جميل ما نقرأه في الرسائل هو حديثه عن مشاريعه الأدبية، وكثير منها لا أثر لها؛ رواية يكتبها بعنوان «صحراء العالم»، وتحضيره لدراسة عن الرواية الحديثة، ومجموعة من القصص، ورسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر في مجلة «مواقف»، ومجموعة شعرية بالإنجليزية.

في الجزء الثاني من الكتاب، عوضاً عن رسائل وديع الضائعة، نقرأ قصائده في صديقه سركون، يقول في إحداها:

أعطني رداءك يا سركون

بردتُ

أَدفئني قليلاً بترابك

ويعتبر أن بولص «هو شاعر اللامكان، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، ولبنان، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا...)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع».

ولأن اللغة أصبحت وطنه الافتراضي الوحيد المتبقي؛ فقد «حفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه». ويتحدث سعادة عن العلاقة الحميمة بين سركون بولص وآلام شارل بودلير.

«بودلير الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه، وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً. فمن أوائل قصائده (آلام بودلير وصلتْ). إلا أن باخرة سركون لم تكن في البحر، بل في أحشائه: (هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي)».

إنني مستعد أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر!

سركون

واختار وديع سعادة قصائد مختارة اعتبر أنها تحمل في كلماتها أصداء من حكاية الصداقة التي جمعته ببولص، من بينها قصيدة «رفاق» التي يقول فيها:

لديك ما يكفي من ذكريات

كي يكون معك رفاق على هذا الحجر

اقعدْ

وسَلِّهمْ بالقصص

فهم مثلك شاخوا

وضجرون

قُصَّ عليهم حكاية المسافات

التي مهما مشت

تبقى في مكانها

أخبرْهم عن الجنّ الذي يلتهم أطفال القلب

عن القلب الذي مهما حَبِلَ

يبقى عاقراً

حدِّثْهم عن العشب الذي له عيون

وعن التراب الأعمى

عن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئاً

ولم تقلْ

وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشتاء

كي تدخل وتتدفأ...

وفي قصيدة «غيوم» يكتب وديع سعادة:

في عيونه غيوم

ويحدِّق في الأرض

علَّها تمطر

الكتاب لطيف؛ لأنه يجمع بين شاعرين، لكل منهما فرادته ومزاجه وشطحاته وسورياليته، لكنهما يلتقيان في اعتناقهما الشعر كأسلوب حياة، وليس كرديف أو موازٍ لها. ومع أن الكتاب يبقى ناقصاً تلك الرسائل التي سطّرها وديع في ردّه على سركون، فإن الوقت قد يكون كفيلاً بإظهار الضائع، وإعادة المفقود.